بين منهجين: ابن تيمية والرازي

بين منهجين: ابن تيمية والرازي | مرابط

الكاتب: عبد الله القرني

353 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

الرازي وابن تيمية ليسا مجرد عالمين بينهما اختلاف في بعض المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، بحيث ينظر إلى أن كلا منهما يحسن ما لا يحسنه الآخر، وأن أحدهما إذا أصاب في مسألة أو في جانب من جوانب العلم فإن الآخر قد يكون معه الصواب في مسألة أخرى أو جانب آخر من جوانب العلم، وإنما الخلاف بينهما هو في حقيقة الحال امتداد للخلاف بين منهجين متضادين ومدرستين متعارضتين، يلزم من الحكم لإحداهما بأنها على الحق أن تكون الأخرى على الباطل.

فالرازي من رؤوس أهل الكلام المنحرفين عن السنة، بل بالغ في تتبع الإشكالات العقلية التي تورث الشكوك وتصادم دلالات النصوص وما أثر عن السلف حتى خلط طريقة الأشاعرة بما أدخله عليهم من تقريرات الفلاسفة.

ومع التزامه بما هو الأصل في انحراف المتكلمين من القول بالتعارض بين العقل والنقل وما بنوه عليه من الالتزام بتأويل النصوص أو تفويضها في حال معارضتها لما يدعون أنها قطعيات عقلية، مع أنها في حقيقتها جهليات = إلا أنه أضاف إلى ذلك ما ابتدعه من القول بأن دلالات النصوص لا تفيد اليقين إلا مع تجاوز عشرة شروط يتعذر معها الاكتفاء بنصوص الوحي في إفادة اليقين، وفتح بذلك باب شر عظيم على الأمة.

ثم هو مع ذلك على قول الجبرية في باب القدر، وصرح بأنه لا معنى للكسب، وأنه ليس إلا الجبر المحض، كما إنه على القول بالإرجاء في باب الأسماء والأحكام كغيره من أئمة الأشاعرة.

ومعلوم أن من خالف في أصل من هذه الأصول فكان على القول بالتعطيل أو كان من الجبرية أو المرجئة لم يكن ممن يسوغ خلافه أو يعتبر قوله فيما خالف فيه، فكيف إذا تحققت للرازي المخالفة لأهل السنة في هذه الأصول كلها، وكيف يمكن أن يقال إنه قد تفرد في العقليات بما لم يحصل لغيره، وينظر إليه على أنه قد فتح عليه من العلم النافع بما لم يفتح على غيره، وأي عقليات تعتبر مع بطلان ما بني عليها من الشكوك والحيرة ومصادمة نصوص الوحي، وإذا كان هو قد تحقق من بطلانها بعد طول تجربة وأوصى بتركها والرجوع إلى طريقة القرآن، فما الحيلة فيمن لا يقبل ما نصح هو به.

وأما ابن تيمية فيقوم منهجه على تجديد الدين، والالتزام بما أجمع عليه السلف، وإقامة البراهين النقلية والعقلية على أنه هو الحق، وتحرير وجه المفاصلة بين المأثور عن سلف الأمة وبين ما أدخله المتكلمون والفلاسفة والصوفية على أصول الاعتقاد من الشبهات، وإظهار أنها مع مخالفتها لنصوص الوحي فهي مخالفة للعقل الفطري، واستحق بذلك أن تكون له المنزلة العالية في الانتصار لأهل الأثر، ومع ذلك فلا أحد من أهل العلم لا هو ولا غيره معصوم من الخطأ، والعبرة إنما هي بلزوم ما كان عليه سلف الأمة والحرص على مجانبة البدع وأهلها.

وعلى هذا فينبغي أن تكون المقارنة بين الرازي وابن تيمية وفق هذا المعيار المنهجي القائم على التمييز بين هذين الاتجاهين، وعدم التساهل مع من يتدسسون لنشر عقائد تواتر إجماع أهل السنة على رفضها وإبطالها عبر القرون، وإظهار ذلك في قالب الإنصاف والحياد العلمي وتقدير الأثر التاريخي للرازي وغيره ممن هم على شاكلته.

ولا شك أنه كان للرازي الأثر الكبير، وأنه تشكلت بعده مدرسة لها صدى واسع في مجالات علمية عديدة، ولكن القيمة العلمية لا تخضع لمجرد إثبات وجود هذا الأثر وانتشاره، وإنما لما لهذا الأثر من اعتبار في ميزان النقد العلمي المنظبط بأصول أهل السنة والجماعة.

