الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج1

الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج1 | مرابط

الكاتب: د سلطان العميري

2822 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ليس المراد بالأصول في هذا السياق الأدلة العقلية التي يستند إليها المؤمنون في إثبات وجود الله وكماله، وإنما المراد بها المعاني الكلية التي يتأسس من مجموعها الإيمان الصحيح السالم من النقص والعيب في التصديق بأن الله موجود، وأنه الخالق للكون، المدبر له والمتصرف في شؤونه، والمتصف بصفات الكمال والجلال.
 
والأصول الكلية التي يتأسس عليها الإيمان بوجود الله وكماله متعددة، وأهمها:

 

الأصل الأول: أن الإيمان بالله ضرورة عقلية وفطرية:

 

ومعنى هذا الأصل أن الإيمان بوجود الله وربوبيته للكون ليس مجرد قضية عاطفية، لا تقوم على أسس استدلالية، وليس مجرد تجربة نفسية عرفانية، لا تستند إلى برهان موضوعي، وإنما هو حقيقة معرفية تصديقية، يقينية، تنبع من غريزة باطنية، وتقوم على أسس عقلية أصيلة، وتنطلق من براهين علمية يقينية، وترتبط بمبادئ فطرية جلية، يخضع لها العقل السليم، ويقر بصحتها.
 
فالله تعالى قد خلق كل إنسان خلقة تقتضي الإقرار بأن له خالقًا وموجدًا ومدبرًا، وتستوجب الإيمان بوجود الله وخلقه ومعرفته، وهي الغريزة ذاتها التي يفرق بها الإنسان بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والنافع والضار، والحسن والقبيح، وهي الغريزة ذاتها التي يدرك بها الإنسان بأن لكل حادث سببًا، وأن الكل أعظم من الجزء، فكل هذه الأمور قوى غريزية جعلها الله في داخل كل إنسان.
 
وقد أقام المؤمنون بالله أدلة كثيرة تثبت صحة معتقدهم في وجود الله وخلقه للكون، وكل تلك الأدلة مرتبة بمبدأ عقلي فطري ضروري، وهو مبدأ السببية، الذي يعني أن لكل حادث محدثًا، ولكل مسبب سببًا، وأنه لا يمكن وجود شيء بعد عدمه بدون أن يكون له فاعل نقله من العدم إلى الوجود.
 
وقد تنوعت الدلالات الوجودية التي تعتمد على هذا المبدأ، فبعضها راجع إلى أصل خلق الكون وإيجاده من العدم، وبعضها راجع إلى إتقان خلقة الكون وإحكام قوانينه بعد وجوده.
 
فإيمان المؤمن بوجود الله يستند إلى أصول عقلية بدهية، غائرة في النفس البشرية، ومتأصلة فيها، لا يمكن الانفكاك عنها بحال. ولأجل عمق إيمان النفس الإنسانية بمبدأ السببية وعظيم تأثيره فيها، كان الإيمان بالله تعالى أمرًا فطريًا مطبوعًا في الكيان الإنساني؛ فالإنسان السوي الفطرة الذي لم يتعرض للمؤثرات الخارجية لا يجد في نفسه حاجة إلى البحث عن الدليل المثبت لوجود الله؛ لكونه يجد ذلك مستقرًا في نفسه.
 
فالإيمان بوجود الله لا يختلف من حيث مبدأ الفطرية عن إيمان الناس بالمبادئ الفطرية الأخرى، كالإيمان بأن الجزء أصغر من الكل، وأن الواحد أقل من العشرة، ونحوهما.

 

الأصل الثاني: أن الإيمان بالله ضرورة معرفية:

 

ومعنى هذا الأصل أن المعرفة الإنسانية لا يمكن أن يقوم لها نظام ولا يستقيم لها قانون ولا يصلح لها حال ولا ينضبط لها استدلال إلا مع الإيمان بالله.  
 
