شبهات حول الحجاب: الحجاب تزمت بغيض

شبهات حول الحجاب: الحجاب تزمت بغيض | مرابط

الكاتب: سامي عامري

1074 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الشبهة:

((الحجاب تزّمت، وتعصّب، وتكلّف في اللباس، وتضييق على النفس، وإمعان في السير في مضايق الحرج والإعنات..!!)) .. هكذا لسان من يعادون الحجاب.. وينصبون له لواء البغض.. فهل لكلامهم رصيد من صواب..؟ وهل يستحقّ شيئًا من الاعتداد..؟

الجواب:

 

الحكم على الشيء فرع عن تصوره

أولًا/ قد قيل: ((الحكم على الشيء، فرع عن تصوّره)) والحكم على الشيء دون تصوّره؛ باطل محض.. والحكم عليه بتصوّره على غير حقيقته؛ تجانف عن الحقّ!

الصورة في حقيقتها، بعيدًا عن التجميل أو التحقير والتشويه هي: فتاة مقبلة على ربّها، قرأت قرآنها وسنّة المعصوم المبلّغ عن خالقها؛ فوجدت أنّ الإسلام يأمر المرأة بالحجاب، ويدعوها إلى أن تغطي مفاتنها بالحدود التي رسمها الشرع، وتبتعد عن أماكن اللهو والفساد، ولا تخالط الرجال.. ثمّ هي بعد ذلك، تأخذ من حلال الدنيا ما تريد، وتلبس في بيتها وأمام زوجها ما تشاء من رائق وبديع، وتتجمّل في محافل النساء باللباس الجميل والحليّ بلا نكير، مادام ذلك لا يفتح للفتنة والكِبر والرغبة في الشهرة سبيل.. قد فُتِّحت لها أبواب الأخذ من موارد النعمة، ولم تمنع في هذا المساق إلاّ من اللباس الذي يثير غرائز الرجال.. فأين التزّمت وأين التشدّد..؟!

إنّ ما فاه به المعترض من عباراتٍ مجّانيّة للنكير على المحجّبات، لا تحمل من ثقل الحجّة شيئًا؛ بل هي مثقلة بأوضار الحيف في استكناه حقيقة الحجاب وواقع أثره على المرأة التقيّة!

ثمّ إنّ هذا المُنكر على من تسبل لباس العفّة على جسدها، قد سيطر على عقله ما اختاره الغرب من أنماط تفكير وسلوك؛ فهو لا يرى المرأة إلاّ في مجامع الاختلاط واللهو والعبث، ولا تروق له إلاّ وهي تتأبّط شهواتها، وتنثر سهام الفتنة في خلواتها وجلواتها.. هو لا يراها مقبلة على صلاة، ولا سابحة بين موج كتاب، ولا صادعة بالحقّ في مقام بلاغ!

إنّه إسقاط لنمط الحياة الغربي على واقع المرأة المسلمة.. ولكنّهما لا يلتقيان، قد عَظُمَ البرزخ فلا يجتمعان.. ولمّا علم المنكر أنّ الجمع بين التراب والتِبر محال؛ قاده فكره إلى أن يمحو من المسلمة معالم كيانها، حتى توافق (القالب) الغربي الذي يريد أن يغتالها!

ولو أنّ هذا المعترض كان مبصرًا منصفًا؛ لحاكم النمط الغربي إلى معايير الاعتدال والنضج العقلي، لكنّه لم يفعل ذلك، وإنّما اختار أن يدفع المرأة المسلمة أن تسفل في قدرها بأن تخرج من خدرها، لا لتصنع خيرًا؛ وإنّما لتسفح ماء (الآدميّة) المكرّمة، على (مذبح) نهمة الرجال الجامحة.. ولمّا رفضت صاحبة الحجاب الاحتجاب عن نور الطهر؛ رماها الرامي بالتزمّت والتكلّف في مجانبة الحلال الزلال.. فهلاّ أخبرنا عن أيّ حلال يتحدّث، وما هي الطهارة التي منها قد مُنعت!

