الدنيا تغيرت الجزء الأول

الدنيا تغيرت الجزء الأول | مرابط

توظف هذه المقولة للاعتراض على بعض المقررات الشرعية، بذريعة أن النصوص الشرعية ثابتة والواقع متغير، ولذا لا يمكن أن نجمد على الثابت، وقد يسعى بعضهم إلى مقاربةٍ تظهره بمظهر المعظم للشريعة فهو يتحدث عن حجم استجابة الشريعة لمتغيرات الواقع وتقلباته، فهي ليست مجرد نصوصٍ جامدةٍ صلبةٍ لا تقبل الزحزحة أو التطوير، بل هي تتطور مع تتطور الواقع للتفاعل معه، والذي يؤول في الحقيقة إلى جعل الواقع حكمًا على الوحي.

 

وهذه الإشكالية تتفاوت في حجم انحرافها ما بين:

صور مغالية تدعي قطيعةً زمانيةً ومكانيةً مع النص، بادعاء أن النص الديني إنما نزل في ظل أوضاع وظروف زمانية ومكانية محددة، فلا يصح عزله عن سياقه الزمني والمكاني واستجلابه للتطبيق في حياتنا اليوم، بل الواجب التفاعل مع هذا الواقع المستجد بعيدًا عن ضغط النص.

وصورٍ أخف لا تظهر المصادمة لمبدأ تطبيق الشريعة في هذا الزمان، وإنما ترى صعوبة تطبيق بعض الأحكام الشرعية في هذا الزمان فتدعو لتجاوزها، وقد تتكئ على قاعدة: (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان) لهدر مثل هذه الأحكام الشرعية.

فمن يوظف هذه المقولة: (الدنيا تغيرت) لرد حكم شرعي، قد يستبطن عدم مناسبة الشريعة كلها للتطبيق، وقد يكون مقصوده الاعتراض على مناسبة تطبيق هذا الحكم الشرعي المعين لا الاعتراض على مبدأ تطبيق الشريعة.

 

الصورة الأكثر مغالاة

ونبدأ في مناقشة الصورة الأكثر مغالاة في الاعتراض، تحت دعاوى تاريخية النص: وذلك بالتذكير والتأكيد بسمتين مهمتين من سمات الشريعة وهما: الثبوت، والشمول.

فمن محكمات الشريعة أنها حاكمة ومهيمنة على الواقع، وهذه الهيمنة تستغرق مجال الزمان والمكان، فهي الشريعة الخاتمة التي ختم الله بها الرسالات، وجعلها للناس هداية حتى قيام الساعة، وجعل فيها من التشريعات والأحكام ما يستغرق تفاصيل الحياة، فرسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة لكل الناس، ومحققة لكل ما يحتاج إليه.

 

حاكمية الشريعة

وأدنى قراءةٌ للوحي كفيلةٌ للكشف عن سعة الدلالات في تقرير هذه الحقيقة الشرعية البدهية الضرورية، حيث بيَّن الوحي:

انفراد الله تعالى بحق التشريع، وأن الحكم له سبحانه وحده، فادعاء عدم صلاحية زمانٍ أو مكانٍ لحكمه يفضي إلى منازعة الله في حكمه وإعطاء العبد حق التشريع: (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ).

أنه لا حكم أحسن من حكم الشريعة، وأن الطامع في غيرها فهو طامعٌ في حكم الجاهلية، وهو ثناء مطلق على الشريعة مكانًا وزمانًا وذم لما سواه: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

كمال أحكام الشريعة وتمام النعمة بها، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا)، فمدعي انحصار التشريع بزمان أو مكان مخصوص يلزمه ادعاء احتياج الدين إلى التكميل والإضافة بحسب ملابسات الزمان والمكان.

ما تميزت به الشريعة من التفصيل والبيان الذي يحتاجه الخلق، فهي تشتمل على ما يحتاجه الإنسان، دون أن يكون منحصرًا في بيئة معينة أو زمان معين: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ).

حفظ نصوص الشريعة، وأنه لا مبدل لها ولا معقب لأحكامها، ومن العبث أن تكون محفوظة دون لزوم الأخذ بها والعمل بمقتضاها، والله منزّه عن العبث: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).

بشارة الله لخلقه بهيمنة أحكام الشريعة، وأنه كائنٌ ولا بد، وهو ما يلغي فكرة تاريخية التشريع من جذورها: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

أمر الله تعالى بالتحاكم إلى الشريعة ووجوب الحكم بها بين الناس، وأنه لا خيار للمؤمن في الخروج عنها: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا).

 

فهذه جميعًا دلائل صريحة تدل على وجوب تطبيق شريعة الله، وهو إيجاب غير مخصوص بزمانٍ أو مكانٍ، بل هو مستغرق لهما، ومدعي الخصوصية يلزمه القول بأن الله أوجب علينا ما لا يصح الأخذ به، بل الأخذ به مفسدة، بل قد لا يكون مقدورًا عليه أصلًا.

وإحصاء الدلالات القرآنية المتنوعة على هذا الأصل أكبر من أن يحتملها هذا المقام، وإنما المقصود بيان أن هذا المعنى من المعاني القطعية الظاهرة في الخطاب القرآني ومن سماته الإطلاق عن قيد الزمان والمكان، فالله هو الحكم سبحانه مطلقًا، ووجوب طاعته وحرمة الخروج عن أحكامه مطلقٌ والطاعة لا تتقيد بزمانٍ أو مكانٍ، بل هو مستغرق لتفاصيل الزمان والمكان والحياة.

