شبح الحروب الصليبية الجزء الثاني

شبح الحروب الصليبية الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: محمد أسد

2113 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن الفظائع المروعة التي اقترفها الفرسان الصليبيون الأتقياء، وإن التخريب والانحطاط اللذين خلفوهما في بلاد الإسلام التي اجتاحوها ثم خسروها، كل هذه هي التي أنبتت البذور السامة لعداوة طويلة الأمد ولصلات متحرّجة بين الشرق والغرب، ولولا ذلك لما كان ثمة ضرورة إلى مثل هذا الشعور، ثم لو أن الحضارتين الإسلامية والغربية كانتا، كما نعتقد، مختلفتين تمامًا في أسسهما الروحية ونظامهما الاجتماعي لوجب أن تكونا قادرتين على التسامح فيما بينهما والعيش جنبا إلى جنب على اتصال ودّي.

 

ولقد كان في الجانب الإسلامي دائمًا رغبة مخلصة للتسامح المتكافئ وللاحترام. وحينما أرسل الخليفة هارون الرشيد رسله إلى الإمبراطور شارلمان كانت هذه الرغبة هي التي تحدو به إلى ذلك، ولم يكن ذلك منه مجرد رغبة في الاستفادة المادية من صداقة الفرنجة. أما أوروبة فكانت في ذلك الحين من الناحية الثقافية فطرية إلى حد أنها لم تقدر هذه الفرصة حق قدرها، وإن كانت لم تبد لها كرها. وأخيرًا ظهر الصليبيون فجأة عند الأفق وقطعوا هذه الصلات بين الإسلام وبين الغرب.

 

الأثر الثقافي للحروب الصليبية

 

ولم يكن ذلك لأن الصليبيين راموا الحرب، فإن حروبا كثيرة كانت قد نشبت بين الشعوب ثم نشبت فيما بعد في مدى التاريخ الإنساني، وكم من عداوة انقلبت بعد ذلك صداقة، إلا أن الشر الذي بعثه الصليبيون لم يقتصر على صليل السلاح ولكنه كان قبل كل شيء وفي مقدمة كل شيء شرًا ثقافيا. لقد نشأ تسميم العقل الأوروبي عما شوّهه قادة الأوروبيين من تعاليم الإسلام ومثله العاليا أمام الجموع الجاهلة من الغرب. وفي ذلك الحين استقرت تلك الفكرة المضحكة في عقول الأوروبيين من أن الإسلام دين شهوانية وعنف حيواني، وأنه تمسك بفروض شكلية وليس تزكية للقلوب وتطهيرًا لها، ثم بقيت هذه الفكرة حيث استقرت، وفي ذلك الحين أيضًا نُبز الرسول محمد بقولهم "كلبي".

 

امتداد الحمية الصليبية

 

لقد بذرت بذور البغضاء، إن حمية الصليبيين الجاهلية كان لها ذيولها في أماكن كثيرة من أوروبة فشجع ذلك نصارى الأندلس على الحرب لإنقاذ بلادهم من نير الوثنيين. وأما تدمير إسبانيا المسلمة (الأندلس) فقد اقتضى قرونًا كثيرة حتى تم.. ولما تطاول أمد هذا القتال على وجه الحصر أخذ الشعور ضد الإسلام في أوروبة ينشب جذوره ثم يثبت. ولقد انتهى باستئصال شأفة العهد الإسلامي في إسبانية بعد اضطهاد بالغ الوحشية والقسوة، مما لم يشهده العالم قط، وإن كانت أصداء الفرح قد تجاوبت في أوروبة على أثر ذلك، مع العلم بأن النتائج التي تلت كانت القضاء على العلوم والثقافة والتبذل بها جهل العصور الوسطى وخشونتها.

 

ولكن قبل أن يتاح لصدى هذه الحوادث أن يخفت في إسبانية حدث حدث ثالث عظيم الأهمية، زاد في فساد الصلات بين العالم الغربي وبين الإسلام: ذلك هو سقوط القسطنطينية في يد الأتراك. لقد كانت أوروبة ترى بقية من الزهو اليوناني والروماني القديم على بيزنطيوم (القسطنطينية) وكانت تنظر إليها على أنها حصن أوروبا ضد برابرة آسية، وبسقوط القسطنطينية فُتح باب أوروبة على مصراعيه للسيل الإسلامي. وفي القرون التي تلت والتي امتلأت بالحروب لم تبق عداوة أوروبة للإسلام قضية ذات أهمية ثقافية فحسب، بل ذات أهمية سياسية. وهذا زاد في اشتداد تلك العداوة.

