بين منهجين: ابن تيمية والرازي

بين منهجين: ابن تيمية والرازي | مرابط

الكاتب: عبد الله القرني

410 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

الرازي وابن تيمية ليسا مجرد عالمين بينهما اختلاف في بعض المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، بحيث ينظر إلى أن كلا منهما يحسن ما لا يحسنه الآخر، وأن أحدهما إذا أصاب في مسألة أو في جانب من جوانب العلم فإن الآخر قد يكون معه الصواب في مسألة أخرى أو جانب آخر من جوانب العلم، وإنما الخلاف بينهما هو في حقيقة الحال امتداد للخلاف بين منهجين متضادين ومدرستين متعارضتين، يلزم من الحكم لإحداهما بأنها على الحق أن تكون الأخرى على الباطل.

فالرازي من رؤوس أهل الكلام المنحرفين عن السنة، بل بالغ في تتبع الإشكالات العقلية التي تورث الشكوك وتصادم دلالات النصوص وما أثر عن السلف حتى خلط طريقة الأشاعرة بما أدخله عليهم من تقريرات الفلاسفة.

ومع التزامه بما هو الأصل في انحراف المتكلمين من القول بالتعارض بين العقل والنقل وما بنوه عليه من الالتزام بتأويل النصوص أو تفويضها في حال معارضتها لما يدعون أنها قطعيات عقلية، مع أنها في حقيقتها جهليات = إلا أنه أضاف إلى ذلك ما ابتدعه من القول بأن دلالات النصوص لا تفيد اليقين إلا مع تجاوز عشرة شروط يتعذر معها الاكتفاء بنصوص الوحي في إفادة اليقين، وفتح بذلك باب شر عظيم على الأمة.

ثم هو مع ذلك على قول الجبرية في باب القدر، وصرح بأنه لا معنى للكسب، وأنه ليس إلا الجبر المحض، كما إنه على القول بالإرجاء في باب الأسماء والأحكام كغيره من أئمة الأشاعرة.

ومعلوم أن من خالف في أصل من هذه الأصول فكان على القول بالتعطيل أو كان من الجبرية أو المرجئة لم يكن ممن يسوغ خلافه أو يعتبر قوله فيما خالف فيه، فكيف إذا تحققت للرازي المخالفة لأهل السنة في هذه الأصول كلها، وكيف يمكن أن يقال إنه قد تفرد في العقليات بما لم يحصل لغيره، وينظر إليه على أنه قد فتح عليه من العلم النافع بما لم يفتح على غيره، وأي عقليات تعتبر مع بطلان ما بني عليها من الشكوك والحيرة ومصادمة نصوص الوحي، وإذا كان هو قد تحقق من بطلانها بعد طول تجربة وأوصى بتركها والرجوع إلى طريقة القرآن، فما الحيلة فيمن لا يقبل ما نصح هو به.

وأما ابن تيمية فيقوم منهجه على تجديد الدين، والالتزام بما أجمع عليه السلف، وإقامة البراهين النقلية والعقلية على أنه هو الحق، وتحرير وجه المفاصلة بين المأثور عن سلف الأمة وبين ما أدخله المتكلمون والفلاسفة والصوفية على أصول الاعتقاد من الشبهات، وإظهار أنها مع مخالفتها لنصوص الوحي فهي مخالفة للعقل الفطري، واستحق بذلك أن تكون له المنزلة العالية في الانتصار لأهل الأثر، ومع ذلك فلا أحد من أهل العلم لا هو ولا غيره معصوم من الخطأ، والعبرة إنما هي بلزوم ما كان عليه سلف الأمة والحرص على مجانبة البدع وأهلها.

وعلى هذا فينبغي أن تكون المقارنة بين الرازي وابن تيمية وفق هذا المعيار المنهجي القائم على التمييز بين هذين الاتجاهين، وعدم التساهل مع من يتدسسون لنشر عقائد تواتر إجماع أهل السنة على رفضها وإبطالها عبر القرون، وإظهار ذلك في قالب الإنصاف والحياد العلمي وتقدير الأثر التاريخي للرازي وغيره ممن هم على شاكلته.

ولا شك أنه كان للرازي الأثر الكبير، وأنه تشكلت بعده مدرسة لها صدى واسع في مجالات علمية عديدة، ولكن القيمة العلمية لا تخضع لمجرد إثبات وجود هذا الأثر وانتشاره، وإنما لما لهذا الأثر من اعتبار في ميزان النقد العلمي المنظبط بأصول أهل السنة والجماعة.

ولو فتح الباب لمثل هذه المحاولات التي تتستر بالبحث التاريخي البعيد عن الأدلجة كما يقولون لأمكن أن يصل الأمر إلى التساهل في عرض موقف الرازي من الصحابة وتشكيكه في نقلهم للسنة بما يجاوز إشكالات المستشرقين، ولأمكن أن نجد من يقول بتسويغ قبول ما ذكره الرازي عند تفسيره لآية: "ليس كمثله شيء.." من أن كتاب التوحيد للإمام ابن خزيمة هو في الحقيقة كتاب الشرك، إلى غير ذلك من الطوام التي ليس المقام هنا لذكرها، وقد أجمل الحافظ ابن حجر وصفه لها بقوله:" له تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث الحيرة ".

