الجانب الغريزي ودلالته على وجود الله

الجانب الغريزي ودلالته على وجود الله | مرابط

الكاتب: عبد الله بن صالح العجيري

2380 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

من الكتب التي أتذكر أني اطلعت عليها قديما حين كنت أخطو خطواتي الأولى في عالم القراءة: كتاب للأستاذ شوقي أبو خليل عنوانه "غريزة أم تقدير إلهي؟" وهو كتاب يقوم بالتقاط مشاهد متعددة جدا  من عجائب عالم الحيوان، تلك النزعات الغريزية التي تحملها على القيام بأفعال معينة، تصب في مصلحتها، دون أن يكون ذلك ناشئًا عن تعليم أو تدريب أو تربية.

 

سؤال الغريزة

 

فمن الذي هدى الطفل لالتقام ثدي الأم والارتضاع؟ ومن الذي زرع في قلب الأم غريزة الأمومة لرعاية أطفالها؟ ومن الذي علم الطيور الهجرة في وقت معين ولمكان معين؟ ومن الذي وهب الأحياء جميعا غريزة حب البقاء؟ ومن الذي زرع في النفوس نزعة حب الجمال؟

 

هذه الظواهر كسابقاتها من المعاني الفطرية تستدعي سؤال كيف وجدت هذه النزعات؟ ومن الذي أحدثها في النفس؟ سل الملحد عنها، وسيحدثك عن الداروينية، وكيف أن هذه الغرائز مما استبقته عملية التطور لمصلحة إبقاء الكائن الحي. ولكن السؤال لا يزال قائمًا: من أين جاءت الغرائز أصلًا؟

 

بمعنى آخر: كيف حدثت هذه النزعة في ظل مسيرة التطور الدارويني، والتي ابتدأت مشوارًا ليس للغرائز فيها وجود، لتنتهي بهذا التشكل المذهل للغرائز؟ ما اللحظة التي ظهرت فيها هذه الغرائز؟ وكيف تشكلت؟ وكيف يتم تناقلها عبر الأجيال؟

 

أسئلة ليس لها جواب إلا الحيرة المطبقة، أو السعي في إرجاع هذا الفضاء كله إلى الجين الأناني (1) الذي يريد أن يستبقي وجوده بكل وسيلة ممكنة، وليس لنا من سبيل إلا لنرقص على أنغامها، كما عبر ريتشارد دوكنز في عبارة شهيرة

 

تأمل في غريزة الأمومة..

 

وقل لي بالله عليك، هل شاهدت مشهدا أنقى منه وأعظم؟ والله ما في الوجود شيء كقلب الأم، رمز الحب الصادق، ومعنى الحنان حين يكتمل!
بالله استذكر قصص الأمهات مع أبنائهن
مسلسل من العجائب لا تنقضي، ومواقف يعجز اللسان عن تصويرها

 

أكتب هذا وقصص وأخبار ومواقف تتزاحم عليّ:
ابن يطعن أمه فتسعى في الشفاعات ألا يؤذَى حبيبها!
وآخر يهجر أمه، فلا تكون لها في الحياة أمنية إلا في الجلوس معه!
ابن مشلول، وأم عجوز تقوم على شأنه بعد أن بلغت في الكبر عتيا
أم ماتت ابنتها وتم زراعة قلب البنت في أخرى؛ فلو شاهدت دموعها وهي تضع السماعة الطبية على صدر تلك تستمع إلى نبضات قلب ابنتها وتبكي!!

 

هذه المواقف وغيرها بالملايين؛ إذ لكل أم مع ابنها حكاية خاصة، ولها من مشاهد الحب ما يستحق الرواية، يراد له جميعا أن يُحوّل في ظل القسوة الداروينية إلى مجرد حركة ميكانيكية آلية خاضعة لضغوط الجين الأناني، فما ثمّ حب حقيقي يعتلج بقلب الأم، بل هي الأنانية التي تعصف بجيناتها رغبة في استبقاء وجودها في ذلك الولد!

