حكم قطز والاستعداد لمواجهة التتار ج1

حكم قطز والاستعداد لمواجهة التتار ج1 | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

615 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحالة السياسية والاجتماعية لمصر

من الناحية السياسية كان الوضع متأزمًا جدًا، أمراء مصر على صراع شديد على الحكم بين أواخر الأيوبيين وأوائل المماليك، ففي وقت اجتياح بغداد كان يتولى حكم مصر طفل لم يبلغ خمس عشرة سنة من عمره، طفل اسمه نور الدين علي، ابن السلطان السابق لمصر عز الدين أيبك، وكان وزيره الأول هو الأمير قطز رحمه الله.
أما الوضع الاقتصادي فكان متدهورًا للغاية في مصر، فقد أنهكت مصر سلسلة من الحملات الصليبية المتتالية، آخر واحدة منهن كانت موقعة المنصورة الشهيرة ضد الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، وانتصر فيها المسلمون انتصارًا باهرًا في سنة (648هـ)، يعني: قبل تدمير بغداد بثمان سنين.

ومع رداءة هذا الوضع السياسي والاقتصادي، إلا أن الشعب لم يكن متأثرًا تمامًا بهذه الظروف السيئة التي تمر بها البلاد، فقد كان لدى الشعب شيئان في منتهى الأهمية في تلك الفترة: العلم، والجهاد، فقد كانوا دائمًا يعظمون جدًا من أمر العلم والعلماء، ويعظمون من أمر الجهاد في سبيل الله، فقد كان الشعب لديه حمية للجهاد، ألف حياة المشقة والبذل من جراء الحروب المتتالية التي مر بها، ونتيجة صدق العلماء الذين كانوا يعيشون في هذه الفترة من الزمان.

 

استلام قطز حكم مصر

في سنة (657هـ) وبعد أن دمرت بغداد، وبدأ التتار في اجتياح الشام؛ رأى الأمير قطز النائب الأول للسلطان الطفل نور الدين علي أن أمر البلاد لن يصلح، وأن مقاومة التتار مستحيلة والبلاد تحت حكم طفل لا يستطيع أن يدبر شئون نفسه فضلًا عن شعبه وأمته، فقام قطز رحمه الله بعزل الطفل السلطان، ووضع نفسه على كرسي الحكم في مصر، وبدأ يعد العدة لأمر عظيم، جمع قطز المستشارين من كبار المماليك وكبار قواد الجيش والعلماء، وأشهرهم العز بن عبد السلام رحمه الله، وكان قد تجاوز الثمانين عامًا في ذلك الوقت، ثم قال لهم: إنه لم يطلب الملك لذاته وإنما طلبه لحرب التتار، فإذا كتب الله له النصر على التتار ترك الشعب يختار أميره بعد ذلك بإرادته.

إذًا: قطز صرح لأمرائه أنه ما طلب الملك إلا لحرب التتار، فبدأ الأمراء المماليك يترددون، فقد وصلت أنباء التتار المخيفة عن حرب التتار، لكن قطز رحمه الله بدأ يضرب لهم مثلًا رائعًا في فهمه للإسلام، ويعطي لهم قدوةً راقية في الجهاد، لقد أعلن قطز لهم أنه سيذهب بنفسه لحرب التتار، ويكون مع جنوده في قلب المعركة، ولن يرسل جيشًا ويبقى هو في عرينه بمصر، بل سيذوق مع شعبه ما يذوقون، ويتحمل ما يتحملون، ولو أرسل قطز جيشًا وبقي هو في القاهرة ما لامه أحد، ولكنه لم ير هناك وسيلة أفضل من ذلك؛ لتحميس القلوب الخائفة، وتثبيت الأفئدة المضطربة.

فقه قطز رحمه الله ما علمه الناس نظريًا لا عمليًا، لقد فقه أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فقه أن الشجاعة لا تقصر الأعمار، وأن الجبن لا يخلد الإنسان في الحياة، فقه أن الحياة بعزة ساعة خير من البقاء أبد الدهر في ذلة وهوان.

