سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج3

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج3 | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

559 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

نستكمل الجانب العلمي في حياة الصحابة

جابر بن عبد الله وأبي أيوب الأنصاري

بعض الناس تتعب من الذهاب مسافة قصيرة لدرس العلم وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما سافر من المدينة المنورة إلى الشام من أجل حديث واحد يعرفه أحد الصحابة في الشام وهو لا يعرفه، شهر ذاهب وشهر عائد، خرج من المدينة من المدينة إلى عمق الشام وأخذ الحديث ورجع إلى المدينة. فهو لم يذهب في جولة سياحية إلى دمشق، ولا ليتفسح أو يشتري شيئًا من بيروت، لا، بل ذهب من أجل حديث واحد.

وهذا أبو أيوب الأنصاري خرج من المدينة المنورة إلى مصر إلى الفسطاط من أجل حديث واحد ولم يحل الراحلة. يعني: ترك الجمل واقفًا ونزل فسأل عن الحديث ثم ركب الجمل ورجع إلى المدينة من فوره. هذه قيمة العلم عندهم، أتريد أن توزن مع هؤلاء في ميزان واحد؟ لابد من جهد وتعب: لا يستطاع العلم براحة الجسم، سأكرر عليكم هذه الجملة (20) مرة، إلى أن تخرج وأنت عازم النية على عدم الراحة، إلا هناك في الجنة إن شاء الله رب العالمين.

والعلماء من بعد الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم كان لهم من السعي للعلم ما يعجز القلم أو اللسان عن تصويره. فمثلًا: السهر، هل تسهرون؟ هناك ناس تسهر من أجل مشاهدة التلفاز، وهناك ناس تسهر في المقاهي، وهناك ناس تسهر من أجل شيء، وإنما من أجل السهر، فهو قد يعمل أي شيء من أجل تضييع الوقت إلى أن يأتيه النوم، يجلس يعد من (1-100) أو من (10-1000) إلى أن ينام، هكذا في الكتب الطبية التي تساعدك على النوم، حتى إنهم لم يقولوا: قل: سبحان الله مثلًا إلى أن تنام، لا، بل عد واحدًا اثنين ثلاثة أربعة عشرة.

انظروا كيف تسهر هذه الجماعة من الناس؟!

 

حياة الإمام النووي في رحاب العلم

لقد بقي النووي رحمه الله مدة حياته في طلب العلم ومات وعمره (44) سنة، لكن لم يمت حتى خلف ميراثًا من العلم، وكتب الله لعلمه الانتشار والشيوع في بلاد العالم الإسلامي، نسأل الله عز وجل أن يتقبل منه وأن يرفع من درجاته، لم يكن ذلك بالسهل، وإنما كما يقول النووي عن نفسه: بقيت سنتين وأنا في طلب العلم ما وضعت جنبي على الأرض ولا على فراش، فكان إذا غلبني النوم اتكأت على بعض كتبي برهة، ثم أستيقظ وأعمل في طلب العلم.

قد يقول قائل: لقد عذب نفسه، نقول: صحيح أنه تعب وبذل واجتهد وقد مات منذ مئات السنين وذهب ذلك التعب والألم وبقي الأجر إن شاء الله، وإلى وقتنا هذا تقرأ في صحيح مسلم بشرح النووي وتقرأ في (رياض الصالحين) وفي (الأربعين النووية)، جمع أربعين حديثًا من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم حتى دون تفسير.

إذًا: كل من قرأ حديثًا من هذه الأحاديث أو شرحًا من الشروح أو كتابًا من كتب أصول الفقه التي ألفها أو غيرها من المؤلفات الهائلة فإنه يأخذ حسنات وهو في قبره ويظل ذلك إلى يوم القيامة، فأنت عندما تذهب إلى المغرب أو سوريا أو السعودية أو أمريكا أو أوروبا تجد كتب النووي رحمه الله، هذه بركة عظيمة، إنها بركة العلم، لكن لم يأت بالسهل، بل بقي سنتين لم يهنأ بالنوم.

