دور محمد علي الجزء الثاني

دور محمد علي الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: محمد قطب

2069 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

العمل الذي قام به رفاعة الطهطاوي

 

لقد كان العمل الذي قام به رفاعة طهطاوي -ومن ورائه محمد علي- هو على وجه التحديد على التحو التالي:
 
كان في حياة المسلمين -في مصر وغيرها من بلاد العالم الإسلامي- نقطة ارتكاز واحدة، هي الإسلام -بصرف النظر مؤقتا عن كل ما أصابهم من تخلف عن حقيقة هذا الدين- فجاء رفاعة الطهطاوي فوضع إلى جانب نقطة الارتكاز الضخمة القائمة، نقطة ضئيلة غاية الضآلة هي "الحضارة الغربية" ودعا المسلمين إلى الانتقال إليها والارتكاز عليها.
 
ورويدا رويدا في حياة المسلمين أخذت تلك النقطة الضئيلة تكبر وتتضخم، وتصبح نقطة ارتكاز ثانية في حياة المسلمين إلى جانب الإسلام، مع التضاؤل التدريجي في نقطة الارتكاز الأولى بمقدار ما تتضخم النقطة الثانية.. حتى يأتي وقت تصبح تلك النقطة الضئيلة هي نقطة الارتكاز الرئيسية، وتصبح نقطة الارتكاز الضخمة السابقة نقطة جانبية ضئيلة تكاد تنمحي من الوجود.
 
لقد استغرقت عملية الانتقال التدريجي ما يقرب من قرن من الزمان، ولكنها كانت عملية مستمرة لا تتوقف، بل تتوسع على الدوام، وعلى النحو الذي سنتحدث عنه في الفقرات التالية، متتبعين مراحل الانتقال في مجالات الحياة المختلفة، الاجتماعية والأخلاقية والفكرية والسياسية والاقتصادية.. وبالذات في قضية تحرير المرأة، ولكن يبنغي هنا أن نتوقف لنسأل: لماذا حدث هذا الانتقال؟

 

لماذا حدث الانتقال إلى النمط الغربي العلماني؟

 

هل هي الهزيمة العسكرية أمام الغرب الظافر، وولع المغلوب بتقليد الغالب؟ إن هذا وحده لا يكفي لتفسير ما حدث خلال ذلك القرن من الزمان، الذي تغرب فيه العالم الإسلامي، ونسى أصوله كلها كأنه لم يكن مسلمًا في يوم من الأيام، بل كأنه لم يعايش الإسلام من قبل ثلاثة عشر قرنا متوالية بلا انقطاع.
 
هل الهزيمة العسكرية وحدها تكفي لتفسير هذا التحول الهائل، بل هذا الانهيار الهائل خلال قرن واحد من الزمان؟ في الأمة صاحبة العقيدة لا تؤثر الهزيمة العسكرية كل هذا التأثير، بل قد لا يكون لها تأثير على الإطلاق... لقد هُزم المسلمون هزيمة شديدة في أحد، يكفي في تصويرها قوله تعالى "إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم"
 
وهزتهم الهزيمة هزا شديدًا لأنهم لم يكونوا يتصورون أن يهزموا قط ما داموا مؤمنين وأعداؤهم كفار، حتى قالوا مستنكرين في دهشة: أنى هذا!؟ أي كيف يتأتى لهذا أن يحدث!
 
"أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا"
ولكن التوجيه الرباني بعد العزيمة كان البلسم الشافي للجراح "ولا تهون ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين"
 
ومنذ هذا التوجيه وعته الأمة وعملت به، فلم تعد الهزيمة توهنها، ﻷنها تستعلي بالإيمان، وتتأسى بالذين وصفهم الله "وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ "
 
حتى حين هزموا الهزية المنكرة أمام التتار والصليبيين..
 
