حكم قطز والاستعداد لمواجهة التتار ج1

حكم قطز والاستعداد لمواجهة التتار ج1 | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

702 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحالة السياسية والاجتماعية لمصر

من الناحية السياسية كان الوضع متأزمًا جدًا، أمراء مصر على صراع شديد على الحكم بين أواخر الأيوبيين وأوائل المماليك، ففي وقت اجتياح بغداد كان يتولى حكم مصر طفل لم يبلغ خمس عشرة سنة من عمره، طفل اسمه نور الدين علي، ابن السلطان السابق لمصر عز الدين أيبك، وكان وزيره الأول هو الأمير قطز رحمه الله.
أما الوضع الاقتصادي فكان متدهورًا للغاية في مصر، فقد أنهكت مصر سلسلة من الحملات الصليبية المتتالية، آخر واحدة منهن كانت موقعة المنصورة الشهيرة ضد الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، وانتصر فيها المسلمون انتصارًا باهرًا في سنة (648هـ)، يعني: قبل تدمير بغداد بثمان سنين.

ومع رداءة هذا الوضع السياسي والاقتصادي، إلا أن الشعب لم يكن متأثرًا تمامًا بهذه الظروف السيئة التي تمر بها البلاد، فقد كان لدى الشعب شيئان في منتهى الأهمية في تلك الفترة: العلم، والجهاد، فقد كانوا دائمًا يعظمون جدًا من أمر العلم والعلماء، ويعظمون من أمر الجهاد في سبيل الله، فقد كان الشعب لديه حمية للجهاد، ألف حياة المشقة والبذل من جراء الحروب المتتالية التي مر بها، ونتيجة صدق العلماء الذين كانوا يعيشون في هذه الفترة من الزمان.

 

استلام قطز حكم مصر

في سنة (657هـ) وبعد أن دمرت بغداد، وبدأ التتار في اجتياح الشام؛ رأى الأمير قطز النائب الأول للسلطان الطفل نور الدين علي أن أمر البلاد لن يصلح، وأن مقاومة التتار مستحيلة والبلاد تحت حكم طفل لا يستطيع أن يدبر شئون نفسه فضلًا عن شعبه وأمته، فقام قطز رحمه الله بعزل الطفل السلطان، ووضع نفسه على كرسي الحكم في مصر، وبدأ يعد العدة لأمر عظيم، جمع قطز المستشارين من كبار المماليك وكبار قواد الجيش والعلماء، وأشهرهم العز بن عبد السلام رحمه الله، وكان قد تجاوز الثمانين عامًا في ذلك الوقت، ثم قال لهم: إنه لم يطلب الملك لذاته وإنما طلبه لحرب التتار، فإذا كتب الله له النصر على التتار ترك الشعب يختار أميره بعد ذلك بإرادته.

إذًا: قطز صرح لأمرائه أنه ما طلب الملك إلا لحرب التتار، فبدأ الأمراء المماليك يترددون، فقد وصلت أنباء التتار المخيفة عن حرب التتار، لكن قطز رحمه الله بدأ يضرب لهم مثلًا رائعًا في فهمه للإسلام، ويعطي لهم قدوةً راقية في الجهاد، لقد أعلن قطز لهم أنه سيذهب بنفسه لحرب التتار، ويكون مع جنوده في قلب المعركة، ولن يرسل جيشًا ويبقى هو في عرينه بمصر، بل سيذوق مع شعبه ما يذوقون، ويتحمل ما يتحملون، ولو أرسل قطز جيشًا وبقي هو في القاهرة ما لامه أحد، ولكنه لم ير هناك وسيلة أفضل من ذلك؛ لتحميس القلوب الخائفة، وتثبيت الأفئدة المضطربة.

فقه قطز رحمه الله ما علمه الناس نظريًا لا عمليًا، لقد فقه أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فقه أن الشجاعة لا تقصر الأعمار، وأن الجبن لا يخلد الإنسان في الحياة، فقه أن الحياة بعزة ساعة خير من البقاء أبد الدهر في ذلة وهوان.

ثم قام قطز رحمه الله وقال للناس: من للإسلام إن لم نكن نحن؟ فضج الأمراء بالبكاء وقاموا خلفه ينادون بالجهاد في سبيل الله، وقد علم أنه من كانت هذه صفته فهو منصور إن شاء الله.