ثم قام قطز رحمه الله وقال للناس: من للإسلام إن لم نكن نحن؟ فضج الأمراء بالبكاء وقاموا خلفه ينادون بالجهاد في سبيل الله، وقد علم أنه من كانت هذه صفته فهو منصور إن شاء الله.

 

تجهيز الجيوش وإعداد العدة

وقام قطز رحمه الله في نشاط يجهز الجيوش ويعد السلاح ويرتب الخيول ويحمس الناس، ولكن واجهته مشكلة ضخمة، وهو أن بيت المال يعاني من ضائقة شديدة، والحالة الاقتصادية متردية، فأراد قطز رحمه الله أن يفرض على الناس الضرائب لتجهيز الجيش، فقام إليه العز بن عبد السلام رحمه الله، وقال له ولأمراء المماليك جميعًا: إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم، وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهادهم -أي: فوق الزكاة- ثم علق هذا الأمر على أمرين:

الشرط الأول: ألا يبقى في بيت المال شيء.

والشرط الثاني: أن تبيعوا مالكم من الممتلكات والآلات، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه وتتساووا في ذلك أنتم والعامة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا، فاستجاب قطز رحمه الله وباع ما يملك، وأمر الأمراء بذلك، وجهز جيشًا صادقًا من المسلمين، وقرر قطز رحمه الله أن يخرج بجيشه إلى حرب التتار في فلسطين، ولا ينتظر حتى يقدموا عليه في مصر، فقامت دعوة في أمراء المماليك بأن يبقى قطز في مصر بجيشه، ولا يخرج إلى فلسطين لقتال التتار، وأن يبقى لحماية مصر، فمصر هي مملكته، وفلسطين مملكة أخرى. هكذا قيل.

 

حماية مصر

ولكن قطز رحمه الله جمع أمراءه، وأفهمهم حقائق غابت عن أذهان كثير منهم، أفهمهم أن حماية مصر يبدأ من حدودها الشرقية، ولا يمكن أبدًا أن يحيا أهل مصر في أمان والعدو الصليبي والتتري يعيش في فلسطين. هذه واحدة.

الثاني: أنه من الأفضل عسكريًا أن ينقل المعركة إلى أرض خصمه، وأن يكون له خط رجعة، بدلًا من أن تحدث هزيمته في مصر إن حدثت، فتضيع البلاد برمتها.

الأمر الثالث: أنه من الأفضل عسكريًا أن يفاجئ أعداءه قبل أن يستعدوا له.

الأمر الرابع: أن لهم فوق ذلك كله دورًا هامًا ناحية إخوانهم في فلسطين والشام والعراق، ولن تزول أقدامهم يوم القيامة إلا بعد أن يسألوا عن هذا الدور.

الأمر الخامس: أن لهم دورًا في حرب أعداء المسلمين، حتى وإن لم يفكروا أصلًا في دخول قطرهم المحدود ما داموا يعيثون في أرض الله الفساد.

واقتنع المخلصون بالأمر، وبدأ الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله يذكر الناس بالجهاد، واعتلى العلماء المجاهدون منابر البلاد، وألهبوا مشاعر الناس بالحمية لهذا الدين، ورغبوا الناس في الجنة، وزهدوهم في أمر الدنيا وعظموا الجهاد وأهله، وذكروهم بأيام الله، ذكروهم ببدر واليرموك والقادسية، وذكروهم بحطين، التي لم يمض عليها إلا (75) عامًا، وذكروهم بمعركة المنصورة، التي لم يمض عليها إلا عشر سنين.

ومع كل هذا إلا أن فريقًا من المسلمين دبّ الرعب في قلوبهم، وجالت بأذهانهم صور ما سمعوه عن التتار، فبدأ بعض الناس بالفرار إلى المغرب وإلى اليمن وإلى الحجاز، فهل قيدهم قطز؟ أو أجبرهم على الاشتراك؟ أبدًا إنه تركهم في غيهم يعمهون، لقد فقه قطز رحمه الله أن النصر لن ينزل إلا على الثابتين الذين لا يولون الأدبار، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال:45].