ولو فتح الباب لمثل هذه المحاولات التي تتستر بالبحث التاريخي البعيد عن الأدلجة كما يقولون لأمكن أن يصل الأمر إلى التساهل في عرض موقف الرازي من الصحابة وتشكيكه في نقلهم للسنة بما يجاوز إشكالات المستشرقين، ولأمكن أن نجد من يقول بتسويغ قبول ما ذكره الرازي عند تفسيره لآية: "ليس كمثله شيء.." من أن كتاب التوحيد للإمام ابن خزيمة هو في الحقيقة كتاب الشرك، إلى غير ذلك من الطوام التي ليس المقام هنا لذكرها، وقد أجمل الحافظ ابن حجر وصفه لها بقوله:" له تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث الحيرة ".

وليس الكلام هنا عن شخص الرازي ولا عن مآله عند ربه فإنه يرجى أن يتجاوز الله عنه، وإنما الكلام عما يخشى من متابعته على ما حصل منه من انحرافات كان قد تاب منها، ومما ذكره عنه الذهبي في ترجمته له أنه: "قد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنة، والله يعفو عنه فإنه توفي على طريقة حميدة، والله يتولى السرائر... وقد اعترف في آخر عمره حيث يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: (الرحمن على العرش استوى) (إليه يصعد الكلم الطيب)، وأقرأ في النفي (ليس كمثله شيء)، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#ابن-تيمية #الرازي
اقرأ أيضا
كيف حرمت المرأة الغربية من شخصيتها | مرابط
المرأة

كيف حرمت المرأة الغربية من شخصيتها


لقد ألحقت الحضارة الخزي بالأمهات بصفة خاصة فهي تفضل على الأمومة أن تحترف الفتاة مهنة البيع أو أن تكون موديلا أو معلمة لأطفال الآخرين أو سكرتيرة أو عاملة نظافة. إنها الحضارة التي أعلنت أن الأمومة عبودية ووعدت بأن تحرر المرأة منها. وتفخر بعدد النساء اللاتي نزعتهن تقول حررتهن من الأسرة والأطفال لتلحقهن بطابور الموظفات.

بقلم: علي عزت بيجوفيتش
281
عن الخطرات | مرابط
مقالات

عن الخطرات


وأما الخطرات: فشأنها أصعب فإنها مبدأ الخير والشر ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب ومن استهان بالخطرات قادته قهرا إلى الهلكات ولا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير منى باطلة

بقلم: ابن القيم
399
الابتلاء بالسفهاء | مرابط
مقالات

الابتلاء بالسفهاء


الجامع المشترك بين أولئك السفهاء هو: اتباعهم للخواطر النفسية الغضبية الشيطانية دون مراجعة ومحاسبة عميقة توقفهم أمام المحكمات وتكفهم عن سوء الظن ووتحجبهم عن الاستعجال في الحكم على المسلمين وتذكرهم بخطورة موقف السؤال بين يدي الله تعالى عن حقوق المسلمين.

بقلم: أحمد يوسف السيد
505
في أنماط القراءة ومسالك القراء | مرابط
فكر مقالات ثقافة

في أنماط القراءة ومسالك القراء


في هذا المقال يستعرض إبراهيم السكران أنماط الناس في القراءة والمطالعة ومساراتهم التي تغلب عليهم وتستتبع أساليب تعاملهم مع العلم ومن ذلك هذه الأنماط القرائية الخمسة: القراءة الملحية القراءة الوراقية القراءة المستهلكة القراءة التحصيلية القراءة البحثية

بقلم: إبراهيم السكران
2235
العجيبة الثامنة ج2 | مرابط
فكر مقالات

العجيبة الثامنة ج2


المكتبة الإسلامية هي عجيبة العجائب ذهب جلها ولم يبق منها إلا قلها وهذا الذي بقى هو الأقل الأقل وهو على ذلك شيء عظيم ففي مكتبات إسطنبول كما نقلوا أكثر من مئتي ألف مخطوطة جلبها العثمانيون من العواصم العربية والإسلامية وفي شمالي إفريقيا مئتا ألف مخطوط في مكتبات القيروان وفاس وحواضر الشمال الإفريقي المسلم وفي مصر ثمانون ألف مخطوط وفي موريتانيا واليمن وغيرهما

بقلم: علي الطنطاوي
838
ثغر اللسان | مرابط
مقالات

ثغر اللسان


واعلموا أن أكبر أعوانكم على لزوم هذه الثغور مصالحة النفس الأمارة فأعيوها واستعينوا بها وأمدوها واستمدوا منها وكونوا معها على حرب النفس المطمئنة فاجتهدوا في كسرها وإبطال قواها ولا سبيل إلى ذلك إلا بقطع موادها عنها فإذا انقطعت موادها وقويت مواد النفس الأمارة وانطاعت لكم أعوانها فاستنزلوا القلب من حصنه واعزلوه عن مملكته وولوا مكانه النفس الأمارة فإنها لا تأمر إلا بما تهوونه وتحبونه ولا تجيئكم بما تكرهونه ألبتة

بقلم: ابن القيم
716