فلا أحد من العقلاء يعارض في أن الحياة الإنسانية لا تنتظم ولا تستقيم إلا بالمعرفة الصحيحة المنضبطة في تصوراتها ومنهج البحث والاستدلال فيها، ومتى ما وقع الخلل في التصورات المعرفية، أو في مسالك الاستدلال، ستفسد الحياة الإنسانية لا محالة، ويعتريها الشك والاضطراب، وستفسد جميع التعاملات الحياتية مع ذلك.
 
وإذا ثبتت أهمية انضباط المعرفة الإنسانية، وضرورة اتساق مسالك الاستدلال فيها، فإن ذلك لا يتحقق إلا بوجود الضرورات العقلية، وسلامتها من الخدش والاضطراب؛ لكون العلوم التي يحصلها الإنسان في حياته بطريق الخبرة والتجربة والتأمل لا بد لها من أصول تستند إليها، وهي المبادئ الضرورية، فإن فسدت تلك المبادئ أو اضطربت؛ فسيدخل الخلل في المعارف النظرية ويدخلها الفساد، فمن المعلوم أن المعارف البشرية لا يمكن أن تكون كلها ضرورية، بحيث تكون حاصلة في النفس من غير اكتساب ولا نظر، فهذا باطل مخالف لواقع الناس.
 
ولا يمكن أيضًا أن تكون كلها نظرية، بحيث يكون إثبات كل المعارف البشرية عن طريق النظر والاكتساب، فيكون إثباتها عن طريق غيرها؛ ﻷن هذا يؤدي إلى أحد أمرين ممتنعين؛ وهما إما التسليل أو الدور، والمراد بالتسلسل هو ترتب أمور على أمور إلى غير نهاية، والمراد بالدور: هو توقف الشيء على  ما يتوقف عليه ذلك الشيء.
 
وبيان ذلك: أن المعارف النظرية لا بد لها من مستند تستند عليه في إثبات صدقها؛ إذ هذا هو معنى كونها نظرية، وهذا المستند لا يخلو إما أن يكون نفس القضية النظرية التي يراد إثباتها، وإما أن تكون قضية أخرى. فإن كانت هي نفسها فهو باطل؛ ﻷنه يؤدي إلى الدور الممتنع، وهو إثبات الشيء بنفسه، فلا بد أن يكون مستند صدق القضية النظرية قضية أخرى.
 
وإذا كان المستند قضية أخرى، وقد فرضنا أنها نظرية، فهي تحتاج إلى مستند آخر، وهكذا إلى غير نهاية، وهذا هو التسلسل الممتنع، ونهاية هذا عم العلم اليقيني.
 
فتحصل أن المعارف البشرية لا يمكن أن تكون كلها ضرورية، ولا يمكن أن تكون كلها نظرية، فلا بد إذن من التسليم بأن بعضها ضروري وبعضها نظري.
 
وفي بيان ضرورة انقسام المعارف إلى هذين القسمين، يقول ابن تيمية:

 

البرهان الذي ينال بالنظر في العلم لا بد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية، فإن كل علم ليس بضروري لا بد أن ينتهي إلى علم ضروري؛ إذ المقدمات النظرية لو أثبتت بمقدمات نظرية دائمًا لزوم الدور القبلي، أو التسلسل في المؤثرات في محل له ابتداء، وكلاهما باطل بالضرورة واتفاق العقلاء.
 
فإن العلم النظري الكسبي هو ما يحصل بالنظر في مقدمات معلومة بدون النظر؛ إذ لو كانت تلك المقدمات أيضًا نظرية لتوقفت على غيرها، فيلزم تسلسل العلوم النظرية في الإنسان، والإنسان حادث كائن بعد أن لم يكن، والعلم الحاصل في قلبه حادث، فلو لم يحصل في قلبه علم إلا بعد علم قبله للزم أن لا يحصل في قلبه علم ابتداء، فلا بد من علوم بديهية أولية يبتدئها الله في قلبه، وغاية البرهان أن ينتهي إليها (1)

 