لقد كانت غارة التتار كاسحة، حتى إنها أزالت الدولة العباسية من الوجود، وخربت بغداد، وأذلت أهلها فجرى النهر أربعين ليلة أحمر من كثرة ما أريق من دماء المسلمين... ووصل الرعب والضعف بالمسلمين إلى أن التتري كان يلقى المسلم في شوارع بغداد وليس معه سيفه، فيقول للمسلم: ابق هنا حتى أعود إليك السيف لأقتلك، فيبقى المسلم من الضعف والذل واقفا في مكانه حتى يعود إليه التتري بالسيف فيقتله! ومع ذلك كله لم تذل أرواح المسلمين بحيث ينظرون إلى التتار على أنهم خير منهم، أو أنهم جديرون بالاحترام! إنما كانوا في نظرهم مجموعة من الهمج الوثنيين المتبربرين لا يستحقون إلا الاحتقار المطلق حتى وهم منتصرون!
 
وكانت غارات الصليبيين مفاجئة للمسلمين وهم على غير استعداد.. واستغرقت قرنين من الزمان.. لقي المسلمون فيها هوانا شديدًا حتى ختم الله لهم بالنصر عليهم أيام صلاح الدين، بعد أن أقاموا دويلات نصرانية في مصر والشام.. ومع ذلك لم تذل أرواح المسلمين بحيث ينظرون إلى النصارى على أنهم خير منهم، أو أنهم جديرون بالاحترام! بل كانوا في نظرهم هم المشركين عباد الصليب.
 
وكانوا يحتقرونهم احتقارا شديدا من أجل شركهم ومن أجل فساد أخلاقهم، وكانوا يقولون عنهم إنهم دياييث، يكون الواحد منهم سائرًا مع زوجته في الطريق فتلتقي بصديق لها، فيتنحى الزوج ليتيح للمرأة أن تتحدث مع صديقها ما شاءت من الحديث.
 
الهزيمة العسكرية وحدها لا تؤثر إذن في الأمة ذات العقيدة مهما كانت شديدة وغير متوقعة.

 

هل الفارق العلمي والمادي هو السبب؟

 

ولكن قد يقال إن التفوق العلمي والحضاري والمادي الذي ووجه به المسلمون -مع الهزيمة- هو الذي أثر فيهم هذا التأثير، وحولهم هذا التحول، ﻷنهم فوجئوا به دفعة واحدة، فانكشف لهم مقدار تخلفهم الرهيب..   وهو قول ظاهر مقنع.. وقد كان لاكتشاف المسلمين مدى تخلفهم إزاء تفوق الغرب أثر في انبهارهم بما عند الغرب ولا شك.. ولكن هذا وحده لا يفسر فضلا عن أن يبرر!
 
لقد كان المسلمون في بدء حياتهم "متخلفين" في ميدان العلم وفي الجانب المادي والتنظيمي من الحضارة بدرجة لا تقاس إلى جانب ما كان لدى القوتين المجاورتين فارس والروم.. وكان المسلمون في حاجة إلى الاقتباس منهم والأخذ عنهم في هذين الميدانين، ولكنهم لم يشعروا قط أن أعداءهم أعلى منهم، ولا أن ما عند أعدائهم من أفكار ومعتقدات وأنماط سلوك خير مما عندهم.

بل نظروا باستعلاء الإيمان إلى هذا كله على أنه جاهلية عمياء لا تهتدي بالهدى الرباني ولا تطبق في حياتها منهج الله.. فأخذوا العلم الذي كانوا يحتاجون إليه، وأخذوا من الجوانب المادية والتنظيمية ما وجدوا أنفسهم في حاجة إليه، وطوعوه لمنهج حياتهم، ولم يأخذوا شيئًا من معتقدات الجاهلية ولا أفكارها ولا أنماط سلوكها.. وكان هذا هو المسلك الصحيح بالنسبة للأمة المسلمية حين تشعر بحاجتها إلى شيء تفتقده عندها وتجده عند الأمم الجاهلية من حولها.
 
أما في هذه المرة فقد كان مسلكها مختلفًا كل الاختلاف..
 