وهذا البدر بن جماعة رحمه الله من علماء الأمة يقول: لما دخلت على النووي صعب علي الجلوس، لم أحد مكانًا أجلس فيه من كثرة الكتب الموجودة على الأرض، فنزع بعض الكتب حتى أوجد لي مكانًا أجلس فيه، وأنا جالس معه لا أستطيع أن أكلمه؛ لأنه مشغول بالعلم، كطلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره، هذا كلام في منتهى الروعة للشافعي رحمه الله، لو أن واحدة ضاع ابنها وجاءت أخرى تتكلم معها، هل ستترك ابنها وتتكلم معها؟ هي محروقة من داخل؛ القضية هامة ستظل تدور وتدور إلى آخر نفس في حياتها..

 

هكذا طالب العلم.

يقول الحسن البصري: اثنان لا يشبعان: طالب دنيا، وطالب علم. لو أفنيت عمرك كله ما حزت العلم كله، ولما شبعت منه، وكلما أخذت منه شيئًا بقي منه شيء كثير، ولن تستطيع الإحاطة به، قال تعالى في الآية الكريمة: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فدائمًا العلم كثير. إذًا: لن ينتهي العلم أبدًا إلا بالموت، وإذا مت وقد اجتهدت في العلم تجد الأجر والمثوبة على ما قدمت. وطالب الدنيا أيضًا لا يشبع، والله لو عنده من الأموال كماء البحر، فهو كأنه يشرب من البحر لا يرتوي أبدًا طالب الدنيا.

 

مجموعة من العلماء

لقد كان محمد بن عبدوس رحمه الله من علماء الأمة وقد صلى الصبح بوضوء العشاء (30) سنة. يعني: أنه لا ينام؛ لأن النوم ينقض الوضوء، قد تقول: هذا تشدد، نقول: نحن نريد أن نطرح أمثلة عليا، من أجل أن نعمل بنصفها أو ربعها، أنا لا أقول لك: لا بد أن تعمل مثل محمد بن عبدوس، فـابن عبدوس صلى الصبح بوضوء العشاء (30) سنة، (15) سنة دراسة، و(15) سنة عبادة، كان يبقى من بعد صلاة العشاء يذاكر العلم إلى الفجر وهو محافظ على وضوئه، ثم يذهب ويصلي الفجر بوضوء العشاء.

وهذا عبد الرحمن بن القاسم رحمه الله أحد تلامذة الإمام مالك رحمه الله، كان يذهب إليه في الليل فيسأله مسائل، ويجد عند الإمام مالك في ذلك الوقت انشراح صدر، فيجلس ليعلمه حديثًا واثنين وثلاثة وعشرة، وفي يوم من الأيام كان يريد أن يسأله عن أحاديث، لكنه جاء إليه في وقت متأخر جدًا فاستحى أن يدخل عليه، فنام على باب بيته، فخرج الإمام مالك فرآه نائمًا، فأيقظه فلم يستيقظ، فذهب إلى المسجد، فخرجت جارية من الجواري من البيت توقظه وتقول له: قم يا غفلان، الإمام غدا إلى المسجد، تقول الجارية: الإمام مالك له إلى الآن (49) سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء، (49) سنة حتى أصبح الإمام مالك من كبار علاء المدينة، وأصبح لا يفتى ومالك في المدينة.

ومذهب مالك من المذاهب المعتبرة في بقاع العالم الإسلامي المختلفة، وإلى الآن يتعبد إلى الله عز وجل الكثير والكثير من المسلمين على فقهه وعلى مذهبه رحمه الله، هذا يدل على أنه قد قدم الكثير.

