الوسائل المعينة على القراءة النافعة ج1

الوسائل المعينة على القراءة النافعة ج1 | مرابط

الكاتب: راغب السرجاني

1890 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

 

والوسائل المعينة على القراءة عشر وسائل:

استحضار النية

الوسيلة الأولى وهي أهم الوسائل على الإطلاق: استحضار النية وتحديد الهدف.

فالناس لا يقرءون وعندهم مشكلة في القراءة؛ لأنهم لا يعرفون لماذا يقرءون؟

لو عندك امتحان في كتاب معيّن فستقرؤه، أو عندك وظيفة تحتاج إلى معلومات معيّنة ستذهب وتقرؤها، فالنية هي التي تحدد قدر الثواب الذي ستحصل عليه، فقد تعمل عملًا معينًا تأخذ عليه عشر حسنات، وقد تعمل نفس العمل بنية أفضل وأكثر تأخذ مائة حسنة أو ألف حسنة، وقد تعمل نفس العمل ويحبط تمامًا إذا لم تكن النية سليمة.

فأنا أقرأ؛ لأن الله عز وجل أمرني بالقراءة، قال لي وقال لكل المسلمين بصيغة الأمر المباشر وبمنتهى الوضوح: (( اقْرَأْ ))؛ ولذلك فأنا أطيع الله عز وجل وأقرأ، بهذا سيتحول كل حرف تقرؤه إلى حسنات.

وأنا أقرأ؛ لأنفع نفسي في الدنيا والآخرة؛ فلا فلاح في الدنيا والآخرة بغير العلم.

وأنا أقرأ؛ لأنفع من حولي: أولادي وأمي وأبي وإخواني وأخواتي وأقاربي وأصحابي، ومن أعرف، ومن لا أعرف، فأصبح كحامل المسك لا يجاوره أحد إلا وشم من طيبه ورائحته.

وأنا أقرأ؛ لأنفع أمتي؛ لأن أمة لا تقرأ أمة غير مرهوبة، ومتخلفة عن الركب، ومتبعة لغيرها، لذلك أنا أقرأ لأجعل أمتي في مقدمة الأمم.

فارضاء رب العالمين بقراءتك، ونفعك لنفسك، ولأمتك ولمن تحب من الدوافع العظيمة التي ستُشعل حماستك للقراءة.

فطالما أن هذه النية في ذهنك فلن تغيب عنك الضوابط التي ذُكرت في صدر سورة العلق؛ فأنت تقرأ باسم الله فلا بد أن تكون قراءتك على هذا المستوى، وأنت لا تتكبر بقراءتك وعلمك؛ لأنك تعلم أن الله عز وجل هو الذي منّ عليك بهذا الفضل.

فلو حرصت على استحضار النية وتحديد الهدف ستكسب في كل قراءة أشياء في غاية الأهمية:

أولًا: ستحصل على الأجر والثواب، كلما تقرأ علمًا نافعًا فإنه سيكون لك بكل حرف تقرؤه حسنة والحسنة بعشر أمثالها، ويزيد الله لمن يشاء، وستكسب ترسيخ المعلومة في ذهنك؛ لأن لها هدف معروف وهدف نبيل، وستستمتع استمتاعًا حقيقيًا بكل ما تقرأ، وهذا ينطبق على العلوم الشرعية وغيرها، سيستمتع قارئ السياسة بما يقرأ، وقارئ الاقتصاد بما يقرأ، وقارئ التاريخ بما يقرأ.

بل سيستمتع كل طالب بالمذاكرة التي يذاكرها، وستختفي معظم مشاكل الآباء والمدرسين مع الأبناء والطلاب، فالآباء والمدرسون يوجبون على الطلاب المذاكرة دون توجيه النوايا وتحديد الأهداف فتضيع الساعات والأيام والشهور والسنوات ويخرج الطالب بعد دراسة ستة عشر أو سبعة عشر سنة أقرب إلى الأمية منه إلى العلم! فضياع الهدف كارثة حقيقية.

إن علماء الإدارة يضعون أول شيء يجب أن تعمله لأي مشروع في حياتك هو تحديد الهدف بوضوح، فهو أهم وسيلة في المحافظة على القراءة.

الوسيلة الثانية: هي وضع خطة للقراءة.

لا داعي للقراءة العشوائية، ضع خطة واضحة للقراءة، ولكي تضع خطة صحيحة لا بد أن تكون على علم بإمكانياتك جيدًا، وبالوقت المتاح للقراءة، والكتب المتاحة لديك، وقدرتك على الاستيعاب، والهدف من القراءة.

بعد معرفة كل هذه العناصر ضع خطة واضحة: فمثلًا: سأقر الكتب الخمسة في خلال الأشهر الستة القادمة، أو الكتب العشرين خلال السنة القادمة أو السنتين القادمتين، فضع الخطة التي تناسبك، واقرأ الكتاب أولًا بأول، وحاول ألا تغيّر كثيرًا في الخطة التي وضعتها لنفسك إلا عند حدوث طوارئ خاصة حقيقية، اتعب أولًا في وضع الخطة وبعد ذلك التزم بها، والزم الوسط في وضع خطتك، ولا داعي للتفاؤل الكبير جدًا فتضع عشرات الكتب في وقت قليل ثم تفشل في الإنجاز فتحبط، أو تضع كتبًا قليلة فيضيع عليك الوقت، كن متوسطًا في خطتك.

