خصائص المحافظة على صلاة الفجر ج2

خصائص المحافظة على صلاة الفجر ج2 | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

618 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

تعظيم وقت صلاة الصبح

الخاصية الخامسة: تعظيم وقت صلاة الصبح، وقت الصبح يا إخواني وقت مشهود من الملائكة، فالملائكة تنزل إلى الأرض لتشهد هذه الصلاة الهامة، ورد في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تفضل صلاة الجميع -يعني: صلاة الجماعة- صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءًا، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر)، الله الله! التقاء كل الملائكة في صلاة الفجر، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (فاقرءوا إن شئتم: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]) وفي رواية أخرى عند البخاري يقول صلى الله عليه وسلم: (ثم يعرج الذين باتوا فيكم -أي: ملائكة الليل- فيسألهم ربهم -وهو أعلم بهم-: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون) أليس من الأفضل لك أن تذكرك الملائكة عند الله عز وجل بأنك من المصلين، وتشهد لك أنك كنت تصلي الصبح في جماعة؟ أليس هذا أفضل من أن تقول: يا رب أما فلان فكان نائمًا أو غافلًا أو كانت عنده مشاغل أخرى أهم فلم يأت ليصلي صلاة الفجر؟ أليس هو أفضل إذًا: نراجع أنفسنا.

 

 

حفظ الله ورعايته

الخاصية السادسة: أنت إذا صليت الصبح فأنت في حفظ الله ورعايته سائر اليوم، هذا شيء في منتهى الروعة، هل هناك أحسن من هذا؟ تشعر في يومك كله أنك في حماية الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله)، يعني: في حماية الله وفي عهد الله وضمانه، تشعر بثقة هائلة أثناء يومك إذا كنت مصليًا للصبح في جماعة، تشعر بثبات أمام المحن والمصائب وأمام الطغاة والجبابرة، كل هذا باستيقاظك لصلاة الصبح، سبحان الله! ركعتين تثبت فيهما صدق القلب وقوة الإيمان.

 

 

الحث على صلاة الصبح

الخاصية السابعة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يحبب لهم صلاة الصبح بأن يجعل وراءها درسًا أو توضيحًا لمفهوم معين، أو سؤالًا عن أصحابه، أو تفسيرًا لرؤيا، يعني: كان يقيم لقاء علميًا روحيًا إيمانيًا راقيًا جدًا جدًا، يقول العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه: (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت لها العيون، ووجلت منها القلوب)، ثم بدأ يذكر الخطبة المشهورة الطويلة.

الشاهد يا إخواني أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يلاطف أصحابه بعد صلاة الصبح ويعلمهم ويفقههم ويشرح لهم، وكل هذه عوامل تشجع من كان في قلبه تردد أن يفوت هذه الصلاة العظيمة: صلاة الصبح.

 

 

البقاء في المسجد بعد صلاة الصبح

الخاصية الثامنة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحفز المسلمين على البقاء في المسجد بعد صلاة الصبح، يعني: أن تظل قاعدًا إلى أن تشرق الشمس؛ لعظم أجر هذا الوقت، ويصبح هذا الوقت عبارة عن برنامج تدريبي إيماني عظيم يبدأ به المؤمن يومه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة الغداة في جماعة -يعني: صلاة الصبح، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة).

 

 

تكفير الذنوب

الخاصية التاسعة: وسيلة غير مباشرة لكن جميلة جدًا، روى الإمام مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله) يلاحظ أن الفترة بين صلاة العشاء وبين صلاة الصبح هي أطول الفترات التي تقع بين الصلوات، وهي الليل كله، وهي نصف اليوم، فإحسان الوضوء صلاة الفجر والخشوع والركوع كل هذه مكفرة لنصف اليوم، وبقية الصلوات مكفرة للنصف الآخر، أو قل تصبح صلاة الصبح مكفرة لنصف العمر لمن حافظ عليها، وبقية الصلوات مكفرة لنصف العمر الآخر، وذلك إذا اجتنبت الكبائر، فضل هائل وقيمة لا تقدر.

 

 

البركة في البكور

الخاصية العاشرة والأخيرة في هذه المحاضرة: أن البركة في البكور، في الساعات الأولى في الصباح بعد صلاة الصبح، فهي أبرك ساعات اليوم كله، روى الترمذي وغيره عن صخر الغامدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها) ، هذه المباركة يا إخواني في كل شيء، في كل الأعمال: في التجارة، في الزراعة، في القراءة، في السفر، في الجهاد في سبيل الله، في أي شيء، وصخر رضي الله عنه الذي روى هذا الحديث استفاد من هذه النصيحة، فقد كان رجلًا تاجرًا، وكان إذا بعث تجارته بعثها في أول النهار، فأثرى رضي الله عنه وكثر ماله، حتى إنه في رواية غير أحمد : (أن صخرًا كثر ماله حتى كان لا يدري أين يضعه).