إنّها عقول قد (برمجت) على الإنكار.. تظن أنّ بيانها من لسانها.. وهي –لو علمت- ترى العالم بغير عينيها، وتستلذّ ما وافق أهواء غيرها!

 

المرأة النصرانية

ثانيا/ إنّ الغرب الذي يرضع المعترض من حليب فكره، لا يرى في المرأة النصرانيّة التي توارت خلف حجاب الأديرة، ومنعت نفسها من أطايب الحياة؛ طمعًا في حلم ساذج شنيع المعالم؛ وهو أن تكون يوم القيامة عروس المسيح (إلهها) و (خالقها!!) بزعمها (!!) (1) .. لم ير فيها مجرمة ولا خائنة لشهوات طبعها.. وإنّما هي عنده امرأة قد اختارت من اللباس وأمور المعاش ما وافق فكرها.. أمّا عندنا، وقد فتح الشرع لأبواب الملاذ كلّ باب، ما لم تقد إلى فساد، فقد رميت المرأة بنصال التشدّد والتكلّف..!!

فكيف يستقيم الحال، وتعتدل الصورة في عقل لا يستشنع الرهبنة القائمة على تعذيب النفس وجلدها بسياط الحرمان، ويستقبح مع ذلك تغطيةً للحمٍ، لا تمنع خيرًا، ولا تحرم من نعيم لا يستغنى عنه؟!

 

الإشكال في الحشمة أم في مظان الفتنة؟

ثالثا/ لا شكّ أنّ عامة من يقول إنّ الحجاب هو نوع من التزمّت الصرف، يزعم –في الظاهر؛ حتّى لا يتّهم بالانحراف العقائدي- أنّ الإشكال ليس في الحشمة ولا في التديّن، وإنّما الاعتراض منصرف إلى المبالغة في التباعد عن مظان الفتنة، والتحرّز من مسالك الغواية.

ووجه الخطأ في هذا المقام هو أنّ المنكر على الحجاب باعتباره تزمّتًا، قد أهمل (مصدر) الحكم على الشيء بالاعتدال والتفريط؛ وهو النصّ الشرعي.. فالتزمّت هو فعل يتضمّن المبالغة في ترك المباحات.. والشرع وحده هو الذي يحدّد بصورة نهائية المباح من الممنوع.. ولمّا كان الأمر كذلك؛ وجب استنطاق نصوص الشرع للحكم على الحجاب على أنّه التزام بواجب، أم تكلّف وتزمت لم ينزل به الله سلطانًا!

وبالنظر في نصوص الوحي؛ وجدنا أنّ الحجاب فريضة شرعيّة محكمة لا يردّها مسلم البتّة، ولا يرتاب في ذلك من فقه من دين الله شيئًا.. وعندها تسقط دعوى تزمّت المحجّبات؛ لأنّ فعلهن موافق لأمر صاحب الشرع جلّ وعلا؛ فلم يمنع مباحًا، ولم يضيّق واسعًا!

 

الواقع كمصدر للفكر

رابعا/ إنّ القائل إنّ الحجاب تزمّت لم يدرك من حقيقة الحجاب شيئًا؛ وإنّما غُمّ عليه بفعل اتّخاذ الواقع (مصدرًا للفكر) لا (موضوعًا للفكر) !

إنّ هذا المعترض قد نظر فيما حوله؛ فرأى أنّ التغريب والعالمانيّة والحداثة وما بعدها، كلّها قد أنشأت مظهرًا في اللباس له خصوصيّة ومقاس.. ولأنّ هذا المعترض يميل إلى الحكم على ما يبدو من السطح، دون أن ينزع إلى الغوص في العمق؛ فقد ظنّ أن واقع بلادنا هو الذي يفرض أشكال اللباس التي تناسبه وتتساوق مع أنماطه الحياتيّة ومعاييره الجماليّة.. وهو عين الخلل في التفكير!