وليكن لك وقفة كل عدة أشهر مع نفسك للمتابعة والتقييم: هل كنتُ واقعيًا في خطتي أم أن هناك أخطاءً؟ وإذا لم تحقق الإنجاز المطلوب هل هذا لأن الخطة ليست سليمة أو لأنه قد ظهرت معوقات تمنع من استمرار السير في الخطة بخطى سليمة؟ فكر وانظر وادرس الوضع الذي كنت فيه، وحاول تعديل خطتك حسب وضعك الذي أنت تستطيع أن تستوعب فيه الخطة الكاملة.

الوسيلة الثالثة: تحديد وقت ثابت للقراءة واستغلال الفراغات البينية

وهذا يعني ألا تنتظر إلى آخر اليوم لكي تقرأ الذي كان يجب أن تقرأه في أول النهار، ليكن لك وقت معروف ومحدد قدر ما تستطيع تقرأ فيه، حاول أن يكون ذهنك نشيطًا في هذا الوقت، وتكون فيه مستريحًا حتى تستطيع التركيز وتخرج بنتيجة، وليس مجرد تأدية واجب.

ليكن وقت القراءة -مثلًا- بعد صلاة الفجر إلى الشروق، أو قبل المغرب بساعة، أو بين المغرب والعشاء، أو بعد العشاء مباشرة أي: حسب ظروفك، حدّد وقتًا معيّنًا، وغيّر الوقت حسب الظروف التي تناسبك في حياتك بحيث لا يكون هذا التغيير متكرر وكثير.

استغل الفراغات البينية في حياتك، وهي الفراغات التي بين الأعمال، إذ أنه عادةً ما يكون هناك فراغ وقتي، حاول أن تستغله في القراءة، فمثلًا: في المواصلات أو في متجرك عند عدم وجود زبائن، أو في حال انتظارك في عيادة طبيب أو عند حلاق أو في مكتب أو غيره، ستجد أوقاتًا كثيرةً جدًا اجتمعت لك، وليكن كتابك دائمًا معك في كيس أو في حقيبة أو في يدك، وبمجرد أن تجد ربع ساعة فارغة استغلها، وستجد أن اليوم صار طويلًا وبركته زادت وربنا معك.

الوسيلة الرابعة: التدرج.

أنا أعلم أن البعض سيتحمس جدًا وسيشتري كذا كتاب، ويبدأ يفرّغ أوقاتًا طويلة جدًا للقراءة؛ لأهمية القراءة، وقد يطغى وقت القراءة على أعمال أخرى هامة جدًا في حياته! فمؤكد أن لديك أعمالًا أخرى غير القراءة أيضًا، وعندما تختل موازين حياتك ستشعر أن القراءة هي السبب، فيكون ذلك سببًا لهجر القراءة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين متين؛ فأوغل فيه برفق)، وخاصةً إذا لم تكن متعودًا على القراءة، وإلا ستجد نفسك قد مللت سريعًا، لتكن مثل لاعب الماراثون الذي يجري لمسافات طويلة فإنه يبتدئ أولًا ببطء، ثم يسرع بالتدريج، فالقراءة منهج حياة، وطريق القراءة مشوار حياتك كلها، يحتاج إلى أن تبتدئ فيه بتعقل وروية حتى تستطيع أن تصل بإذن الله.

فبعض الناس قد يكتبون، والبعض الآخر لا يكتبون إنما يسمعون العلم ويراجعونه مع أنفسهم، فالأفضل لهم تسجيل النقاط أولًا حتى يتمكنوا من مراجعة العلم.

الوسيلة الخامسة: الجدية.

القراءة ليست هواية، إنما هي عمل جاد يحتاج إلى مجهود وفكر، ووقت، ومال، وتضحية، فلا بد أن تأخذ الموضوع بجدية؛ أنت تقرأ لكي تستوعب كل كلمة تقرؤها، ولكي تستفيد وتفيد، فأنت تعمل عملًا كبيرًا جدًا عندما تقرأ، فليس لك من القراءة إلا ما عقلت؛ لذلك لا بد أن تفهم ما تقرأ، اقرأ أي كتابٍ وكأنك تذاكره، وليس مجرد قراءة، وليكن معك كشكولًا أو أوراقًا لتسجيل ملاحظاتك، فقد تجد معلومة تريد أن تخبر بها إخوانك وأصحابك، أو مسألة لم تفهمها فاكتبها لكي تسأل متخصصًا أو عالمًا، أو هنا لك عناصر مهمة جدًا في الموضوع، أو إضافة قرأتها في مكان آخر، أو اعتراض على نقطة معينة وهكذا، وستجد أن معك كشكولًا في غاية الأهمية وستركز جدًا في كل كلمة تقرؤها، فلو أخذت الموضوع بجد ستجد إمكانياتك أكثر بكثير مما تتخيله، وتحصيلك أضعاف أضعاف ما تعتقد، والمتتبع لقصص الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين يعرف المعنى الحقيقي للجدية التي أقصدها.