 

تجهيز الجيوش وإعداد العدة

وقام قطز رحمه الله في نشاط يجهز الجيوش ويعد السلاح ويرتب الخيول ويحمس الناس، ولكن واجهته مشكلة ضخمة، وهو أن بيت المال يعاني من ضائقة شديدة، والحالة الاقتصادية متردية، فأراد قطز رحمه الله أن يفرض على الناس الضرائب لتجهيز الجيش، فقام إليه العز بن عبد السلام رحمه الله، وقال له ولأمراء المماليك جميعًا: إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم، وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهادهم -أي: فوق الزكاة- ثم علق هذا الأمر على أمرين:

الشرط الأول: ألا يبقى في بيت المال شيء.

والشرط الثاني: أن تبيعوا مالكم من الممتلكات والآلات، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه وتتساووا في ذلك أنتم والعامة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا، فاستجاب قطز رحمه الله وباع ما يملك، وأمر الأمراء بذلك، وجهز جيشًا صادقًا من المسلمين، وقرر قطز رحمه الله أن يخرج بجيشه إلى حرب التتار في فلسطين، ولا ينتظر حتى يقدموا عليه في مصر، فقامت دعوة في أمراء المماليك بأن يبقى قطز في مصر بجيشه، ولا يخرج إلى فلسطين لقتال التتار، وأن يبقى لحماية مصر، فمصر هي مملكته، وفلسطين مملكة أخرى. هكذا قيل.

 

حماية مصر

ولكن قطز رحمه الله جمع أمراءه، وأفهمهم حقائق غابت عن أذهان كثير منهم، أفهمهم أن حماية مصر يبدأ من حدودها الشرقية، ولا يمكن أبدًا أن يحيا أهل مصر في أمان والعدو الصليبي والتتري يعيش في فلسطين. هذه واحدة.

الثاني: أنه من الأفضل عسكريًا أن ينقل المعركة إلى أرض خصمه، وأن يكون له خط رجعة، بدلًا من أن تحدث هزيمته في مصر إن حدثت، فتضيع البلاد برمتها.

الأمر الثالث: أنه من الأفضل عسكريًا أن يفاجئ أعداءه قبل أن يستعدوا له.

الأمر الرابع: أن لهم فوق ذلك كله دورًا هامًا ناحية إخوانهم في فلسطين والشام والعراق، ولن تزول أقدامهم يوم القيامة إلا بعد أن يسألوا عن هذا الدور.

الأمر الخامس: أن لهم دورًا في حرب أعداء المسلمين، حتى وإن لم يفكروا أصلًا في دخول قطرهم المحدود ما داموا يعيثون في أرض الله الفساد.

واقتنع المخلصون بالأمر، وبدأ الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله يذكر الناس بالجهاد، واعتلى العلماء المجاهدون منابر البلاد، وألهبوا مشاعر الناس بالحمية لهذا الدين، ورغبوا الناس في الجنة، وزهدوهم في أمر الدنيا وعظموا الجهاد وأهله، وذكروهم بأيام الله، ذكروهم ببدر واليرموك والقادسية، وذكروهم بحطين، التي لم يمض عليها إلا (75) عامًا، وذكروهم بمعركة المنصورة، التي لم يمض عليها إلا عشر سنين.

ومع كل هذا إلا أن فريقًا من المسلمين دبّ الرعب في قلوبهم، وجالت بأذهانهم صور ما سمعوه عن التتار، فبدأ بعض الناس بالفرار إلى المغرب وإلى اليمن وإلى الحجاز، فهل قيدهم قطز؟ أو أجبرهم على الاشتراك؟ أبدًا إنه تركهم في غيهم يعمهون، لقد فقه قطز رحمه الله أن النصر لن ينزل إلا على الثابتين الذين لا يولون الأدبار، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال:45].

وفقه أن الجيوش لا تنصر بأعدادها ولا عتادها، وإنما تنصر بطاعتها لله عز وجل واعتمادها عليه.

وفقه أن هؤلاء الذين فروا لو خرجوا مع الجيش لاضطرب الجيش وانهزم، قال تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47].

وفقه قطز أن الذي يوهب الحياة هو الذي يحرص على الموت، وأن الذي يوهب النصر هو الذي يحرص على الجنة.