 

الاعتراض على هذا التصور للحاكمية

فإن قيل: هذا التصوير لواقع حاكمية الشريعة يوقعنا في مشكلات متعددة عند إعماله على أرض الواقع، فالشريعة خاليةٌ من الشروحات التفصيلية المتعلقة بكثير من الجوانب الحياتية العمرانية، والإجراءات الإدارية والقضايا الإجرائية وغير ذلك مما يستدعي إعمالًا للذهن البشري عمليًا لسد هذا النقص، ولذا قلنا: إم الدين متعلق بشأن الآخرة، أما الدنيا فإلى الناس وعقولهم.

والحق أن هذا التصوير لطبيعة التشريع الإسلامي ينم عن إشكالية عميقة في تصور معنى حاكمية الشريعة، وحصر حق الحكم في ذات الله تبارك وتعالى، وطبيعة التشريعات الإسلامية المتعلقة بدنيا الناس، فالذي ينبغي أن نؤسس عليه نظرتنا للشريعة الإيمان بشموليتها لجانبي الدنيا والآخرة، ومن تصفح نصوص الشريعة فسيجد مادة كبيرة من التشريعات الكلية والجزئية التي تتعلق بالشأن الدنيوي ككثيرٍ من مسائل المعاملات والأحكام المتعلقة بالحدود والجنايات وأبواب السياسة الشرعية وغير ذلك.

فالعمل بمثل هذه التشريعات الكلية والتفصيلية وإعمالها في واقع الحياة داخل في تقرير هيمنة الشريعة وحاكميتها، ثم هناك منطقة العفو والمباح والذي تمثل مساحة هائلة للعقل الإنساني في استحداث ما يحتاجه ويحقق المصلحة من التشريعات والتقنينات والإجراءات بشرط واحدٍ وهو عدم وجود المعارض الشرعي، وهذا الالتفات لوجود المعارض الشرعي يؤكد طابع الهيمنة للشريعة بمراعاتها في كافة أحوال النفس الإنسانية، وتَفَهُّم هذه المسألة يزيل الإشكال الوارد في الاعتراض السابق.

فالإسلام لم يأت ببيان ما يتعلق بالقضايا الإجرائية والإدارية، وذلك مقصود للشارع توسعة على الناس، فإن طابع هذه الأمور التطور والتغير بحسب احتياجات الواقع، فجعل الشارع للإنسان فسحة في تطويرها وتغييرها باشتراطٍ وحيدٍ وهو مراعاة كليات الشريعة وأحكامها التفصيلية لئلا يتجاوز هذا التطوير أو التغيير أحكام الشريعة، وبهذا ينزاح هذا الإشكال.

 


 

المصدر:

عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص132

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#زخرف-القول
اقرأ أيضا
رد الإمام أحمد على المرجئة | مرابط
مناظرات

رد الإمام أحمد على المرجئة


تأويل من تأول القرآن بلا سنة تدل على معناها أو معنى ما أراد الله عز وجل أو أثر قال المروذي: أو أثر عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرف ذلك بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه فهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وشهدوا تنزيله وما قصه له القرآن وما عني به وما أراد به وخاص هو أو عام.

بقلم: أبو بكر الخلال
229
حول بيع وشراء القطط | مرابط
مقالات

حول بيع وشراء القطط


انتشر بين المسلمين اليوم ظاهرة شراء وبيع القطط والحيوانات بشكل عام فما حكم ذلك شرعا؟ يجيبك الدكتور قاسم اكحيلات ويوضح لك مذهب الجمهور وتفصيلات المسألة والصواب فيها.

بقلم: قاسم اكحيلات
301
توالد المعاصي | مرابط
اقتباسات وقطوف

توالد المعاصي


المعاصي تزرع أمثالها وتولد بعضها بعضا حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها كما قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها وبين يديكم مقتطف من كتاب الجواب الكافي لابن القيم يتحدث عن هذه المسألة بوضوح

بقلم: ابن القيم
827
صراع الإيمان والهوى | مرابط
اقتباسات وقطوف

صراع الإيمان والهوى


كلام بديع للعلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني يتحدث فيه عن الصراع الدائم والمستمر بين الهوى والإيمان وكيف قد يسقط المسلم صريعا للهوى مرة ثم ينهض مرة أخرى ويكشف لنا عن حال إخوان الشياطين وكيف يمدون لهم في الغي والمعصية وماذا يكون لسان حالهم

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
2032
الاغترار بصوم عاشوراء | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاغترار بصوم عاشوراء


فرمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة لا يقوى على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصغائر فكيف يكفر صوم يوم تطوع كل كبيرة عملها العبد وهو مصر عليها غير تائب منها؟! هذا محال.

بقلم: ابن القيم
374
منزلة السنة من الكتاب الكريم الجزء الثاني | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

منزلة السنة من الكتاب الكريم الجزء الثاني


إن القرآن روح الإسلام ومادته وفي آياته المحكمة شرع دستوره وبسطت دعوته وقد تكفل الله بحفظه فصينت به حقيقة الدين وكتب لها الخلود أبد الآبدين والرجل الذي اصطفاه الله لإبلاغ آياته وحمل رسالاته كان قرآنا حيا يسعى بين الناس كان مثالا لما صوره القرآن من إيمان وإخبات وسعي وجهاد وحق وقوة وفقه وبيان فلا جرم أن قوله وفعله وتقريره وأخلاقه وأحكامه ونواحي حياته كلها تعد ركنا في الدين وشريعة للمؤمنين إن الله اختاره ليتحدث باسمه ويبلغ عنه فمن أولى منه بفهم مراد الله فيما قال ومن أولى منه بتحديد المسلك الذي...

بقلم: محمد الغزالي
1533