من الكتب التي أتذكر أني اطلعت عليها قديما حين كنت أخطو خطواتي الأولى في عالم القراءة: كتاب للأستاذ شوقي أبو خليل عنوانه "غريزة أم تقدير إلهي؟" وهو كتاب يقوم بالتقاط مشاهد متعددة جدا من عجائب عالم الحيوان، تلك النزعات الغريزية التي تحملها على القيام بأفعال معينة، تصب في مصلحتها، دون أن يكون ذلك ناشئًا عن تعليم أو تدريب أو تربية.
سؤال الغريزة
فمن الذي هدى الطفل لالتقام ثدي الأم والارتضاع؟ ومن الذي زرع في قلب الأم غريزة الأمومة لرعاية أطفالها؟ ومن الذي علم الطيور الهجرة في وقت معين ولمكان معين؟ ومن الذي وهب الأحياء جميعا غريزة حب البقاء؟ ومن الذي زرع في النفوس نزعة حب الجمال؟
هذه الظواهر كسابقاتها من المعاني الفطرية تستدعي سؤال كيف وجدت هذه النزعات؟ ومن الذي أحدثها في النفس؟ سل الملحد عنها، وسيحدثك عن الداروينية، وكيف أن هذه الغرائز مما استبقته عملية التطور لمصلحة إبقاء الكائن الحي. ولكن السؤال لا يزال قائمًا: من أين جاءت الغرائز أصلًا؟
بمعنى آخر: كيف حدثت هذه النزعة في ظل مسيرة التطور الدارويني، والتي ابتدأت مشوارًا ليس للغرائز فيها وجود، لتنتهي بهذا التشكل المذهل للغرائز؟ ما اللحظة التي ظهرت فيها هذه الغرائز؟ وكيف تشكلت؟ وكيف يتم تناقلها عبر الأجيال؟
أسئلة ليس لها جواب إلا الحيرة المطبقة، أو السعي في إرجاع هذا الفضاء كله إلى الجين الأناني (1) الذي يريد أن يستبقي وجوده بكل وسيلة ممكنة، وليس لنا من سبيل إلا لنرقص على أنغامها، كما عبر ريتشارد دوكنز في عبارة شهيرة
تأمل في غريزة الأمومة..
وقل لي بالله عليك، هل شاهدت مشهدا أنقى منه وأعظم؟ والله ما في الوجود شيء كقلب الأم، رمز الحب الصادق، ومعنى الحنان حين يكتمل!
بالله استذكر قصص الأمهات مع أبنائهن
مسلسل من العجائب لا تنقضي، ومواقف يعجز اللسان عن تصويرها
أكتب هذا وقصص وأخبار ومواقف تتزاحم عليّ:
ابن يطعن أمه فتسعى في الشفاعات ألا يؤذَى حبيبها!
وآخر يهجر أمه، فلا تكون لها في الحياة أمنية إلا في الجلوس معه!
ابن مشلول، وأم عجوز تقوم على شأنه بعد أن بلغت في الكبر عتيا
أم ماتت ابنتها وتم زراعة قلب البنت في أخرى؛ فلو شاهدت دموعها وهي تضع السماعة الطبية على صدر تلك تستمع إلى نبضات قلب ابنتها وتبكي!!
هذه المواقف وغيرها بالملايين؛ إذ لكل أم مع ابنها حكاية خاصة، ولها من مشاهد الحب ما يستحق الرواية، يراد له جميعا أن يُحوّل في ظل القسوة الداروينية إلى مجرد حركة ميكانيكية آلية خاضعة لضغوط الجين الأناني، فما ثمّ حب حقيقي يعتلج بقلب الأم، بل هي الأنانية التي تعصف بجيناتها رغبة في استبقاء وجودها في ذلك الولد!
ظلام الداروينية
إنها صورة قاتمة لا معنى لها، تنتزع من الإنسان كل شيء، وتسلبه أغلى مقوماته.. والشيء بالشيء يُذكر، فحين يتسامى الإنسان على نزعاته الشخصية وحبه للبقاء ويتمكن من التفلت من القبضة الداروينية المحكمة والتي تجد في هذه النزعة المحرك الأساس لدفع التطور قدمًا، ويقدم صورا من التضحية تصل إلى حد الجود بالنفس، يأتينا أحد الداروينيين ليحدثنا عن استعداده شخصيا للموت في سبيل حياة اثنين من أشقائه أم ثمانية من أبناء عمومته..
يتساءل: ولماذا؟ ولم هذه الأرقام على وجه الخصوص؟ وكيف يمكن تفسير صورة التضحية البشرية داروينيا؟ الأمر يا سيدي بسيط، فالجين الأناني سيتمكن من استبقاء وجوده في هذين الأخوين، وسيحتاج إلى عدد أكبر من أبناء العمومة لضمان بقائه فيهم، هكذا يتم تفسير أحد الإشراقات البشرية المذهلة بالأنانية الداروينية المظلمة.
إن هذه الغرائز تجد نفسيرها المرضي حين نؤمن بوجوده الله تعالى؛ فالله تعالى هو واهبها.. ورحمة الأم مثلا ما هي إلا جزء يسير جدا من رحمته تعالى التي جعلها بين الخلائق، فبها يتراحم الخلق.
مجادلة فرعون
وقد نبه موسى -عليه الصلاة والسلام- في أثناء مجادلته لفرعون للبعد الغريزي في الخلائق وموجدها فيهم، جاء في قصة المناظرة فيهم "قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ"
(أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، والدال على حسن صنعة من خلقه؛ من كبر الجسم وصغره وتوسطه وجميع صفاته، "ثم هدى" كل مخلوق إلى ما خلقه له، وهذه الهداية العامة المشاهدة في جميه المخلوقات فكل مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع، وفي دفع المضار عنه، حتى إن الله أعطى الحيوان البهيم من العقل ما يتمكن به على ذلك
وهذا كقوله تعالى "الذي أحسن كل شيء خلقه" فالذي خلق المخلوقات وأعطاها خلقها الحسن، الذي لا تقترح العقول فوق حسنه، وهداها لمصالحها = هو الرب على الحقيقة؛ فإنكاره إنكار لأعظم الأشياء وجودًا، وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب، فلو قدر أن الإنسان أنكر من الأمور المعلومة ما أنكر = كان إنكاره لرب العالمين أكبر من ذلك، ولهذا لما لم يمكن فرعون أن يعاند هذا الدليل القاطع، عدل إلى المشاغبة، وحاد عن المقصود، فقال لموسى "فما بال القرون الأولى" أي: ما شأنهم، وما خبرهم؟ وكيف وصلت بهم الحال، وقد سبقونا إلى الإنكار والكفر والظلم والعناد ولنا فيهم أسوة؟ (2)
قال ابن الجوزي في تفسيره:
وفي قوله: "ثم هدى" ثلاثة أقوال:
أحدها: هدى كيف يأتي الذكر الأنثى
والثاني: هدى للمنكح والمطعم والمسكن
والثالث: هدى كل شيء إلى معيشته، قاله مجاهد
فإن قيل: ما وجه الاحتجاج على فرعون من هذا؟
فالجواب: أنه قد أثبت وجود خلق وهداية، فلا بد من خالق وهاد(3)
ومن الأمثلة التي حكاها الله، تبارك وتعالى، في هذا الشأن في القرآن الكريم "وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ"
الإشارات المرجعية:
- وهو عنوان كتاب لداعية الإلحاد الأبرز ريتشارد دوكنز
- تفسي السعدي 506
- زاد المسير 4-307
المصدر:
- عبد الله بن صالح العجيري، شموع النهار، ص 72