وإذا ثبت أن المعرفة الإنسانية لا بد فيها من الاستناد إلى الضرورات العقلية التي ينتهي إليها الاستدلال؛ فإن ثبوت تلك الضرورات في الواقع لا يمكن تصوره إلا مع وجود المطلق؛ لكون الضروريات لا تكون إلا مطلقة، والمطلق لا يثبت إلا بالمطلق؛ فالنسبي لا يمكن أن يكون مستندا لثبوت المطلق؛ ﻷن فاقد الشيء لا يعطيه لغيره، ولا يوجد مطلق في الوجود إلا الله تعالى، والمنكر لوجود الله لا يمكنه أن يسلم بوجود المعاني المطلقة؛ ﻷن كل ما يحصل بحسه وعقله الإنساني القاصر لا يكون إلا نسبيًا.
 
وأما المطلقات الضرورية التي يدركها بعقله فجنسها من خلق الله وفطرته التي فطر الناس عليها، فهي أصل كل ما يحصله الإنسان من المعارف في حياته، ولولا وجود تلك المبادئ المطلقة لما استطاع الإنسان أن يبني التصورات الكلية عن الموجودات، ولما استطاع أن يصل إلى اليقين في معارفه.
 
فثبت أن وجود الله والإيمان بخلقه للكون هو الأساس الأولي الذي تقوم عليه المعرفة الإنسانية، والضمانة التي لا استقرار للنظام المعرفي ولا انضباط له إلا بوجودها، ولا يمكن للمرء أن يسلم من التناقض المغرفي إلا به.

 

الأصل الثالث: أن الإيمان بالله ضرورة نفسية:

 

ومعنى هذا الأصل: أن الإنسان لا يمكن أن تستقر نفسه، وتهدأ روحه إلا مع الإيمان بوجود الله، الأول الذي لا شيء قبله، والآخر الذي لا شيء بعده.
 
ووجه ذلك: أن كل إنسان لا بد أن يكون مريدًا قاصدًا، ولا يمكن أن يخلو من الإرادة والقصد بحال، بل خلوه من هذه الخاصية محال، لكون الشعور والإرادة من لوازم الحقيقة الإنسانية، فلا يتصور أن يوجد إنسان لا إرادة له البتة.
 
والإرادة والقصد لا تتصور إلا مع وجود متعلق مراد ومقصود، ولكن المرادات لا تخلو من حالين: إما أن تكون مرادات لغيرها، وإما أن تكون مرادات لذاتها، ولا بد للإرادة الإنسانية أن تنتهي في تعلقها إلى مراد لذاته؛ لأن تعلقها بشيء مراد لغيره، يجعلها في قلق مستمر وبحث دائم وتطلب مؤبد للمنتهى الذي تنبع منه كل المرادات والتعلقات.
 
وإذا ثبت ذلك فإنه لا يمكن أن يكون المخلوق مرادا لذاته؛ ﻷن وجوده ليس من ذاته، فقد كان معدومًا ثم وجد، وسيلحقه العدم بعد وجوده، فلم يبق إلا أن المراد لذاته يجب أن يكون قديمًا مستقلًا في وجوده عن غيره، مستغنيًا بنفسه غير محتاج لغيره، ولا يوجد من يتصف بذلك إلا الله تعالى فدل على أن الإيمان بوجود الله ضرورة نفسية إنسانية.
 
وفي بيان هذه الحقيقة يقول ابن تيمية:

 

"النفس لا تخلو عن الشعور والإرادة، بل هذا الخلو ممتنع فيها، فإن الشعور والإرادة من لوازم حقيقتها، ولا يتصور أن تكون النفس إلا شاعرة مريدة.. ولهذا ذكر، صلى الله عليه وسلم، أن أصدق الأسماء حارث وهمام، وهي حيوان، وكل حيوان متحرك بالإرادة، فلا بد لها من حركة إرادية، وإذا كان كذلك، فلا بد لكل مريد من مراد، والمراد إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره، والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه، فيمتنع أن تكون جميع المرادات مرادات لغيرها، فإن هذا تسلسل في العلل الغائية وهو ممتنع، كامتناع السلسل في العلل الفاعلية، بل أولى. وإذا كان لا بد للإنسان من مراد لنفسه فهذا هو الإله الذي يألهه القلب، فإذا لا بد لكل عبد من إله، فعلم أن العبد مفطور على أن يحب إلهه"(2)