إنّ الواقع موضوع للتفكير والحكم والتغيير، وليس هو أصلٌ لمعرفة الحسن والقبيح.. إنّنا مطالبون بأن نغيّر الواقع حتّى يوافق أفكارنا الصائبة، ولسنا مطالبين بأن نجعل أنفسنا عرضة لتقلّب الواقع، وتغيّر أنفس الناس، وتحكم أهوائهم في أفكارهم..

إنّ عبارة ((التزمّت)) هي عبارة حمّالة أوجه، لا يمكن ضبط معناها إلاّ بتحديد معيار نعرف به الاعتدال والتطرّف، والرخاوة والشدّة، والانضباط والانفلات.. وإذا غيّرت (المعيار) ؛ تغيّر حكمك على الوسط والأطراف، والحقّ والباطل، والهدى والضلال..

وكمثال يجلّي الحال؛ أقول: توجد في بلاد الغرب بعض المناطق التي يرتادها مجموعة من الناس يسمّون بـ ((nudists)) يتبنون فلسفة ((العري)) ((Nudism)) ، وهم: رجالًا ونساءً، لا يلبسون شيئًا، عوراتهم المغلّظة مكشوفة، وهم يعتبرون أنّ هذا هو السبيل السويّ للحياة، وأن تغطية العورات هو من التكلّف الاجتماعي المصطنع، وأنّ الأصل أن يكتفي المرء بجلده، ويستغني عن كلّ لباس.. فلو مشت بينهم امرأة تلبس ملابس البحر؛ فسيبدو شكلها منكرًا، وفعلها مستهجنًا؛ لأنّها خالفت ما يرونه اعتدالًا، بترك تغطية أيّ شيء من البدن.. (1)

ولو غيّرت رِِِحْلَكَ إلى بلاد أخرى؛ فسيتغيّر المعيار، لتبدّل الأعراف.. وتبقى طول عمرك تغيّر ذوقك وحكمك وقيمك، تبعًا لتبدّل أهواء الناس، رغم أنّك نفس الإنسان؛ لحمًا وعظمًا وفكرًا، هنا وهناك..!!

 

المرأة والحقوق الآدمية

خامسا/ إنّ الفعل الذي يجب أن يدان باعتباره تزمّتًا، هو حرمان المرأة من حقوقها الآدميّة، ومنعها من الملاذ الدنيويّة الضروريّة، وقبل ذلك ما يمنعها من أن تؤدّي وظيفة العبوديّة، وما يحول بينها وبين النجاح في اختبار الدنيا لتنعم بجنان الآخرة..أمّا ما هو غير ذلك، فيخضع لمراعاة الحاجات الفرديّة والاجتماعيّة، ومصلحة الأسرة والمجتمع، وواقع البيئة.. فيُمنع الرجل من أفعال لأنّها تتعدّى على حقوق أساسيّة للمرأة والأولاد، وتمنع المرأة من حقوق لتعدّيها على حقوق أولى للزوج والولد، ويمنع الأبناء من حقوق تجور على حقوق الآباء.. وهكذا تتداخل الحقوق، وتتوسّع، وتضمر، تبعًا لتشابكها فيما بينها، وصلتها بوظيفة العبوديّة لله عزّ وجل.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. انظر مثلًا؛ Saint Alphonso Liguori، True Spouse of Jesus Christ or The Nun Sanctified by the Virtues of her State، Dublin: John Coyne، 1835 وهو زواج (روحي) له مهره الذي تدفعه الراهبة!!
  2. انظر في فلسفة هذه (الطائفة) وتاريخها؛Frances Merrill، Among the Nudists، Early Naturism، Read Books، 2008 ، وقد نشر هذا الكتاب أوّلًا سنة 1930م، وفيه دفاع عن (حق) العري في المجامع العامة!

