شبح الحروب الصليبية الجزء الثاني

شبح الحروب الصليبية الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: محمد أسد

2184 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

إن الفظائع المروعة التي اقترفها الفرسان الصليبيون الأتقياء، وإن التخريب والانحطاط اللذين خلفوهما في بلاد الإسلام التي اجتاحوها ثم خسروها، كل هذه هي التي أنبتت البذور السامة لعداوة طويلة الأمد ولصلات متحرّجة بين الشرق والغرب، ولولا ذلك لما كان ثمة ضرورة إلى مثل هذا الشعور، ثم لو أن الحضارتين الإسلامية والغربية كانتا، كما نعتقد، مختلفتين تمامًا في أسسهما الروحية ونظامهما الاجتماعي لوجب أن تكونا قادرتين على التسامح فيما بينهما والعيش جنبا إلى جنب على اتصال ودّي.

 

ولقد كان في الجانب الإسلامي دائمًا رغبة مخلصة للتسامح المتكافئ وللاحترام. وحينما أرسل الخليفة هارون الرشيد رسله إلى الإمبراطور شارلمان كانت هذه الرغبة هي التي تحدو به إلى ذلك، ولم يكن ذلك منه مجرد رغبة في الاستفادة المادية من صداقة الفرنجة. أما أوروبة فكانت في ذلك الحين من الناحية الثقافية فطرية إلى حد أنها لم تقدر هذه الفرصة حق قدرها، وإن كانت لم تبد لها كرها. وأخيرًا ظهر الصليبيون فجأة عند الأفق وقطعوا هذه الصلات بين الإسلام وبين الغرب.

 

الأثر الثقافي للحروب الصليبية

 

ولم يكن ذلك لأن الصليبيين راموا الحرب، فإن حروبا كثيرة كانت قد نشبت بين الشعوب ثم نشبت فيما بعد في مدى التاريخ الإنساني، وكم من عداوة انقلبت بعد ذلك صداقة، إلا أن الشر الذي بعثه الصليبيون لم يقتصر على صليل السلاح ولكنه كان قبل كل شيء وفي مقدمة كل شيء شرًا ثقافيا. لقد نشأ تسميم العقل الأوروبي عما شوّهه قادة الأوروبيين من تعاليم الإسلام ومثله العاليا أمام الجموع الجاهلة من الغرب. وفي ذلك الحين استقرت تلك الفكرة المضحكة في عقول الأوروبيين من أن الإسلام دين شهوانية وعنف حيواني، وأنه تمسك بفروض شكلية وليس تزكية للقلوب وتطهيرًا لها، ثم بقيت هذه الفكرة حيث استقرت، وفي ذلك الحين أيضًا نُبز الرسول محمد بقولهم "كلبي".

 

امتداد الحمية الصليبية

 

لقد بذرت بذور البغضاء، إن حمية الصليبيين الجاهلية كان لها ذيولها في أماكن كثيرة من أوروبة فشجع ذلك نصارى الأندلس على الحرب لإنقاذ بلادهم من نير الوثنيين. وأما تدمير إسبانيا المسلمة (الأندلس) فقد اقتضى قرونًا كثيرة حتى تم.. ولما تطاول أمد هذا القتال على وجه الحصر أخذ الشعور ضد الإسلام في أوروبة ينشب جذوره ثم يثبت. ولقد انتهى باستئصال شأفة العهد الإسلامي في إسبانية بعد اضطهاد بالغ الوحشية والقسوة، مما لم يشهده العالم قط، وإن كانت أصداء الفرح قد تجاوبت في أوروبة على أثر ذلك، مع العلم بأن النتائج التي تلت كانت القضاء على العلوم والثقافة والتبذل بها جهل العصور الوسطى وخشونتها.

 

ولكن قبل أن يتاح لصدى هذه الحوادث أن يخفت في إسبانية حدث حدث ثالث عظيم الأهمية، زاد في فساد الصلات بين العالم الغربي وبين الإسلام: ذلك هو سقوط القسطنطينية في يد الأتراك. لقد كانت أوروبة ترى بقية من الزهو اليوناني والروماني القديم على بيزنطيوم (القسطنطينية) وكانت تنظر إليها على أنها حصن أوروبا ضد برابرة آسية، وبسقوط القسطنطينية فُتح باب أوروبة على مصراعيه للسيل الإسلامي. وفي القرون التي تلت والتي امتلأت بالحروب لم تبق عداوة أوروبة للإسلام قضية ذات أهمية ثقافية فحسب، بل ذات أهمية سياسية. وهذا زاد في اشتداد تلك العداوة.

