الاختلاط بين زمانين: مفارقات مرة وعبرات حارة

الاختلاط بين زمانين: مفارقات مرة وعبرات حارة | مرابط

الكاتب: محمود خطاب

368 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

يقول ابن مفلح، وهو من أبرز فقهاء الحنابلة: قال ابن تميم لا يشمت الرجل الشابة..، وقال ابن الجوزي: وقد روينا عن أحمد بن حنبل أنه كان عنده رجل من العباد، فعطست امرأة أحمد فقال لها العابد: يرحمك الله فقال أحمد رحمه الله: عابد جاهل انتهى كلامه.
وقال حرب قلت لأحمد: الرجل يشمت المرأة إذا عطست؟ فقال إن أراد أن يستنطقها ويسمع كلامها فلا؛ لأن الكلام فتنة، وإن لم يرد ذلك فلا بأس أن يشمتهن.. وقال ابن عقيل يشمت المرأة البزرة وتشمته ولا يشمت الشابة ولا تشمته (1)

لما قرأت هذا النقل في الآداب الشرعية لابن مفلح: أثار في نفسي مفارقات مُرّة بين زمانين.. تأمل هنا:

يناقش العلماء مسألة مثل تشميت المرأة؛ فيقفون على الأدلة من أحاديث النبي وأخبار الصحابة، ويختلفون؛ فيقول بعضهم: لا يشمّتها، ويفرق بعضهم بين المرأة العجوز والشابة فيجيز تشميت العجوز ولا يجيز تشميت الشابة، ومنهم من يقول إذا تشمت المرأة الرجل: فإن عجوزًا = رد عليها، وإلا رد في نفسه، أي لو كانت شابه، وهذا ما قاله أبو المعالي محمود بن أحمد، من فقهاء الأحناف.. إلى آخر تفصيلاتهم.. ورغم أن هذه مسألة بسيطة بل وقد يراها البعض شيئًا يسيرًا لا يلتفت إليه أحد! إلا أن العلماء يتحرّزون في أي شيء بين الرجل والمرأة، ويسدون أي ذريعة للفتنة ويمنعون أي مظنة للفساد!

أما اليوم فالأمر مختلف تمامًا.. فُتحت أبواب الاختلاط على مصراعيها واختلطت النساء بالرجال كاختلاط الحطب بالنار، وخرجت المرأة من بيتها لتزاحم الرجال في كل مكان، وحلّ بالمسلمين الكثير من الفساد.. ورغم ذلك ترى النقاشات مختلفة تمامًا؛ فبعد أن كان العلماء يضيّقون في مسائل صغيرة مثل تشميت المرأة لسد أي باب محتمل للفتن = ترى اليوم من يجيزون الاختلاط ولكن وفقًا “للضواب الشرعية” فيمكن للرجل أن يجالس المرأة بمفردهما طالما أن المكان مفتوح وطالما أنها تثق في أخلاقه طبعًا، ويجوز لها طبعًا أن تتحدث وتنظر إليه وربما تضحك ولكن وفق حدود الأدب! وقد يُثار النقاش حول طريقة جلوس المرأة بين الرجال، ولغة الجسد أثناء حديثها، وكيف تنظر إليهم، وكيف تتجاذب معهم الأحاديث.. ولكن: وفق “الضوابط الشرعية” طبعا!

= لشد ما يتألم المسلم من هذه المفارقة الصارخة؛ بين زمان كان يضيّق أهله في أدق المسائل، ويتحرّزون أشد التحرّز، وزمان يناقش أهله ضوابط انكباب المرأة على مجالس الرجال!