وكان الإمام مالك من أغنى المسلمين، لكن لم يكن يحتفظ بالمال، بل كان يأتي إليه طلبة العلم ليعلمهم، فكان يأتيه طلاب من بلاد بعيدة فيستضيفهم ويطعمهم وينفق عليهم، وفي آخر حياته باع الخشب الذي في سقف بيته من أجل أن ينفق على طلبة العلم، وأنفق كل المال الذي معه على طلبة العلم.

انظر إلى القيمة العليا للعلم في نظره، لو كان يرى أن هذا المال ينفق على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وما إلى ذلك أفضل لكان أنفقه في هذه الوجوه، لكنه يرى إنفاقه على العلم أفضل، كما قلنا من قبل في درس سابق: المسلمون في هذا الوقت بفضل الله عندهم صحوة إسلامية وحمية وينفقون، لكن نادر جدًا الذي ينفق على العلم، ننفق على موائد الرحمن وهذا طيب، وننفق على فلسطين وهذا رائع، وننفق على اليتامى والمساكين وبناء المساجد وهذا رائع جدًا، لكن من الذي ينفق على العلم؟ من الذي يعطي العلم هذا القدر من الاهتمام؟ قليل، ولا تقوم الأمة إلا بالعلم، فينبغي لنا أن نهتم بأسباب قيام الأمم.

وهذا البخاري أيضًا كان يذهب لينام فيذكر مسألة وهو على سريره فيقوم ويكتبها، يخاف أن ينساها، ثم ينام، ويذكر مسألة أخرى فيقوم ويكتبها، وثالثة ورابعة، يقول ابن كثير رحمه الله في التاريخ عندما تحدث عن البخاري قال: فيزيد عدد مرات قيامه في الليلة الواحدة على (20) مرة.

(20) مرة يقوم في الليلة الواحدة من أجل أن يسجل معلومات تنفع الأمة حتى صار كتابه أصح كتاب في الأرض بعد كتاب الله عز وجل بإجماع علماء المسلمين، هذه هي قيمة البخاري. وهناك أناس تكتب في الجرائد على البخاري وما وصلت إلى ظفر قدمه الأصغر، ويقول أحدهم في كلمة: فليقل البخاري ما يقول. يعني: كأنه يقول من نفسه، وكأنه لم يكن عنده منهج علمي واضح يمشي عليه، وقد حج كل من عارضه، لقد عارض بعض الناس البخاري في بعض الأحاديث وقالت: الصواب كذا وكذا، وليس الصواب كما كتب البخاري فحجها الإمام البخاري كان الصواب في جانبه فأقر الجميع أنه من أعظم علماء الأمة، وكتابه أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل.

هذا الكتاب لم يأت من فراغ، فـالبخاري كان يحفظ ستمائة ألف حديث.

من المصلحة أن نفرد حديثًا خاصًا بـالبخاري؛ من أجل ألا تحرموا الفوائد التي كانت في حياته رحمه الله، وأنا كلما أذكر شيئًا عن البخاري أراه معجزة، لقد كان البخاري بآلاف الرجال، فالله سبحانه اصطفاه حتى جعل كتابه أعظم كتب السنة مطلقًا، فهذا الرجل قدم كثيرًا، لم يكن يكتب حديثًا واحدًا في صحيحه إلا بعد أن يقوم يتوضأ ويصلي ركعتين استخارة، ثم يكتب الحديث الواحد، وكتابه فيه (7000) حديث بالمكرر، ومن غير المكرر (2612).

