أبو بكر الصديق الداعية المتميز

أبو بكر الصديق الداعية المتميز | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

1486 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

هذا الإنتاج الغزير للصديق رضي الله عنه الذي رأينا دعوته للناس إلى الإسلام (أبو بكر الصديق والدعوة إلى الإسلام) يدعونا للتفكُّر في أسباب النجاح الذي حققَّه؛ فالأمر وإن كان معتمدًا في الأساس على الصدق في القلب، وعلى قوة الإيمان، فإنه ولا شكَّ معتمد كذلك على أسباب معينة أخذ بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعلى منهج معيَّن سار عليه، فما الذي كان يُمَيِّز الصديق عن غيره حتى صار مسئولاً عن نشر الدعوة بهذه الصورة؟

 

ما تميَّز به الصديق رضي الله عنه

تضع رواية ابن اسحاق بعض هذه المفاتيح؛ التي كان يمتلكها الصديق رضي الله عنه؛ قال ابن إسحاق: "كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مَأْلَفًا لِقَوْمِهِ، مُحَبَّبًا سَهْلاً، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِهَا، وَبِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَكَانَ رَجُلاً تَاجِرًا، ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ، وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ وَيَأْلَفُونَهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الأَمْرِ، لِعِلْمِهِ وَتِجَارَتِهِ وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو إلَى اللهِ وَإِلَى الإِسْلاَمِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، مِمَّنْ يَغْشَاهُ وَيَجْلِسُ إلَيْهِ" [1].

 

الكرم والسخاء

أبرزت هذه الكلمات بعض الجوانب الجميلة في حياة الصديق رضي الله عنه، فمع كونه تاجرًا مشهورًا في مكة، وهو من أكثرهم مالاً، فإنه لم يُفْتَن في هذا المجال، ولم يجعل حياته مُسَخَّرة لجمع المال وكنزه، حتى قبل إسلامه؛ فقد كان كريمًا واسع الكرم، وكان معطاءً كثير العطاء، وهذا -لا شكَّ- حبَّبه إلى قلوب الناس جميعًا، الفقراء منهم والأغنياء، وأفراد قبيلته وغيرهم.

 

اللين والرفق

كما أن شخصية الصديق رضي الله عنه كانت تتميَّز باللين والرفق، وهذه أخلاقيات تَحَبِّب صاحبها للناس عامَّة، فهم يستطيبون مجلسه، ويستشيرونه في أمورهم، ويُحَكِّمونه في اختلافاتهم، وهذا جعل له مكانه خاصة في قلوبهم، أو كما تقول الرواية: "محبَّبًا". وهكذا كانت التجارة والمال -على عكس ما يحدث مع كثير من الناس- من الأمور التي سهَّلت على الصديق رضي الله عنه دعوته، وفتحت له قلوب الناس.

 

أعلم الناس بعلم الأنساب

وذكرت الرواية أمرًا آخر من الأمور المهمَّة التي تميَّز بها الصديق رضي الله عنه؛ قال ابن إسحاق: "وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِهَا، وَبِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ". فقد كان الصديق عالمًا بأحد أهمِّ علوم زمانه، وهو علم الأنساب، وكانت الطبقة المثقفة في مكة ترتاد مجلسه للتباحث في هذا العلم، فالصديق رضي الله عنه لم يكن يُعطي ابتسامة فقط، أو مالاً فحسب، إنما كان يُعطي علمًا كذلك، وكان يُعَدُّ أحد المراجع الكبرى في هذا المجال، ولعلَّنا إذا راجعنا هذا الموقف -وهو من مواقف المدينة؛ وقد أتينا به هنا لدلالته- أدركنا قيمة الصديق رضي الله عنه في هذا المجال.
 
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "اهْجُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ". فَأَرْسَلَ إلى ابن رواحة رضي الله عنه فَقَالَ: "اهْجُهُمْ". فَهَجَاهُمْ فَلَمْ يُرْضِ، فَأَرْسَلَ إِلَى كعب بن مالك رضي الله عنه، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حسان بن ثابت رضي الله عنه، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ حَسَّانُ رضي الله عنه: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تُرْسِلُوا إِلَى هَذَا الأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ، ثُمَّ أَدْلَعَ لِسَانَهُ فَجَعَلَ يُحَرِّكُهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَفْرِيَنَّهُمْ بِلِسَانِي فَرْيَ الأَدِيمِ.
 
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَعْجَلْ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا، وَإِنَّ لِي فِيهِمْ نَسَبًا، حَتَّى يُلَخِّصَ لَكَ نَسَبِي". فَأَتَاهُ حَسَّانُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ لَخَّصَ لِي نَسَبَكَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ لِحَسَّانَ رضي الله عنه: "إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لاَ يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ، مَا نَافَحْتَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ". وقالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى [2]" [3].
 
فعِلْمُ الصديقِ رضي الله عنه جعل الناس في احتياج له، ورغبة في مجالسته، فاجتمع له المال، والتجارة، والكرم، والأدب، والعلم، والحكمة؛ فكيف لا يُستجاب لدعوة رجل بهذه الصورة؟ فالأمر إذن لم يأتِ من فراغ، ولم تكن مصادفة أن يستجيب هذا العدد العظيم من عمالقة الإسلام إلى الصديق رضي الله عنه، وإذا كُنَّا نُريد حقًّا أن نُصبح دعاة إلى الله، فلنأخذ بأسباب الصديق رضي الله عنه؛ فقد كان خير الدعاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ماذا نتعلم من قصة الصديق؟