إنها مفارقات مُرّة وعبرات حارّة.. بين زمانين:

1- بين زمان تلزم فيه المرأة بيتها فيكون هذا هو الأصل ولا تخرج إلا لضرورة، وهذا هو العارض، كما قال تعالى (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ) وفيه الأمر الواضح بلزوم البيت.. قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية (2). وكما يقول أبو الحسن الماوردي: والمرأة منهية عن الاختلاط بالرجال، مأمورة بلزوم المنزل(3)
= وزمان خرجت فيه المرأة من بيتها؛ تلهث وراء تحقيق ذاتها وتتمركز حول نفسها كأنثى فقط، وصار الأصل أن تخرج المرأة من بيتها والعارض هو القرار فيه.. وانشغلت المرأة بمناكفة الرجال حول حقوقها في المساواة وغير ذلك، وزاحمتهم في أماكن العمل تاركة خلفها بيتًا خاليًا من أم مربية أو زوجة معينة لزوجها أو ابنة بارّة بأهلها! وقد أثر هذا بشكل بالغ في المنظومة الأسرية؛ فالمرأة هي اللبنة الأساسية في البناء الأسري.

2- بين زمان لم يعرف أهله المجالس المختلطة حتى بغرض التعلم، كما ورد من حديث أبي سعيد الخدري: "قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما من نفسك، فوعدهن يوما لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن" والحديث هنا يدور حول أهم مجلس في التاريخ كله؛ إنه مجلس لتلقي أوامر الوحي وتعلم أحكام الشريعة من الرسول الذي يوحى إليه من السماء!.. ورغم ذلك عرفت النساء أنه لا يجوز الاختلاط بالرجال في مجالسهم وهذا هو سبب السؤال عن يوم منفرد لهن، فتأمل! 
= وزمان يتلاصق فيه الرجال والنساء في أماكن التعليم، ولا تستحي فيه النساء من الدخول على مجالس الرجال والجلوس بينهم لأي غرض! بل أحيانا ينفرد الرجل بالمرأة في مكان العمل وغيره!

3- بين زمان تُسد فيه كل ذريعة للفتنة فيتحرّز أهله حتى في النظرة! كما قال أبو حامد الغزالي: ويجب أن يضرب بين الرجال والنساء حائل يمنع من النظر؛ فإن ذلك مظنة الفساد، والعادات تشهد لهذه المنكرات (4)
ويقول ابن عبد البر: يجب على الإمام أن يحول بين الرجال والنساء في التأمل والنظر، وفي معنى هذا منع النساء اللواتي لا يؤمن عليهن ومنهن الفتنة من الخروج والمشي في الحواضر والأسواق، وحيث ينظرن إلى الرجال (5)
= وزمان تتبجح فيه المرأة ولا تستحي أن تنظر وتُمعن النظر إلى الرجال، وربما قارنته بزوجها مثلا، بل تجد من النساء من تشخص بصرها دون أن تطرف حبًا وتأملًا وتغزلًا في ملامح أحد المشاهير، حتى يمكنها أن ترسم لك معالم هذا الرجل وتصف لك جمال وجهه وجميل مظهره دون حياء.. 

4- بين زمان يكون الخطاب فيه بين الرجل والمرأة من وراء حجاب كما يقول الله تعالى “وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ”، يقول القرطبي "وإذا سألتم أزواج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعًا (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) يقول: من وراء ستر بينكم وبينهن".. وهذا في مجرد الخطاب!
= وزمان تتقن فيه المرأة في الخضوع بالقول في محادثاتها مع الرجال في أماكن العمل والتعليم وفي الأسواق ولا يخلو الأمر طبعًا من نظرات عابرة بريئة بين الطرفين!

5- بين زمان يُتحرز فيه من الاختلاط حتى في مواطن العبادة التي ينصرف فيها القلب عن كل أمور الدنيا ويتوجه لله الخالق وحده:

  • كما روي أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها" وهذا في حال الصلاة، فلك أن تتخيل كيف يكون الأمر في غيرها!
  • وكما قالت عائشة عندما دخلت عليها مولاة لها، فقالت لها: يا أم المؤمنين! طفت بالبيت سبعا، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثا، فقالت لها عائشة -رضي الله عنها: لا آجرك الله، لا آجرك الله، تدافعين الرجال! ألا كبرت ومررت؟
    = وزمان تختلط فيه الصفوف ويموج فيه الرجال والنساء في الطرقات وفي أماكن التعليم وفي الأسواق وفي المحال وفي كل مكان!