هذا جهد ضخم من (600) ألف حديث غربل هذا الكتاب العظيم صحيح البخاري.لا يقل أحد: أنت أطلت، لا، نحن نجلس مع العلم، وقلنا: لا توجد راحة جسم ولا نوم في العلم، بل سهر في طلب العلم، ومجلسكم هذا في سبيل الله، لو كنت ستذهب إلى شيء أعظم من العلم فاذهب، أما أن تذهب لتنام قليلًا أو لتشاهد التلفاز فلا، بل اجلس خير لك، ولئن تقبض في بيت الله في مجلس علم أفضل من أي شيء تعمله خارج المسجد؛ ولذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله: مجلس علم أفضل من (100) ركعة نافلة. هو يعرف الميزان ما بين العالم والعابد، فالعالم أعظم وأعظم من العابد، بالمقاييس التي ذكرناها.
 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#كيف-تصبح-عالما
اقرأ أيضا
تسميم الفكر الأوروبي ضد الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

تسميم الفكر الأوروبي ضد الإسلام


يبدو أن العداء الصريح للإسلام كان هو السمة التي ترسخت في الشخصية الجمعية الغربية وجاء ذلك نتاج الحروب الصليبية التي لم تتوقف على الصدام العسكري المسلح فقط وإنما نتج عنها الكثير من التشوهات الفكرية والثقافية التي ظلت باقية في المخيلة والعقلية الأوروبية فيما بعد

بقلم: محمد أسد
2063
من فضائل أم سليم | مرابط
المرأة

من فضائل أم سليم


هذه أم سليم رضي الله عنها علمتنا هذا الأصل في الحديث المشهور كان لها ولد مريض ثم ذهب أبو طلحة للتجارة فمات الولد فقالت أم سليم: لا أحد يخبره حتى أكون أنا أول من يخبره.

بقلم: أبو إسحق الحويني
237
الصفات المعينة على الفتوى أو الحكم | مرابط
اقتباسات وقطوف

الصفات المعينة على الفتوى أو الحكم


مقتطف من كتاب إعلام الموقعين لابن القيم يعرض لنا فيه نوعين من الفهم لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بهما وهما فهم الواقع ثم فهم الواجب في الواقع وفي المقتطف شرح للنوعين مع التدليل بالأمثلة العملية التي توصل الغاية والمراد من كلامه رحمه الله

بقلم: ابن قيم الجوزية
1181
بطلان نظرية داروين وأتباعه | مرابط
اقتباسات وقطوف

بطلان نظرية داروين وأتباعه


مقتطف للشيخ أحمد شاكر رحمه الله يرد فيه على دارون وأتباعه ويستدل بآي الكتاب المحكم وعلى الرغم من أن العلم نفسه أثبت ما فيه هذه النظرية من الأخطاء وظهرت العديد من النسخ الداروينية المعدلة على يد العلماء المؤيدين إلا أن الوقوف على الدليل الشرعي المثبت لبطلانها ضروري وواجب

بقلم: أحمد شاكر
1182
هل فعلها الصحابة؟ | مرابط
مقالات

هل فعلها الصحابة؟


أول ما بدأت تعلم العلوم الشرعية وضعت لنفسي قاعدة لم تخني أبدا كنت كلما احترت في أمر ما أو مسألة صارت مثار جدل وشد وجذب أسأل نفسي: هل فعلها الصحابة؟ من فعلها؟ لماذا تركوها؟ ولماذا فعلوها؟ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم معيار من خلاله نعرف حدود ما يمكن أن نختلف فيه أو بعبارة أدق حدود ما يختلف فيه أهل العلم.. إياك أن تتخيل أنك ستكون أعبد أو أتقى أو أورع لله منهم! أو أحب للنبي صلى الله عليه وسلم منهم!

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
274
صحبة البطالين | مرابط
اقتباسات وقطوف

صحبة البطالين


مقتطف ماتع لابن الجوزي رحمه الله يتحدث فيه عن قيمة الوقت وعن حياة البطالين وصحبتهم وكيف أنه يحاول الهروب منهم ومن لقائهم بشتى الطرق حتى إذا وجد أنه لا مفر جهز بعض الأعمال البسيطة التي لا تحتاج إلى جهد ولا فكر ولا حضور قلب ليقوم بها في أوقات حضورهم فلا يضيع وقته معهم ولا يستمع إلى أحاديثهم التي لا تخلو من غيبة

بقلم: ابن الجوزي
2503