 

ومع هذا كله فإن أوروبة قد استفادت كثيرًا من هذا النزاع. إن النهضة أو إحياء الفنون والعلوم الأوروبية باستمدادها الواسع من المصادر الإسلامية والعربية على الأخص كانت تُعزى في كثير إلى الاتصال المادي بين الشرق والغرب. ولقد استفادت أوروبة أكثر مما استفاد العالم الإسلامي ولكنها لم تعترف بهذا الجميل وذلك بأن تنقص من بغضائها للإسلام، بل كان الأمر على العكس، فإن تلك البغضاء قد نمت مع تقدم الزمن ثم استحالت عادة.

 

ولقد كانت هذه البغضاء تغمر الشعور الشعبي كلما ذُكرت كلمة "مسلم" ولقد دخلت في الأمثال السائرة عندهم حتى نزلت في قلب كل أوروبي رجلا كان أم امرأة. وأغرب من هذا كله انها ظلت حيّة بعد جميع أدوار التبدل الثقافي. ثم جاء عهد الإصلاح الديني حينما انقسمت أوروبة شيعا ووقفت كل شيعة مدججة بسلاحها في وجه كل شيعة أخرى، ولكن العداء للإسلام كان عاما فيها كلها. بعدئذ جاء زمن أخذ الشعور الديني فيه يخبو ولكن العداء للإسلام استمر.

 

وإن من أبرز الحقائق على ذلك أن الفيلسوف والشاعر الفرنسي فولتير، وهو من ألد أعداء النصرانية وكنيستها في القرن الثامن عشر، كان في الوقت نفسه مبغّضًا مغاليا للإسلام ولرسول الإسلام.

 

وبعد بضعة عقود جاء زمن أخذ فيه علماء الغرب يدرسون الثقافات الأجنبية ويواجهونها بشيء من العطف، أما فيما يتعلق بالإسلام فإن الاحتقار التقليدي أخذ يتسلل في شكل تحزّب غير معقول إلى بحوثهم العلمية، وبقي هذا الخليج الذي حفره التاريخ بين أوروبة وبين العالم الإسلامي غير معقود فوقه بجسر. ثم أصبح احتقار الإسلام جزءا أساسيا من التفكير الأوروبي.

 

والواقع أن المستشرقين الأولين في الأعصر الحديثة كانوا مبشرين نصارى يعملون في البلاد الإسلامية، وكانت الصورة المشوّهة التي اصطنعوها من تعاليم الإسلام وتاريخه مدبّرة على أساس يضمن التأثير في موقف الأوروبيين من الوثنيين. غيير أن هذا الالتواء العقلي قد استمر مع أن علوم الاستشراق قد تحررت من نفوذ التبشير، ولم يبق لعلوم الاستشراق هذا عذر من حمية دينية جاهلية تسيء توجيهها. أما تحامل المستشرقين على الإسلام غريزة موروثة، وخاصة طبيعية تقوم على المؤثرات التي خلفتها الحروب الصليبية بكل ما لها من ذيول في عقول الأوروبيين الأولين.

 

كيف استمر الحقد الأوروبي الصليبي؟

 

ولقد يتساءل بعضهم فيقول: كيف يتفق أن نفورًا قديمًا مثل هذا -وقد كان دينيا في أساسه وممكنا في زمانه بسبب السيطرة الروحية للكنيسة النصرانية- يستمر في أوروبة في زمن ليس الشعور الديني فيه إلا قضة من قضايا الماضي؟

 

ليست مثل هذه المعضلات موضع استغراب أبدًا، فإنه من المشهور في علم النفس أن الإنسان قد يفقد جميع الاعتقادات الدينية التي تلقّنها في أثناء طفولته، بينما تظل بعض الخرافات الخاصة -والتي كانت من قبل تدور حول تلك الاعتقادات المهجورة- في قوّتها تتحدى كل تعليل عقلي في جميع أطوار ذلك الإنسان، وهذه حال الأوروبيين مع الإسلام. فعلى الرغم من أن الشعور الديني الذي كان السبب في النفور من الإسلام قد أخلى مكانه في هذه الأثناء لاستشراف على الحياة أكثر مادية، فإن النفور القديم نفسه قد بقي عنصرا من الوعي الباطني في عقول الأوروبيين.