 

ومع هذا كله فإن أوروبة قد استفادت كثيرًا من هذا النزاع. إن النهضة أو إحياء الفنون والعلوم الأوروبية باستمدادها الواسع من المصادر الإسلامية والعربية على الأخص كانت تُعزى في كثير إلى الاتصال المادي بين الشرق والغرب. ولقد استفادت أوروبة أكثر مما استفاد العالم الإسلامي ولكنها لم تعترف بهذا الجميل وذلك بأن تنقص من بغضائها للإسلام، بل كان الأمر على العكس، فإن تلك البغضاء قد نمت مع تقدم الزمن ثم استحالت عادة.

 

ولقد كانت هذه البغضاء تغمر الشعور الشعبي كلما ذُكرت كلمة "مسلم" ولقد دخلت في الأمثال السائرة عندهم حتى نزلت في قلب كل أوروبي رجلا كان أم امرأة. وأغرب من هذا كله انها ظلت حيّة بعد جميع أدوار التبدل الثقافي. ثم جاء عهد الإصلاح الديني حينما انقسمت أوروبة شيعا ووقفت كل شيعة مدججة بسلاحها في وجه كل شيعة أخرى، ولكن العداء للإسلام كان عاما فيها كلها. بعدئذ جاء زمن أخذ الشعور الديني فيه يخبو ولكن العداء للإسلام استمر.

 

وإن من أبرز الحقائق على ذلك أن الفيلسوف والشاعر الفرنسي فولتير، وهو من ألد أعداء النصرانية وكنيستها في القرن الثامن عشر، كان في الوقت نفسه مبغّضًا مغاليا للإسلام ولرسول الإسلام.

 

وبعد بضعة عقود جاء زمن أخذ فيه علماء الغرب يدرسون الثقافات الأجنبية ويواجهونها بشيء من العطف، أما فيما يتعلق بالإسلام فإن الاحتقار التقليدي أخذ يتسلل في شكل تحزّب غير معقول إلى بحوثهم العلمية، وبقي هذا الخليج الذي حفره التاريخ بين أوروبة وبين العالم الإسلامي غير معقود فوقه بجسر. ثم أصبح احتقار الإسلام جزءا أساسيا من التفكير الأوروبي.

 

والواقع أن المستشرقين الأولين في الأعصر الحديثة كانوا مبشرين نصارى يعملون في البلاد الإسلامية، وكانت الصورة المشوّهة التي اصطنعوها من تعاليم الإسلام وتاريخه مدبّرة على أساس يضمن التأثير في موقف الأوروبيين من الوثنيين. غيير أن هذا الالتواء العقلي قد استمر مع أن علوم الاستشراق قد تحررت من نفوذ التبشير، ولم يبق لعلوم الاستشراق هذا عذر من حمية دينية جاهلية تسيء توجيهها. أما تحامل المستشرقين على الإسلام غريزة موروثة، وخاصة طبيعية تقوم على المؤثرات التي خلفتها الحروب الصليبية بكل ما لها من ذيول في عقول الأوروبيين الأولين.

 

كيف استمر الحقد الأوروبي الصليبي؟

 

ولقد يتساءل بعضهم فيقول: كيف يتفق أن نفورًا قديمًا مثل هذا -وقد كان دينيا في أساسه وممكنا في زمانه بسبب السيطرة الروحية للكنيسة النصرانية- يستمر في أوروبة في زمن ليس الشعور الديني فيه إلا قضة من قضايا الماضي؟

 

ليست مثل هذه المعضلات موضع استغراب أبدًا، فإنه من المشهور في علم النفس أن الإنسان قد يفقد جميع الاعتقادات الدينية التي تلقّنها في أثناء طفولته، بينما تظل بعض الخرافات الخاصة -والتي كانت من قبل تدور حول تلك الاعتقادات المهجورة- في قوّتها تتحدى كل تعليل عقلي في جميع أطوار ذلك الإنسان، وهذه حال الأوروبيين مع الإسلام. فعلى الرغم من أن الشعور الديني الذي كان السبب في النفور من الإسلام قد أخلى مكانه في هذه الأثناء لاستشراف على الحياة أكثر مادية، فإن النفور القديم نفسه قد بقي عنصرا من الوعي الباطني في عقول الأوروبيين.