فمثلًا: زيد بن ثابت كان متقدمًا على الصحابة لقراءته، وكذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه، والشافعي أو أحمد بن حنبل أو الخوارزمي أو جابر بن حيان أو أبو بكر الرازي رحمهم الله جميعًا، فإن كل واحد من هؤلاء قد تعب في مجاله، وأخذ الموضوع بمنتهى الجدية؛ حتى إلى المستوى الذي وصل إليه في المجال الذي هو متخصص فيه، إن إمكانيات البشر فوق تخيّل البشر بكثير جدًا، وسبحان الذي خلق فسوّى.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#راغب-السرجاني #القراءة
اقرأ أيضا
حاجة النبي للوحي وتأخره: دليل على مصدرية القرآن | مرابط
تعزيز اليقين اقتباسات وقطوف

حاجة النبي للوحي وتأخره: دليل على مصدرية القرآن


إذا تأملت الحالات والمواقف التي كان النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة إلى نزول الوحي ولكنه كان يتأخر ستدرك بشكل قاطع أن هذا القرآن ليس من عند النبي كما ادعى أولياء الشيطان زورا وظلما وبهتانا ولكنه وحي من عند الله وإلا لو كان غير ذلك لسهل على النبي -حاشاه- أن يصدر كلاما من تلقاء نفسه وينسبه للوحي وهذا الكلام المقتطف للدكتور محمد عبد الله دراز يناقش إحدى الحوادث التي كان فيها النبي في حاجة للوحي ولكنه تأخر

بقلم: محمد عبد الله دراز
2076
حرب التتار للخلافة العباسية ببغداد ج2 | مرابط
تفريغات

حرب التتار للخلافة العباسية ببغداد ج2


بين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة للدكتور راغب السرجاني يدور حول الاجتياح المغولي للعراق والذي يعتبر من أبرز الأحداث في تاريخنا الإسلامي حيث يحمل الكثير من المآسي والعبر والدروس التي يجب أن نتعلمها فيما يخص تعامل المسلمين مع الأعداء

بقلم: راغب السرجاني
750
فقه الخلاف في حياة الصحابة | مرابط
تفريغات

فقه الخلاف في حياة الصحابة


ثمة اختلافات حدثت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها اختلافات قريبة وقد كانت عقول الصحابة كبيرة وإيمانهم عال فكانوا يعذرون بعضهم في الخلافات التي يسوغ فيها الاختلاف.. وبين يديكم نماذج مختلفة تبين لنا فقه الخلاف في حياة الصحابة الكرام

بقلم: أبو إسحق الحويني
313
الإطراق الأخير | مرابط
فكر مقالات

الإطراق الأخير


إنسان هذا العصر منهمك في دوامة الحياة اليوميةأصبح الواحد منا كأنه ترس في دالوب المهام والتفاصيل الصغيرة التي تستلمك منذ أن تستيقظ صباحا حتى تلقيك منهكا فوق سريرك في أواخر المساء دوام مضني ورسالة جوال ورسالة إيميل وتعليق فيسبوكي وخبر تويتري ومقطع يوتيوبي وتنقل بين الفضائيات وصراخ منبهات في طرق مكتظة وأعمال مؤجلة كلما تذكرتها قرصك الهم الخ الخ

بقلم: إبراهيم السكران
941
مناظرة مع طائفة ردت الأخبار كلها | مرابط
مناظرات تعزيز اليقين

مناظرة مع طائفة ردت الأخبار كلها


في هذا المقال جزء من مناظرة الإمام الشافعي رحمه الله مع أحد المنتسبين إلى طائفة ردت الأخبار كلها وفي هذا المقتطف يدور الحديث حول إثبات أن الحكمة هي السنة وأنها وحي من عند الله وأن الله فرض علينا ان نتبع الرسول صلى الله عليه وسلم

بقلم: الإمام الشافعي
2009
تطويل الطريق | مرابط
فكر

تطويل الطريق


قراءة واحدة صادقة لكتاب الله تصنع في العقل المسلم ما لا تصنعه كل المطولات الفكرية بلغتها الباذخة وخيلائها الاصطلاحي قراءة واحدة صادقة لكتاب الله كفيلة بقلب كل حيل الخطاب الفكري المعاصر رأسا على عقب هذا القرآن حين يقرر المسلم أن يقرأه بتجرد فإنه لا يمكن أن يخرج منه بمثل ما دخل عليه هذا القرآن يقلب شخصيتك ومعاييرك وموازينك وحميتك وغيرتك وصيغة علاقتك بالعالم والعلوم والمعارف والتاريخ

بقلم: إبراهيم السكران
8265