6- بين زمان تُمنع فيه المرأة من المشي وسط الطريق حتى لا تزاحم الرجال ولا تلتصق بهم، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق.. فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.
= وزمان لا تستحي فيه المرأة أن تتكسّر في مشيها بين الرجال وأن تزاحمهم فتتهاوش المناكب والأذرع، وأن تتغنج في حكيها مع الباعة، وتخرج في كامل زينتها كأنها عروس؛ ليرى منها الرجال كل مفاتنها!

7- بين زمان خيف فيه الاختلاط بين المرأة وأخ الزوج وأقاربه من غير المحارم فقال الرسول “الحمو الموت”، وذلك لتمكنه من الوصول إلى المرأة بسبب القرابة، ولعادة الناس في التساهل بهذا الأمر.. فوصف الرسول هذا الاختلاط: بالموت! وأصبح التحرز فيه أعظم من التحرز في الاختلاط بالأجنبي للسبب المذكور، كما قال الإمام النووي (6)
= وزمان اختلط فيه الحابل بالنابل فلا تدري مع من تجلس المرأة؛ ترى النساء يجالسن جميع الأقارب كأنهم محارم لها، وترى الرجال يدخلون على النساء وهن كاشفات ومتخففات من الملابس بحجة القرابة وغير ذلك من الطوام التي كثر معها الفحش، والمشكلة أن أحد الطرفين لا يستشكل ذلك!

هذان زمانان..
- زمان شهد كل هذا القدر من الحذر والحيطة مع انتشار الفضيلة وشيوع قيم الإسلام ومبادئه وأخلاقه، وقد تربّت فيه النفوس على التسليم للوحي وعلى لزوم حدود الإسلام والاحتكام إلى الله والرسول في كل الأمور. زمان شهد كل هذا التحرّز في اختلاط الرجال والنساء رغم انعدام مسالك التغريب وقلة الوسائل المعينة على الفتنة من الملابس والعطور ومساحيق التجميل
- وزمان شاع فيه التساهل في أمور الاختلاط رغم كثرة الوسائل المعينة على الفساد وكثرة مسالك التغريب التي مسخت هوية المرأة وقلبت فطرتها ودفعتها للخروج من بيتها وترك خدرها، وزجت بها إلى سوق العمل لاهثة وراء تحقيق ذاتها!

هذان زمانان..
- زمان لزمت فيه المرأة فطرتها السوية، وعرفت مكانتها ودورها، وأدركت معنى العفة والحياء؛ فلم تزاحم الرجال ولم تخالطهم وسدت من حولها كل الذرائع، وأدّت ما عليها وحفظت حدود الله = فأخرجت للأمة أعلامًا شامخة، ساد بها الإسلام.
- وزمان انتكست فيه الفطر، وتكسّرت فيه الحدود؛ فاختلط الرجال والنساء كاختلاط النار بالحطب، وخرجت المرأة من بيتها وتخلّت عن دورها؛ تلهث وراء سراب تحسبه ماءً، فنزعت عنها ثوب الحياء والعفّة وتمركزت حول نفسها كأنثى ونسيت دورها في بيتها = فأخرجت أجيالا كغثاء السيل.

هذان زمانان.. 
بينهما مفارقات مرّة، وعَبَرات حارّة.


الإشارات المرجعية:

  1. (ابن مفلح، الآداب الشرعية ج2، ص341)
  2. تفسير ابن كثير
  3. (الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي (2/473))
  4. (إحياء علوم الدين، للغزالي، 3/ 43 - 44)
  5. التمهيد، 9/ 124
  6. شرح النووي على مسلم
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الاختلاط
اقرأ أيضا
حكم قطز والاستعداد لمواجهة التتار ج1 | مرابط
تفريغات

حكم قطز والاستعداد لمواجهة التتار ج1


صرح قطز لأمرائه أنه ما طلب الملك إلا لحرب التتار فبدأ الأمراء المماليك يترددون فقد وصلت أنباء التتار المخيفة عن حرب التتار لكن قطز رحمه الله بدأ يضرب لهم مثلا رائعا في فهمه للإسلام ويعطي لهم قدوة راقية في الجهاد لقد أعلن قطز لهم أنه سيذهب بنفسه لحرب التتار ويكون مع جنوده في قلب المعركة ولن يرسل جيشا ويبقى هو في عرينه بمصر بل سيذوق مع شعبه ما يذوقون ويتحمل ما يتحملون ولو أرسل قطز جيشا وبقي هو في القاهرة ما لامه أحد ولكنه لم ير هناك وسيلة أفضل من ذلك لتحميس القلوب الخائفة وتثبيت الأفئدة المضط...