 


 

المصدر:

محاضرة للدكتور راغب السرجاني بعنوان التتار وغزو العراق

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
من أشراط الساعة: نزع الأمانة من قلوب الناس | مرابط
اقتباسات وقطوف

من أشراط الساعة: نزع الأمانة من قلوب الناس


ومن أشراط الساعة المتعلقة والتي قد يكون لها صلة في هذا الباب: نزع الأمانة من قلوب الناس ونزع الأمانة من قلوب الناس فيه إشارة إلى الشح المطاع والهوى المتبع والطمع والجشع ومن ثمار ذلك ما سلف من قطيعة الأرحام وتسليم الخاصة وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى تقلب الإنسان في يومه وليلته من أمين إلى خائن ومن مؤمن إلى كافر في يوم وليلة

بقلم: عبد العزيز الطريفي
745
الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف | مرابط
مقالات

الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف


هذا البيت الذي غاب رجله عن الفعل والتربية سيخرج أبناء وبنات لا يستطعون إقامة بيوت سوية بصورة طبيعية لأنهم فقدوا الجزء التربوي الأهم في فترة التنشأة.الكلام على مرارته معروف نعيشه جميعا .. إذن ما الحل: الحل القريب: أن نحاول المحافظة على بنية الأسرة الطبيعية بكل ما نملك على روابطنا ببعضنا مهما كانت حالتنا المعيشية .. أن نوطن أنفسنا على التحمل في سبيل عدم خسارتنا لأنفسنا.

بقلم: محمد حشمت
433
حدود النظر إلى المخطوبة أثناء الرؤية | مرابط
المرأة

حدود النظر إلى المخطوبة أثناء الرؤية


هل يجوز للخاطب رؤية شعر المخطوبة في الرؤية الشرعية؟ وما يحل له رؤيته؟ أثير مؤخرا بعض الجدل حول ما يجوز للخاطب أن يراه في الرؤية الشرعية واختلاف الفقهاء والمذاهب في هذه المسألة وبين يديكم تأصيل علمي لحدود الرؤية بقلم د. قاسم اكحيلات

بقلم: قاسم اكحيلات
324
مقصود طلب العلم | مرابط
اقتباسات وقطوف

مقصود طلب العلم


كثير من طلبة العلم ليس مقصودهم به إلا تحصيل رياسة أو مال ولكل امرئ ما نوى وأما أهل العلم والدين الذين هم أهله فهو مقصود عندهم لمنفعته لهم وحاجتهم إليه في الدنيا والآخرة كما قال معاذ بن جبل في صفة العلم: إن طلبه لله عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة به يعرف الله ويعبد ويمجد الله ويوحد

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
490
أدلة القرآن على حجية السنة النبوية | مرابط
تعزيز اليقين إنفوجرافيك

أدلة القرآن على حجية السنة النبوية


إن أعظم ما ينطلق منه أهل العلم لإثبات حجية سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم هو القرآن الكريم ولا يكاد يخلو كتاب من الكتب المؤلفة في هذا الباب من الاستشهاد بآياته على مكانة السنة وحجيتها والمتأمل لدلائل القرآن على حجية السنة يجد أنها تثبت معنين شريفين جليلين فيهما الرد على مختلف الطوائف المنكرة للسنة سواء أكان إنكارهم لها من جهة أصلها أو من جهة طريقة نقلها وننقل لكم هذه النقاط في صورة إنفوجرافيك اختصارا وتيسيرا على القراء

بقلم: أحمد بن يوسف السيد
2031
قواعد السلف في مؤلفاتهم | مرابط
مقالات

قواعد السلف في مؤلفاتهم


أحب أن يعلم من لم يكن يعلم أن أسلافنا -رضي الله عنهم- وغفر لهم منذ ألفوا كتبهم وضعوا لها قواعد يعرفها أهل هذا العلم ويجهلها من جنح عن أصولهم وعمى عليه طريقهم. فهم منذ بدأوا يكتبون أسسوا كتبهم على إسناد الأخبار إلى رواتها وبرئوا من عهدة الرواية بهذا الإسناد ولم يبالوا بعد ذلك أن يكون الخبر صحيحا أو ضعيفا أو زائدا أو ناقصا أو موضوعا مكذوبا لأنهم كانو يعلمون حال الرواة ومنازلهم من الصدق والكذب ومن الورع والاستخفاف ومن الأمانة والهوى.وكأنهم أرادوا بهذا أن يجعلوا كتبهم في التاريخ وغير التاريخ سج...

بقلم: محمود شاكر
276