إذًا: الرسول صلى الله عليه وسلم يريدك أن تستيقظ لصلاة الصبح في جماعة، وتقعد تذكر ربنا سبحانه وتعالى في الوقت الذي ما بين الصبح حتى الشروق، ثم بعد ذلك تشتغل ولا تذهب للنوم، وتأخذ بركة أول اليوم.

فإذا كنت تريد أن يكثر مالك فاستيقظ وصل الفجر وربنا سيبارك لك في مالك إن شاء الله، والرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يبعث جيشًا كان يبعثه في أول النهار، يقول النعمان بن مقرن رضي الله عنه وأرضاه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر أمسك حتى تطلع الشمس -يعني: أمسك عن القتال- فإذا طلعت قاتل)، يعني: كان يقاتل بعد طلوع الشمس في وقت البركة، وكان يقول: (عند ذلك تهيج رياح النصر، ويدعو المؤمنون لجيوشهم في صلاتهم).

إذًا: كان ينتظر بعد صلاة الصبح الوقت المبارك.

 

نماذج عملية

بهذه الفضائل والخصائص وغيرها أدرك الصالحون قيمة صلاة الصبح فما ضيعوها، وما تخيلوا أصلًا أن يضيعها إنسان، روى الإمام مالك رحمه الله في موطئه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد سليمان بن أبي حثمة -من كبار التابعين- رحمه الله في صلاة الصبح، فذهب عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى أمه الشفاء أم سليمان رضي الله عنها -وهي من الصحابيات- فقال لها: لم أر سليمان في الصبح؟! قالت: إنه بات يصلي. يعني: ظل الليل كله يصلي فغلبته عيناه، لم يكن قاعدًا أمام التلفاز يا إخواني، ومع ذلك لم يعذره سيدنا عمر ، بل قال: لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة بكاملها.

كذلك بيعة عمر بن الخطاب للخلافة كانت في صلاة الصبح؛ لأن الصديق توفي مساءً ودفن مساءً، وفي صلاة الفجر من اليوم الثاني بويع عمر بن الخطاب للخلافة، يعني: كبار رجال الدولة من الأمراء والوزراء وأهل الحل والعقد ومن بيده الأمر كل هؤلاء كانوا يصلون الفجر في جماعة، يأخذوا قرارات في منتهى الخطورة، قرارات مصيرية جدًا في صلاة الصبح، صلاة في منتهى الأهمية.

يروي الإمام مالك في موطئه: أن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما دخل على عمر بن الخطاب بعدما طعن، يقول المسور : فأيقظت عمر لصلاة الصبح ، مع أن عمر بن الخطاب رأس الدولة كان مطعونًا طعنة قاتلة، والظرف صعب جدًا جدًا، لكن صلاة الصبح لا تؤخر يا إخواني، لا يستطيع أن يدعه يصليها بعد الشروق، ماذا قال عمر عندما أيقظه المسور بن مخرمة رحمه الله؟ قال له: نعم، نعم، أحسنت أنك أيقظتني، ثم قال: ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، ثم قام عمر رضي الله عنه وأرضاه وصلى صلاة الصبح وجرحه يثعب دمًا، ومع ذلك لم يترك صلاة الصبح.

وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه كان يبكي بكاءً مرًا كلما تذكر فتح تستر، لماذا يبكي؟! وتستر مدينة فارسية حصينة، حاصرها المسلمون سنة ونصفًا، وبعد حصار لهذه المدينة مدة سنة، ونصف سقطت في أيدي المسلمين، وتحقق لهم فتحًا مبينًا، فإذا كان الوضع بهذه الصورة الجميلة المشرقة، فلماذا يبكي أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه عندما يتذكر موقعة تستر؟ لقد فتح باب حصن تستر قبيل ساعات الفجر بقليل، وانهمرت الجيوش الإسلامية داخل الحصن ودار قتال رهيب بين ثلاثين ألف مسلم ومائة وخمسين ألف فارسي وكان في منتهى الضراوة؛ لأن كل لحظة في هذا القتال تحمل الموت وتحمل الخطر الكبير على الجيش المسلم، فهم في موقف في منتهى الصعوبة، ولكن في النهاية كتب الله النصر للمؤمنين، وانتصروا على عدوهم بفضل الله، وكان هذا الانتصار بعد لحظات من شروق الشمس، وضاعت صلاة الصبح في ذلك اليوم الرهيب يوم الفتح، لم يستطع المسلمون في هذه المعركة الطاحنة والسيوف على رقابهم أن يصلوا الصبح في ميعاده، ويبكي أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه لضياع صلاة الصبح مرة واحدة في حياته، مع أن جيش المسلمين مشغول بذروة سنام الإسلام، مشغول بالجهاد في سبيل الله، لكن الذي ضاع شيء عظيم يا إخواني، يقول أنس : ما هي تستر هذه؟ لقد ضاعت مني صلاة الصبح، وما وددت أن لي الدنيا جميعًا بهذه الصلاة.