بقلم: د راغب السرجاني
625
تعدد طرق الضلال | مرابط
اقتباسات وقطوف

تعدد طرق الضلال


الشبهات هي شبهات عظيمة في ذاتها وشبهات هي يسيرة في ذاتها ولكنها عظيمة في قلب الإنسان لقلة معرفته بالحق فالله سبحانه وتعالى جعل للإنسان طريقا مختصرا بينا يميز به الإنسان الخير من الشر ويجعل هذا الطريق هو طريق الفيصل بين الطرق كلها وقد ذكر الله عز وجل في هذه الآية أن الصراط صراط واحد وأما السبل فهي متعددة لأن طريق الحق هو طريق واحد كحال العافية فالعافية واحدة وأما الأمراض فمتعددة

بقلم: عبد العزيز الطريفي
366
الارتباط بالله | مرابط
فكر مقالات اقتباسات وقطوف

الارتباط بالله


قد تظل الأمة سليمة من الظاهر- جيلا أو جيلين أو ثلاثة بينما التحلل الخلقي يسري في كيانها خفيا كالسوس فيتعذر على الشخص العادي أو الشخص المنجرف بطبعه وراء اللذات أن يصدق أن تحلله هو وهو فرد واحد- أو أن الجريمة العابرة التي يرتكبها خلسة في الظلام يمكن أن تؤثر في خط سير المجتمع وتؤدي إلى انهياره

بقلم: محمد قطب
2681
اللسان العربي: بين التعميم والاستثناء | مرابط
لسانيات

اللسان العربي: بين التعميم والاستثناء


من فصيح الكلام وجيده الإطلاق والتعميم عند ظهور قصد التخصيص والتقييد وعلى هذه الطريقة الخطاب الوارد في الكتاب والسنة وكلام العلماء بل وكل كلام فصيح بل وجميع كلام الأممفإن التعرض عند كل مسألة لقيودها وشروطها تعجرف وتكلف وخروج عن سنن البيان وإضاعة للمقصود وهو يعكر على مقصود البيان بالعكس

بقلم: محمد علي يوسف
304
مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج3 | مرابط
مناظرات

مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج3


اشتهر أبو بكر الباقلاني بمفصاحته وقدرته على المناظرة والبيان والذب عن الإسلام وقد ناظر في عهده الكثير من النصارى أشهر هذه المناظرات كانت لما أرسله عضد الدولة إلى ملك الروم الأعظم ليظهر له رفعة الإسلام ويناظره في معتقده وبالفعل جرت المناظرة بينهما واستعان ملك الروم بكثير من علماء النصارى حتى يقدروا عليه وكان المناظرة سبب في إسلام الكثير من النصارى وأظهر الباقلاني فصاحة عالية ورؤية ثاقبة وقدرة مبهرة على الرد والبيان

بقلم: القاضي عياض
2103
وما نرسل بالآيات إلا تخويفا | مرابط
مقالات

وما نرسل بالآيات إلا تخويفا


من أسوأ ما ابتلي به إنسان العصر الحديث تبلد حسه تجاه ما يحدث من ظواهر كونية: مثل الرياح العاصفة والأمطار الشديدة والكسوف والخسوف والزلازل وما أشبه ذلك حيث تحولت إلى أخبار معتادة تمر دون كثير اعتبار أو تفكر ولعل التنبؤ المسبق بها مع كثرة المشوشات وقلة النظر في السماوات والأرض والتأمل فيهما وقسوة القلوب بسبب التعرض المستمر للشهوات والشبهات وطبيعة الحياة المعاصرة اللاهثة كل ذلك أسهم في هذا التبلد!

بقلم: أحمد قوشتي
341