 

وأما درجة هذا النفور من القوة فإنها تختلف بلا شك بين شخص وآخر، ولكن وجوده لا ريب فيه. إن روح الحروب الصليبية -شكل مصغر على كل حال- مازال يتسع فوق أوروبة، ولا تزال مدنيتها تقف من العالم الإسلامي موقف يحمل آثارا واضحة لذلك الشبح المستميت في القتال.

 


 

المصدر:

  1. الإسلام على مفترق الطرق، محمد أسد، ص55
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
التوبة الصادقة | مرابط
تفريغات

التوبة الصادقة


أخي العزيز! يا من أذنبت وعصيت أتعلم أن الله يفرح بتوبتك تقول: أنا الذي أقلب المجلات وأنظر إلى الصور وطالما إذا صليت التهيت بالدنيا وطالما أفتح التلفاز للأغاني والمسلسلات وطالما اغتبت الناس وفعلت وفعلت.. هل إذا رجعت إلى الله عز وجل يفرح؟

بقلم: نبيل العوضي
633
اختلاط الجنسين في نظر الإسلام الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات المرأة

اختلاط الجنسين في نظر الإسلام الجزء الأول


ومعنى غض البصر صرفه عن النظر الذي هو وسيلة الفتنة والوقوع في فساد ومن ذا الذي يجمع الفتيان والفتيات في غرفة وينتظر من هؤلاء وهؤلاء أن يصرفوا أبصارهم عن النظر ولا يتبعوا النظرة بأخواتها وهل يستطيع أحد صادق اللهجة أن يقول: إن أولئك المؤمنين والمؤمنات يحتفظون بأدب غض أبصارهم من حين الالتقاء بين جدران الجامعة إلى أن ينفضوا من حولها والشريعة التي تأمر بغض النظر عن النظر إلى السافرات تنهى أولي الأمر عن تصرف شأنه أن يدفع الفتيان والفتيات إلى عواقب وخيمة

بقلم: محمد الخضر حسين
1995
لمحات من سيرة البخاري | مرابط
اقتباسات وقطوف

لمحات من سيرة البخاري


قال البخاري: فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع وعرفت كلام هؤلاء يعني: أصحاب الرأي وبين يديكم مقتطف بديع من مقدمة فتح الباري المسماة هدي الساري لابن حجر العسقلاني ينقل فيها بعض الأخبار عن سيرة الإمام البخاري رضي الله عنه

بقلم: ابن حجر العسقلاني
764
مكة: مدينة متعولمة المظهر أم مدينة مقدسة الشكل والمضمون | مرابط
فكر مقالات

مكة: مدينة متعولمة المظهر أم مدينة مقدسة الشكل والمضمون


خلال العقد الأخير تعرضت أكثر بقاع الأرض قداسة مكة المكرمة إلى موجات من التغيير والتحديث أثارت جدلا واسعا بين المسلمين في كل أنحاء العالم في العقد الماضي فقط كانت مكة المكرمة مهد الإسلام هدفا لبعض مخططات التنمية التجارية الأكبر والأسرع في العالم أكثر من مائة مبنى قيد البناء حول المسجد الحرام مما سيحول جذريا المناظر الطبيعية والتاريخية والمعمارية والاجتماعية والاقتصادية لهذه المدينة النامية بتسارع غير مسبوق

بقلم: د علي عبد الرءوف
2241
ليلة في بيت النبي الجزء الرابع | مرابط
تفريغات

ليلة في بيت النبي الجزء الرابع


والرسول عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام مسلم عن شريح بن هانئ قال: قلت لعائشة: بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل بيته قالت: بالسواك فأول ما يدخل البيت يستاك وهذا نوع من إزالة الرائحة الكريهة التي يمكن أن تكون في الفم فالإنسان ينبغي عليه أن يحرص على هذا فهذه المرأة تمدح زوجها بأنه طيب العشرة ولم يفتها أن تصفه بطيب الرائحة

بقلم: أبو إسحق الحويني
708
القانون والإنسان | مرابط
اقتباسات وقطوف

القانون والإنسان


والشرع غاية ولكنه ليس الغاية الأخيرة إنه ليس سوى حد وسط بين الإنسان كما هو ناشئا يتطلع إلى الحياة الأخلاقيةومصارعا من أجل كمالهوبين الإنسان كما ينبغي أن يكون في قبضة الفضيلة الكاملة والشرع أشبه بقنطرة بين شاطئين نحن نقطة بدايته ونقطة نهايته أوهوأشبه بسلم درجاته مستقرة على الأرض ولكن يعد من يريدون تسلقه أن يرفعهم إلى السماء

بقلم: محمد عبد الله دراز
697