وليس الكلام هنا عن شخص الرازي ولا عن مآله عند ربه فإنه يرجى أن يتجاوز الله عنه، وإنما الكلام عما يخشى من متابعته على ما حصل منه من انحرافات كان قد تاب منها، ومما ذكره عنه الذهبي في ترجمته له أنه: "قد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنة، والله يعفو عنه فإنه توفي على طريقة حميدة، والله يتولى السرائر... وقد اعترف في آخر عمره حيث يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: (الرحمن على العرش استوى) (إليه يصعد الكلم الطيب)، وأقرأ في النفي (ليس كمثله شيء)، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#ابن-تيمية #الرازي
اقرأ أيضا
التغريب: الأهداف والأساليب ج5 | مرابط
فكر تفريغات أبحاث

التغريب: الأهداف والأساليب ج5


التغريب مصطلح يطلق على الانسياق وراء الحضارة الغربية سواء في الاعتقاد أو الاقتصاد أو غير ذلك وقد سعى الغرب في تغريب الأمة الإسلامية بشتى الوسائل والتي منها: الاستعمار العسكري والفكري ونشر مدارس التغريب في بلاد المسلمين والابتعاث ولكون التغريب يشكل خطرا على المسلمين في دينهم وجب مواجهته بشتى السبل والتي منها: التمسك بالإسلام الحق وفضح مدارس التغريب ونشر العلم الشرعي وما أشبه ذلك

بقلم: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
2286
قاعدة الجزاء والحساب ج1 | مرابط
تفريغات

قاعدة الجزاء والحساب ج1


إن الله تبارك وتعالى حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرما لما له من نتائج وخيمة وعواقب أليمة وكان ينبغي لأولئك الذين يظلمون العباد ويسعون في الأرض الفساد أن يتعظوا ويعتبروا بمن سبقهم من الظلمة وهنيئا لذلك الرجل الذي امتلأ قلبه بحب الله فهو يعلم أن هدايته بيد الله وأن رزقه سيأتي إليه رضي الطواغيت أم سخطوا لأن الله هو الذي كتبه

بقلم: عمر الأشقر
852
المروجون لسؤال غير الله ودعائه | مرابط
أباطيل وشبهات فكر

المروجون لسؤال غير الله ودعائه


إن المروجين لسؤال غير الله ودعائه والنذر له.. بأقوالهم وأفعالهم هم كذلك يحاربون الفطرة والدين والعقل. أولئك مضلون صادون عن سبيل الله وهؤلاء كذلك.. ويجب بيان باطلهم وكشفهم وفضحهم بكل وضوح صراحة. هم والله قطاع طرق يصدون عن سبيل الله. ولا أعلم شيئا أولى بالرد والبيان والتفصيل من مقام إخلاص الدين لله الذي هو الأصل الذي خلق الله له السموات والأرض وما بينهما.. أن يكون الدين كله لله وليس بعضه له وبعضه لشركائهم!

بقلم: حسين عبد الرازق
400
وصف حي لتسليم غرناطة | مرابط
تاريخ

وصف حي لتسليم غرناطة


وفي الثاني من ربيع الأول 897ه كانون الثاني يناير سنة 1492م وفي وقت الصباح تم تسليم المدينة فما أن تقدم النصارى الإسبان القشتاليون من تل الرخى صاعدين نحو الحمراء حتى تقدم أبو عبد الله الصغير وهو يلبس أثواب الهزيمة وعلى وجهه العار والشنار وقال للقائد القشتالي بصوت مسموع: هيا يا سيدي في هذه الساعة الطيبة وتسلم القصور -قصوري- باسم الملكين العظيمين اللذين أراد لهما الله القادر أن يستوليا عليها لفضائلهما وزلات المسلمين

بقلم: علي محمد الصلابي
4410
ثبات أم موسى أمام الابتلاءات | مرابط
تفريغات المرأة

ثبات أم موسى أمام الابتلاءات


ننتقل إلى قصة أخرى من قصص النساء في القرآن الكريم: ألا وهي قصة أم موسى صلى الله عليه وسلم.. هذه المرأة التي ربط الله على قلبها.. هذه المرأة التي أوتيت خيرا كثيرا.. هذه المرأة بلغ بها الخير أن الله أوحى إليها وحيا من نوع خاص ليس من وحي الأنبياء لما ولدت يوسف وأرضعته أوحى إليها إذا خافت عليه من جند فرعون الذين كانوا يذبحون أولاد بني إسرائيل أن تلقيه في اليم.

بقلم: محمد المنجد
406
عبقرية اللغة العربية | مرابط
لسانيات

عبقرية اللغة العربية


يحضرني عبقرية الفقهاء قديما في اختيار مصطلحاتهم في الفقه وفي العلوم..كيف ربطوا من خلالها بين العلم والدين ببراعة شديدة؟! وكيف وسعت العربية الفذة هذا الأمر؟! تأمل مثلا استعمالهم لفظ المكلف للتعبير عن المخاطب في الكلام.. فأي فعل لا ينفك عنه معنى الافتقار والعبودية.. يمكن أن تفهم ذلك أكثر من ملاحظة استعمال القانون مثلا للفظ العاقل للتعبير عن المخاطب.

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
336