 

المصدر:

سامي عامري، الحجاب شريعة الله في الإسلام واليهودية والنصرانية، ص41

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#شبهات-حول-الحجاب
اقرأ أيضا
الأدلة السمعية | مرابط
اقتباسات وقطوف

الأدلة السمعية


مقتطف هام لابن القيم رحمه الله يذكر فيه نوعين للأدلة السمعية وفيه رد ضمني على من يقول أن الوحي مضاد للعقل أو أن العقل في جانب والأدلة السمعية في جانب آخر فالحقيقة أن الأدلة السمعية تدل وتشتمل على الكثير من الأدلة العقلية وهذا ما يقرره ابن القيم

بقلم: ابن قيم الجوزية
3118
نصيحة ابن تيمية: لا تجعل قلبك كالإسفنجة | مرابط
اقتباسات وقطوف

نصيحة ابن تيمية: لا تجعل قلبك كالإسفنجة


وقال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليك صار مقرا للشبهات أو كما قال فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك.

بقلم: ابن القيم
493
براءة الأشاعرة من مذهب أهل السنة والجماعة الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات

براءة الأشاعرة من مذهب أهل السنة والجماعة الجزء الثاني


شكل المذهب الأشعري منهجا جديدا مختلفا عما كان عليه السلف المتقدمون منذ أول لحظة من ظهوره حيث إن الأشعري اعتمد طريقة ابن كلاب ومنهجه في تأسيس العقائد ومن حين أن ظهر المذهب الأشعري باعتباره مذهبا عقديا له أصول وعقائد خاصة اتخذ منه أئمة أهل السنة والجماعة الذين هم أخبر بمذهب الأئمة المتقدمين وأعلم بمدلولاتها موقفا واضحا وعدوه من الفرق الخارجة عن السنة التي كان عليها الصحابة وتلاميذهم ومن جاء بعدهم من الأئمة المتبوعين نتيجة لما تلبس به من أخطاء منهجية وعقدية وفي هذا المقال يضع الكاتب أمامنا أهم

بقلم: سلطان العميري
2145
أحد عشر سؤالا عن العشر الأواخر وليلة القدر | مرابط
فكر

أحد عشر سؤالا عن العشر الأواخر وليلة القدر


ماذا غير استجابة الدعاء؟ هذه ليلة عظيمة لها فضائل عظيمة وكل كلمة من الطاعة وكل فعل فيها له أجر عظيم مضاعف لا يخطر ببالك. قراءة القرآن والصلاة والصدقة وذكر الله بالثناء عليه والطلب منه بالدعاء والتذلل له والإلحاح عليه وإظهار الفقر والحاجة لله تبارك وتعالى.

بقلم: خالد بهاء الدين
783
القراءة الحداثية للسنة النبوية عرض ونقد | مرابط
فكر مقالات

القراءة الحداثية للسنة النبوية عرض ونقد


ثم كانت الخطورة حينما بدأ نفر من أبناء جلدتنا من أبناء هذه الأمة يتناولون القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة بقراءة عرفت ب الحداثية أو القراءة الجديدة للنص الديني وهي قراءة تأويلية تستمد آلياتها من خارج نطاق التداول الإسلامي بل تأتي وفقا للتجربة الغربية في فهم النصوص واللاهوتية منها خصوصا فلا تريد أن تحصل اعتقادا من النص بقدر ما تريد أن تمارس نقدها عليه واستخداما لنظريات لغوية حديثة مثل: البنيوية والتفكيكية والسيمائية وهي قراءات في حقيقتها اقتبست كل مكوناتها من الواقع الحداثي الغربي في صر...

بقلم: الشيخ الدكتور محمد بن عبد الفتاح الخطيب
2028
الاستحداث.. بين العلوم المدنية والشرعية | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاستحداث.. بين العلوم المدنية والشرعية


وهاهنا الفارق الجوهري الذي غاب في زحمة الفكر العربي المعاصر ذلك أن الاستحداث في العلوم المدنية: مؤشر إبداع مطلوب والاستحداث في العلوم الشرعية: مؤشر تراجع وانحطاط لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم بكل وضوح يؤكد للصحابة هذين المنهجين المتعاكسين: ففي العلوم المدنية يقول لهم: أنتم أعلم بأمر دنياكم وفي العلوم الشرعية يقول لهم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.

بقلم: إبراهيم السكران
493