وفقه أن الجيوش لا تنصر بأعدادها ولا عتادها، وإنما تنصر بطاعتها لله عز وجل واعتمادها عليه.

وفقه أن هؤلاء الذين فروا لو خرجوا مع الجيش لاضطرب الجيش وانهزم، قال تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47].

وفقه قطز أن الذي يوهب الحياة هو الذي يحرص على الموت، وأن الذي يوهب النصر هو الذي يحرص على الجنة.

 


 

المصدر:

محاضرة للدكتور راغب السرجاني بعنوان التتار وغزو العراق

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
الليبرالية الجنسية | مرابط
فكر مقالات الليبرالية

الليبرالية الجنسية


تحولت العروض الإباحية من الدناءة الأخلاقية إلى الشيوع دون عواقب كبيرة: لم تعد تتهم بأنها خطر على النظام الاجتماعي فاليوم صارت بعض الممثلات الإباحيات ينتخبن في البرلمان الإيطالي. لقد حررت الثقافة المتعية الفردانية الإيروس من فكرة الإثم وأعطت المشروعية لاستراق النظر الجماعي وعوضت الأجنحة المغلقة الخاصة بالكتب الفاحشة في المكتبات الوطنية بالعلامات المضيئة للمحلات الإباحية

بقلم: د. البشير عصام المراكشي
623
ضرر الذنوب في القلب | مرابط
اقتباسات وقطوف

ضرر الذنوب في القلب


ينبغي أن يعلم أن الذنوب والمعاصي تضر ولا بد أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب

بقلم: ابن القيم
284
استشعار عظمة الله | مرابط
اقتباسات وقطوف

استشعار عظمة الله


وللأسف الشديد أن المشركين الأوائل كانوا يفقهون معنى كلمة لا إله إلا الله أكثر من بعض المنتسبين إلى العلم الآن من المسلمين كان أبو جهل أفقه لمعنى لا إله إلا الله من هذا الذي ينسب إلى العلم ويقول: إن الطواف بالقبور ليس شركا لماذا قامت الحروب ولماذا صبر العرب على حشد الغلاصم وقطع الحلاقم ونفذ الأراقم ومتون الصوارم

بقلم: أبو إسحق الحويني
512
ذكر الربا وآكله في السنة | مرابط
تفريغات

ذكر الربا وآكله في السنة


الربا من السبع الموبقات ودليل ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين والحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتنبوا السبع الموبقات قيل: وما هي يا رسول الله؟! قال: الشرك بالله والسحر

بقلم: سعيد بن مسفر
320
هل نهى النبي عن تدوين السنة مطلقا؟ | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات أبحاث

هل نهى النبي عن تدوين السنة مطلقا؟


نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تدوين السنة ليس نهيا مطلقا ولكنه متعلق بعلة علم ذلك من النصوص الصحيحة الأخرى التي أباح فيها النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة وكذلك نهى بعض الصحابة عن التدوين كان لنفس العلة علم ذلك من سماح بعض الناهين عن التدوين بالتدوين في بعض الأحيان التي أمنوا فيها وقوع العلة بل وقيامهم هم أنفسهم بذلك وكذلك من مواقف الصحابة الآخرين الذي كانوا يبيحون التدوين ويحثون عليه.

بقلم: معتز عبد الرحمن
299
أهمية الإعراض عن الشبهات والبعد عنها خشية الافتتان بها | مرابط
مقالات

أهمية الإعراض عن الشبهات والبعد عنها خشية الافتتان بها


إن من أعظم المجالس التي قد يبتلى بها المؤمن: مجالسة أصحاب الشبهات الذين لا يجدون شيئا للحديث فيه إلا المتشابه من القرآن وتقليب الشبهات وإن كان ظاهرا بغرض الرد عليها وفقد توالت الأخبار عن السلف الصالح بأنهم يتجنبون الشبهات بكل شكل ممكن خوفا على قلوبهم أن تفتن وفي هذا المقال توثيق لكلام كثير من السلف وأهل العلم

بقلم: عمار محمد أعظم
2047