كلنا نفهم يا إخواني لماذا ينصر الله هؤلاء؟ لا توجد (لوغاريتمات) في الإسلام: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، فكيف ينصر الله عز وجل قومًا فرطوا في فريضة صلاة الصبح؟ هذا لا يكون، أما أن يكون الجيش على شاكلة أنس بن مالك رضي الله عنه يحاسب نفسه على الصلاة الوحيدة، فهذا ولا شك جيش منصور.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#راغب-السرجاني #صلاة-الفجر
اقرأ أيضا
قصور العقل عن درك جميع المطلوب | مرابط
مقالات

قصور العقل عن درك جميع المطلوب


ثم رأيت أشياء من هذا الجنس أظرف منه: مثل اخترام شاب ما بلغ بعض المقصود بنيانه! وأعجب من ذلك أخذ طفل من أكف أبويه يتململان١ ولا يظهر سر سلبه والله الغني عن أخذه وهما أشد الخلق فقرا إلى بقائه! وأظرف منه إبقاء هرم لا يدري معنة البقاء وليس له فيه إلا مجرد أذى! ومن هذا الجنس تقتير الرزق على المؤمن الحكيم وتوسعته على الكافر الأحمق. وفي نظائر لهذه المذكورات يتحير العقل في تعليلها فيبقى مبهوتا.

بقلم: ابن الجوزي
288
مصارع المغرقين | مرابط
فكر مقالات

مصارع المغرقين


سأل رجل الإمام الشافعي عن مسألة فقال: يروى فيها كذا وكذا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له السائل: يا أبا عبد الله تقول به فرأيت الشافعي أرعد وانتقص فقال: يا هذا أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا فلم أقل به نعم على السمع والبصر على السمع والبصر

بقلم: فهد بن صالح العجلان
747
أنواع النظر | مرابط
اقتباسات وقطوف

أنواع النظر


مقتطف لشيخ الإسلام ابن تيمية من كتاب الرد على المنطقيين يناقش فيه نوعين من أنواع النظر العقلي وهما النظر الطلبي والنظر الاستدلالي ويوضح الفرق بينهما ثم يقارن بين هذين النوعين وبين نوعي النظر للعين وهما التحديق لطلب الرؤية والثاني هو نفس الرؤية

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2531
نكتة لطيفة في القضاء والقدر | مرابط
اقتباسات وقطوف

نكتة لطيفة في القضاء والقدر


فإن قيل فما الفرق بين كون القدر خيرا وشرا وكونه حلوا ومرا؟ قيل الحلاوة والمرارة تعود إلى مباشرة الأسباب في العاجل والخير والشر يرجع إلى حسن العاقبة وسوئها فهو حلو ومر في مبدأه وأوله وخير وشر في منتهاه وعاقبته وقد أجرى الله سبحانه سنته وعادته أن حلاوة الأسباب في العاجل تعقب المرارة في الآجل ومرارتها تعقب الحلاوة فحلو الدنيا مر الآخرة ومر الدنيا حلو الآخرة

بقلم: ابن القيم
341
لماذا ينكرون السنة؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

لماذا ينكرون السنة؟


أولا اعلم أن القرآن لا يدل مطلقا أن الرسول صلى الله عليه ليس له سنة وليس له طاعة مستقلة عن نصوص القرآن بل الظاهر من القرآن أن الله أمر الناس بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه ولو كانت هذه الطاعة فيما تضمنته نصوص القرآن فقط لم يكن لهذا الأمر فائدة ولم يكن لذكر طاعة الرسول في الآيات الكثيرة أي فائدة !

بقلم: فهد الغفيلي
311
سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الرابع ج4 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الرابع ج4


إن الإسلام دين يحرر العقل ويهتم جدا بالحجة والبرهان والدليل فهو يأمر المسلمين بالتدبر والتفكر في كل شيء حتى إنه يناقش أمورا في غاية الحرج يناقش أمور العقيدة والعقيدة: أن تؤمن بالله عز وجل عن طريق الحجة والبرهان والدليل

بقلم: د راغب السرجاني
606