ولعلَّه من المناسب أن نقف مع أنفسنا وقفة بعد رؤية هذا الجهد من الصديق رضي الله عنه؛ خاصة ونحن نعرف الأثر العظيم لهؤلاء الذين أسلموا على يده على مسيرة الدين، ولنسأل أنفسنا: كم فرد جديد أتينا به لهذه الأمة الكريمة؟
 
بل دعوني أقول إنه ليس بالضرورة أن يكون من ندعوهم إلى الله غير مسلمين، وليس بالضرورة أن نأتي برجال أمثال عثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم؛ ولكن هل تحرَّكْنا للدين؟ وهل وصلت دعوتنا إلى المسلمين غير الملتزمين بالإسلام فضلاً عن غير المسلمين؟ وهل حملنا في قلوبنا حميةً لهذا الدين، ورغبة حثيثة في نصرته، وتقوية بنيانه، مثلما رأينا في قصة الصديق رضي الله عنه، أو قريبًا منه؟
 
إن مجالات العمل لله لا تُحصى ولا تُعَدُّ، وأبواب الدعوة لا حصر لها؛ ولكن المهم أن يتولَّد في القلب شعور أننا مسئولون عن هذا الدين، وعندها سيُصبح العمل لله متعة، وليس مجرَّد تكليف.
 
هذا هو الدرس الذي نخرج به من قصة الصديق رضي الله عنه.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. ابن إسحاق: السير والمغازي ص140، وابن هشام: السيرة النبوية، 1/250، وذكر هذه الرواية دون تعليق مجدي فتحي السيد في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، 1/ 321، وذكره في صحيح السيرة النبوية لابن هشام، ص94، والطبري: تاريخ الرسل والملوك، 2/317، وذكر في صحيح الطبري، وعلق المحقق قائلاً: إسناده ضعيف. انظر: صحيح وضعيف تاريخ الطبري 2/22، وانظر: تحليل هذه الروايات عند محمد بن رزق بن طرهوني: صحيح السيرة النبوية، 2/48، وحواشيها رقم (389) 1/395، ورقم (418) 2/311، 312.
  2. فشفى واشتفى: أي شفى المؤمنين، واشتفى هو بما ناله من أعراض الكفار ومزقها ونافح عن الإسلام والمسلمين.
  3. البخاري: كتاب المناقب، باب من أحب أن لا يسب نسبه، (3338)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه، (2490)، واللفظ له.

 

المصدر:

موقع قصة الإسلام

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
مراجعة العلماء | مرابط
اقتباسات وقطوف

مراجعة العلماء


مقتطف هام للعلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني يشير فيه إلى ضرورة مراجعة العلماء لبعضهم خصوصا لو وقع أحدهم في خطأ ما بدلا من التشنيع عليه مباشرة دون مذاكرته أو مراجعته أو تنبيهه لما بدر منه من خطأ وهذا يحدث كثيرا في عصرنا فقد نأى كل عالم بنفسه وانقطعت حبال التواصل

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
2182
هل الأجر دائما على قدر المشقة؟ | مرابط
اقتباسات وقطوف

هل الأجر دائما على قدر المشقة؟


ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء لا ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله. فأي العملين كان أحسن وصاحبه أطوع وأتبع كان أفضل فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل.

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
296
مراعاة الشريعة لمصلحة الأغنياء في الزكاة | مرابط
تعزيز اليقين

مراعاة الشريعة لمصلحة الأغنياء في الزكاة


من محاسن تشريع الزكاة رعاية نفوس الأغنياء وعدم إضرارهم في أموالهم. فعلى عكس ما قد يظنه البعض أن أحكام الزكاة تراعي حق الفقراء فقط فإن الشريعة توازن بين حقوق المستحقين وحقوق أصحاب المال.

بقلم: أحمد عبد السلام
316
أصل الأخلاق المذمومة | مرابط
اقتباسات وقطوف

أصل الأخلاق المذمومة


أصل الأخلاق المذمومة كلها الكبر والمهانة والدناءة وأصل الأخلاق المحمودة كلها الخشوع وعلو الهمة فالفخر والبطر والأشر والعجب والحسد والبغي والخيلاء والظلم والقسوة والتجبر والإعراض وإباء قبول النصيحة والاستئثار وطلب العلو وحب الجاه والرئاسة وأن يحمد بما لم يفعل وأمثال ذلك كلها ناشئة من الكبر

بقلم: ابن القيم
455
فضيلة شهر شعبان | مرابط
تفريغات

فضيلة شهر شعبان


فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهتم بشهر شعبان ما لا يهتم بغيره ولهذا روى النسائي والإمام أحمد من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله رأيتك تكثر من صيام شعبان أكثر من صيامك شهر رجب فقال: صلى الله عليه وسلم: ذاك شهر بين رجب ورمضان وهو شهر تغفل الناس عنه وهو شهر أحب أن أصوم فيه وهو شهر ترفع فيه الأعمال فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم

بقلم: عبد الله بن ناصر السلمي
335
الدنيا تغيرت الجزء الأول | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

الدنيا تغيرت الجزء الأول


الدنيا تغيرت توظف هذه المقولة للاعتراض على بعض المقررات الشرعية بذريعة أن النصوص الشرعية ثابتة والواقع متغير ولذا لا يمكن أن نجمد على الثابت وقد يسعى بعضهم إلى مقاربة تظهره بمظهر المعظم للشريعة فهو يتحدث عن حجم استجابة الشريعة لمتغيرات الواقع وتقلباته فهي ليست مجرد نصوص جامدة صلبة لا تقبل الزحزحة أو التطوير بل هي تتطور مع تتطور الواقع للتفاعل معه والذي يؤول في الحقيقة إلى جعل الواقع حكما على الوحي وفي المقال فحص لهذه الشبهة ورد عليها

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
1279