 

ظلام الداروينية

 

إنها صورة قاتمة لا معنى لها، تنتزع من الإنسان كل شيء، وتسلبه أغلى مقوماته.. والشيء بالشيء يُذكر، فحين يتسامى الإنسان على نزعاته الشخصية وحبه للبقاء ويتمكن من التفلت من القبضة الداروينية المحكمة والتي تجد في هذه النزعة المحرك الأساس لدفع التطور قدمًا، ويقدم صورا من التضحية تصل إلى حد الجود بالنفس، يأتينا أحد الداروينيين ليحدثنا عن استعداده شخصيا للموت في سبيل حياة اثنين من أشقائه أم ثمانية من أبناء عمومته..

 

يتساءل: ولماذا؟ ولم هذه الأرقام على وجه الخصوص؟ وكيف يمكن تفسير صورة التضحية البشرية داروينيا؟ الأمر يا سيدي بسيط، فالجين الأناني سيتمكن من استبقاء وجوده في هذين الأخوين، وسيحتاج إلى عدد أكبر من أبناء العمومة لضمان بقائه فيهم، هكذا يتم تفسير أحد الإشراقات البشرية المذهلة بالأنانية الداروينية المظلمة.

 

إن هذه الغرائز تجد نفسيرها المرضي حين نؤمن بوجوده الله تعالى؛ فالله تعالى هو واهبها.. ورحمة الأم مثلا ما هي إلا جزء يسير جدا من رحمته تعالى التي جعلها بين الخلائق، فبها يتراحم الخلق.

 

مجادلة فرعون

 

وقد نبه موسى -عليه الصلاة والسلام- في أثناء مجادلته لفرعون للبعد الغريزي في الخلائق وموجدها فيهم، جاء في قصة المناظرة فيهم "قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ"

 

(أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، والدال على حسن صنعة من خلقه؛ من كبر الجسم وصغره وتوسطه وجميع صفاته، "ثم هدى" كل مخلوق إلى ما خلقه له، وهذه الهداية العامة المشاهدة في جميه المخلوقات فكل مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع، وفي دفع المضار عنه، حتى إن الله أعطى الحيوان البهيم من العقل ما يتمكن به على ذلك
 
وهذا كقوله تعالى "الذي أحسن كل شيء خلقه" فالذي خلق المخلوقات وأعطاها خلقها الحسن، الذي لا تقترح العقول فوق حسنه، وهداها لمصالحها = هو الرب على الحقيقة؛ فإنكاره إنكار لأعظم الأشياء وجودًا، وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب، فلو قدر أن الإنسان أنكر من الأمور المعلومة ما أنكر = كان إنكاره لرب العالمين أكبر من ذلك، ولهذا لما لم يمكن فرعون أن يعاند هذا الدليل القاطع، عدل إلى المشاغبة، وحاد عن المقصود، فقال لموسى "فما بال القرون الأولى" أي: ما شأنهم، وما خبرهم؟ وكيف وصلت بهم الحال، وقد سبقونا إلى الإنكار والكفر والظلم والعناد ولنا فيهم أسوة؟ (2)

 

قال ابن الجوزي في تفسيره:

 

وفي قوله: "ثم هدى" ثلاثة أقوال:
أحدها: هدى كيف يأتي الذكر الأنثى
والثاني: هدى للمنكح والمطعم والمسكن
والثالث: هدى كل شيء إلى معيشته، قاله مجاهد
فإن قيل: ما وجه الاحتجاج على فرعون من هذا؟
فالجواب: أنه قد أثبت وجود خلق وهداية، فلا بد من خالق وهاد(3)

 

ومن الأمثلة التي حكاها الله، تبارك وتعالى، في هذا الشأن في القرآن الكريم "وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ"

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. وهو عنوان كتاب لداعية الإلحاد الأبرز ريتشارد دوكنز
  2. تفسي السعدي 506
  3. زاد المسير 4-307

 

المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري، شموع النهار، ص 72
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
النعمة في البرد والحر | مرابط
اقتباسات وقطوف

النعمة في البرد والحر


من النعم التي لا يلتفت إليها كثير من الناس: نعمة الوقاية من البرد والحر وفي هذا المقتطف الماتع لشيخ الإسلام ابن تيمية تعليق سريع حول هذه النعمة من وحي القرآن الكريم حتى يعلم المسلم قدر النعم التي أحاطه الله بها وهي لا تحصى

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
492
مع نظرية المصلحة عند نجم الدين الطوفي | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

مع نظرية المصلحة عند نجم الدين الطوفي


تعتبر مقولة نجم الدين الطوفي الشهيرة: تقديم المصلحة على النص من أشهر المقالات الفقهية والفكرية فى هذا العصر لأنه تم توظيفها بمهارة لتكون بساطا يسير عليه أي تحريف معاصر يرغب في تخطي بعض النصوص الشرعية ومع الجهود العلمية الحثيثة في توضيح هذه القضية وبيان الشذوذ والخلل فيها إلا أن المقالة الطوفية ما تزال حاضرة في أي مشهد ثقافي يرغب في حذف بعض أحكام الشريعة

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1653
شبهات حول الإجماع | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

شبهات حول الإجماع


وصل الحال عند بعض من ينكر حجية الإجماع إلى تجويز إطباق جميع الأمة على مدى أربعة عشر قرنا على الخطأ وهذا الموقف يخالف ما أخبر الله به أن هذه الأمة خير الأمم وأنها أمة وسط لتكون شاهدة على الناس لعدالتها وصدقها فكيف يجوز مع ذلك أن تتصرم قرونها وهي متفقة على الباطل غير عارفة بالحق ولا قائمة به

بقلم: أحمد يوسف السيد
3176
من أخلاق الكبار: صفية أم المؤمنين | مرابط
تفريغات

من أخلاق الكبار: صفية أم المؤمنين


أيها الأخ الكريم سل نفسك ما موقفك ممن وشا بك وشاية سيئة سعى فيك وأراد الإيقاع بك والإساءة إليك ما موقفك منه هذه صفية أم المؤمنين لها جارية ذهبت إلى عمر متبرعة بوشاية وفرية.. تقول إن صفية تحب السبت وتصل اليهود.. فماذا كان رد فعل أم المؤمنين؟

بقلم: خالد السبت
481
هل أدخل مسلمة أهل الكتاب أقوالا من الإنجيل على أنها أحاديث | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

هل أدخل مسلمة أهل الكتاب أقوالا من الإنجيل على أنها أحاديث


ليس من الإنصاف في شيء أن نقول: إن ما وجد في الدين الإسلامي ووجد في اليهودية أو النصرانية أن يكون مأخوذا منها فقد توافق القرآن الكريم الذي لا شك في تواتره وصونه عن أي تحريف والتوراة والإنجيل في بعض التشريعات والأخلاقيات والقصص فهل معنى هذا أنه مأخوذ منها أعتقد أن الجواب بالنفي ومما ينبغي أن يعلم أن الشرائع السماوية مردها إلى الله سبحانه وأن العقائد والفضائل الثابتة والضروريات التي لا تختلف باختلاف الأزمان ولا باختلاف الرسالات أمور مقررة في كل دين

بقلم: محمد أبو شهبة
1557
تسليع المرأة في الغرب | مرابط
فكر تفريغات المرأة

تسليع المرأة في الغرب


عامة النساء أصبحن يرين أنفسهم كسلع جنسية للرجال وأن الإعلام يكرس هذه النظرة والمجتمع يكرسها وحتى الvideo games تكرسها وأن أجساد النساء تعرض للدعاية وكديكور وأن هذا يؤدي إلى العناية المفرطة من بعض النساء بأشكالهن وإمضاء أوقات طويلة أمام المرآة ويؤدي إلى أمراض نفسية لدى بعضهم بالإصابة بالخزي من أجسادهن

بقلم: د إياد قنيبي
1011