كان مسلكها هو الانبهار بما عند الغرب.. الانبهار الذي يؤي إلى الانهيار أمام القوة الغالبة، وتسليم القياد لها بلا تحفظ، والرضى بالتبعية الكاملة لها، بل الامتنان والاغتباط إذا قبلت القوة الظافرة أن تعتبرها من بين الأتباع!!
 
كيف حدث ذلك؟!

 


 

المصدر:

  1. محمد قطب، واقعنا المعاصر، ص191

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#محمد-علي
اقرأ أيضا
تسويف التوبة | مرابط
اقتباسات وقطوف

تسويف التوبة


وما مثال المسوف إلا مثاله من احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة فقال أؤخرها سنة ثم أعود إليها وهو يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه فلا حماقة في الدنيا أعظم من حماقته إذ عجز مع قوته عن مقاومة ضعيف فأخذ ينتظر الغلبة عليه إذا ضعف هو في نفسه وقوي الضعيف

بقلم: أبو حامد الغزالي
288
المسألة فيها خلاف الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات

المسألة فيها خلاف الجزء الثاني


كان الناس قبل عقود -بل سنوات- قليلة إذا تباحثوا في مسألة ما قال أحدهم: ما الدليل واليوم وبعد أن سمع فتوى فلان وفلان قال لك: المسألة فيها خلاف فرد التنازع إلى الخلاف لا إلى الدليل من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وبدلا من أن يجعل القرآن والسنة حاكمين عند الاختلاف جعل الاختلاف حاكما عليهما ومرد ذلك إلى الجهل والهوى والتساهل والتهاون في اتباع الشرع والأخذ بالدليل

بقلم: علوي بن عبد القادر السقاف
1751
التنكيت على الطقس؟ | مرابط
مقالات

التنكيت على الطقس؟


يقول الدكتور إياد قنيبي: مع استمرار الشتاء أكثر من المتوقع هذا الفصل والحمد لله سمعت من اثنين من الإخوة عبارات لم أرتح لها فاستفتيت صديقا لي من أهل العلم فيهما وأود مشاركتكما الفائدة.. وهذا مقال موجز فيه تعليق على إشكالية التنكيت على الطقس.

بقلم: د. إياد قنيبي
452
صلاة الفجر بين الصادقين والمنافقين | مرابط
تفريغات

صلاة الفجر بين الصادقين والمنافقين


سنتكلم عن اختبار من الاختبارات الصعبة جدا فليس أي شخص ممكن ينجح فيه لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل هذا الاختبار مقياسا واضحا بين المؤمن والمنافق فهو اختبار خطير والذي سيسقط في هذا الاختبار سيكون منافقا بنص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الاختبار هذا يا إخواني ويا أخواتي هو اختبار صلاة الفجر صلاة الفجر في جماعة للرجال وصلاة الفجر في أول وقتها للنساء

بقلم: د راغب السرجاني
922
أصول الانحراف الدرس الأول ج1 | مرابط
تفريغات

أصول الانحراف الدرس الأول ج1


سلسلة ماتعة للدكتور أحمد عبد المنعم تدور حول أصول الضلال أو أصول الانحراف من خلال أصول الوحي نريد أن نتكلم عن الضلال الذي وقع فيه كثير من الناس فالضلال وقع فيه كثير من الناس لماذا ما هي الأصول التي حذر منها القرآن والتي لو وقع فيها الإنسان -في هذه الأصول- ينحرف والعياذ بالله

بقلم: أحمد عبد المنعم
467
إنه الله | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات الإلحاد

إنه الله


حوار ماتع يدور بين متشكك ومتيقن الأول هو أبو الحكم والثاني هو الكاتب حسام الدين حامد وفي هذا المقال المقتطف من كتابه المفيد لا أعلم هويتي يدور الحديث حول عناية الله سبحانه وتعالى بالإنسان ويعرض لنا الكاتب الكثير من الأدلة التي تشير إلى وجود الله وإلى كماله وحكمته وأنه لم يترك الإنسان هملا وهذه الأدلة ليست بعيدة عن الإنسان بل هي من داخل جسده

بقلم: د حسام الدين حامد
2091