 

وأما درجة هذا النفور من القوة فإنها تختلف بلا شك بين شخص وآخر، ولكن وجوده لا ريب فيه. إن روح الحروب الصليبية -شكل مصغر على كل حال- مازال يتسع فوق أوروبة، ولا تزال مدنيتها تقف من العالم الإسلامي موقف يحمل آثارا واضحة لذلك الشبح المستميت في القتال.

 


 

المصدر:

  1. الإسلام على مفترق الطرق، محمد أسد، ص55
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
فن أصول التفسير ج5 | مرابط
تفريغات

فن أصول التفسير ج5


ما هي السور التي ابتدأت بالقسم وما هي أنواع المقسم به فعندنا هنا أقسم بالطور فلو أردنا أن نأخذ نظائر لهذه السورة من جهة الابتداء نجد مثل: والشمس وضحاها الشمس:1 مثل: والذاريات ذروا الذاريات:1 مثل: والنجم إذا هوى النجم:1 مثل: والليل إذا يغشى الليل:1 مثل: والفجر الفجر:1 إذا نلاحظ أن عندنا نظائر لهذه السورة من جهة القسم ومفيد جدا لتالي القرآن أن يتأمل ما هي النظائر في الخبر والإنشاء ما هي النظائر في قضية القسم يعني ما هي السورة التي ابتدئ بها بالقسم ما هي السورة التي ابتدئ بها بالحمد ما هي السو...

بقلم: مساعد الطيار
674
اقتضاء العدل الإلهي للجزاء الآخروي | مرابط
اقتباسات وقطوف

اقتضاء العدل الإلهي للجزاء الآخروي


وأما اقتضاء العدل الإلهي للجزاء الأخروي فظاهر وجعل الله التسوية بين المحسن والمسيء حكما سيئا منافيا للحق الذي خلقت به السماوات والأرض والواقع أن هذا التفريق الذي يقتضيه عدل الله تعالى وحكمته غير متحقق تماما في الدنيا

بقلم: د سعود عبد العزيز العريفي
668
رسالة إلى كل مبتلى ومصاب ومهموم | مرابط
مقالات

رسالة إلى كل مبتلى ومصاب ومهموم


هذه رسالة جامعة من الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السحيم يوجهها إلى كل مسلم مبتلى أو مهموم أو سقط في دوامات الحزن ولم يقدر على الخروج منها هنا تجد معالم الطريق وتتنبه إلى معاني الابتلاء وطبيعة الحياة الدنيا وتجد تعزية وتسلية على حالك وإعانة لك على الخروج

بقلم: عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
1912
الوجود الصهيوني: بين العنف وسياسة الإحلال | مرابط
اقتباسات وقطوف

الوجود الصهيوني: بين العنف وسياسة الإحلال


والكيان الصهيوني غرس غرسا في فلسطين ليلعب دورا قتاليا ضد المنطقة العربية وعلى مستوى من المستويات يمكن القول إن المشروع الصهيوني كان يهدف إلى نقل الفائض البشرى اليهودي من أوروبا إلى فلسطين وتحويله إلى مادة قتالية تخدم المصالح الغربية

بقلم: عبد الوهاب المسيري
554
دلالة آيات العتاب على مصدرية القرآن | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

دلالة آيات العتاب على مصدرية القرآن


آيات العتاب الواردة في القرآن الكريم وتحليلها يثبت بشكل قاطع أن القرآن الكريم ليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم كما ادعى أولياء الشيطان وإنما هو وحي من عند الله وفي هذا المقال المقتطف للأستاذ محمد عبد الله دراز تحليل وتفصيل لآيات العتاب ودلالتها على مصدرية القرآن

بقلم: محمد عبد الله دراز
2386
محاسن الفراسة | مرابط
اقتباسات وقطوف

محاسن الفراسة


ومن ألطف ما يحكى في ذلك: أن بعض الخلفاء سأل رجلا عن اسمه فقال: سعد يا أمير المؤمنين فقال: أي السعود أنت قال: سعد السعود لك يا أمير المؤمنين وسعد الذابح لأعدائك وسعد بلع على سماطك وسعد الأخبية لسرك فأعجبه ذلك ويشبه هذا: أن معن بن زائدة دخل على المنصور فقارب في خطوه فقال له المنصور: كبرت سنك يا معن قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين قال: إنك لجلد قال: على أعدائك قال: وإن فيك لبقية قال: هي لك

بقلم: ابن القيم
656