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. دراء تعارض العقل والنقل 309/3
  2. درء تعارض النقل والعقل 464/8

 

المصدر:

  1. د. سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، ص15

 

 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإيمان #إثبات-وجود-الله
اقرأ أيضا
مقام الصبر ومقام الشكر | مرابط
مقالات

مقام الصبر ومقام الشكر


مما يخدعك به نفسك والشيطان أنهما يشعرانك أنك في مقام ابتلاء.. واختبار الصبر لمجرد ما تمر به من بعض الضيق أو المرض أو الخوف أو غير ذلك وينسيانك ما أنت فيه من نعمة الله. فبينما أنت تظن أنك في مقام الصبر والضراء وحدهما.. لكن في الواقع أنت كذلك في مقام الشكر والحمد والرضا والفرح وكذلك في حياتك ما يتطلب الصبر

بقلم: حسين عبد الرازق
370
المرأة المسلمة ج1 | مرابط
تفريغات المرأة

المرأة المسلمة ج1


المرأة إذا فسدت وانحرفت غدت فتنة لكل مفتون وسببت الفساد والدمار في المجتمع وركزوا على المرأة لأن المرأة هي التي تتخرج على يديها الأجيال التي ينتظر منها أن تبعث مجد الأمة والتي يتخرج على يديها الشباب الذين سوف يملئون الفراغ الذي وقعت به الأمة الإسلامية

بقلم: سلمان العودة
525
تغريدات حول التقوى وآثار الذنوب | مرابط
اقتباسات وقطوف

تغريدات حول التقوى وآثار الذنوب


حفظ الجوارح من المعاصي في أول العمر معين من الله على حفظها في الكبر من أمرين: من أن يختم له خاتمة سوء أو يقع في الخرف والهذيان ومن حفظ الله للطائع في صغره حفظ العقل من البلاء بأنواعه عند الكبر قال ابن عباس: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر

بقلم: عبد العزيز الطريفي
698
الدنيا تغيرت الجزء الأول | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

الدنيا تغيرت الجزء الأول


الدنيا تغيرت توظف هذه المقولة للاعتراض على بعض المقررات الشرعية بذريعة أن النصوص الشرعية ثابتة والواقع متغير ولذا لا يمكن أن نجمد على الثابت وقد يسعى بعضهم إلى مقاربة تظهره بمظهر المعظم للشريعة فهو يتحدث عن حجم استجابة الشريعة لمتغيرات الواقع وتقلباته فهي ليست مجرد نصوص جامدة صلبة لا تقبل الزحزحة أو التطوير بل هي تتطور مع تتطور الواقع للتفاعل معه والذي يؤول في الحقيقة إلى جعل الواقع حكما على الوحي وفي المقال فحص لهذه الشبهة ورد عليها

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
1279
هل المذاهب الفقهية بدعة محدثة؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

هل المذاهب الفقهية بدعة محدثة؟


هل المذاهب الفقهية بدعة محدثة وأنه لا يجوز تقليد المذاهب بل يجب اتباع الدليل أينما كان وأن أصحاب المذاهب الفقهية أضاعوا السنن لجمودهم على آراء أئمتهم كما يقول بعض المعاصرين؟ بين يديكم الرد الشافي على هذا السؤال.

بقلم: أ.د.حاكم المطيري
480
الجنة قريبة ممن عمل | مرابط
مقالات

الجنة قريبة ممن عمل


يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قولك: الحمد لله تملأ الميزان. وهو ميزان يوم القيامة الذي ستقف عنده يوم الحساب تزن حسناتك وسيئاتك وتجادل عنده وربما ستفتش عن كلمة واحدة تثقل بها كفة الحسنات لتنجو!

بقلم: خالد بهاء الدين
350