شبهات الحداثيين العرب حول تدوين السنة النبوية والرد عليها ج3

شبهات الحداثيين العرب حول تدوين السنة النبوية والرد عليها ج3 | مرابط

الكاتب: شنوف عبدالهادي

1731 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

المطلب الثالث: الرد على شبهة " الإسناد منافٍ للعقل ومناقض للمنهج القرآني "

 

إن الإسناد عند المحدثين يسعى إلى غاية كلية شريفة؛ وهي حماية حديث النبي صلى الله عليه وسلم من التحريف والوضع، لذلك اعتنى علماؤنا بهذا العلم الذي ميز الله به أمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأمروا الناس بتعلمه والحفاظ عليه، قال الأوزاعي: " الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ".

ولما كان للإسناد أهمية كبيرة في حفظ السنة النبوية وتدوينها، ألقى الحداثيون العرب عديد الشبهات حول الإسناد للإنقاص من قيمته، في سياق الذم للسنة النبوية عموما ولعلوم الحديث خصوصا، فينكرون على المحدثين تعلقهم الكبير بالأسانيد، والمبالغة في الاعتداد به باعتباره أساسا لصحة الحديث، حتى أطلق أحدهم على المحدثين لقب "عبيد الإسناد".

ومن الشبهات المثارة حول الإسناد شبهة أن الإسناد يشكل خطورة على العقل البشري ويمارس عليه تغييبا، حيث أن هذا الإسناد - بزعمهم - يمكن اختلاقه وتوظيفه، فلا يصعب على من اختلق المتن أن يختلق له سندا، فيكفي أن يقول القائل (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيسارع الناس بتصديقه، ويمتثلون لما يقول دون تفكير أو تمحيص، وهذا لارتباط الناس بالأسانيد واعتمادهم عليها وعدم اعتمادهم على عقولهم[1].

وممن أثار هذه الشبهة من الحداثيين العرب الدكتور أحمد صبحي منصور[2]، في مقال منشور على الأنترنت بعنوان: "الإسناد في الحديث" إذ بدأ مقاله بذكر قصة مشهورة ملخصها: ( أن رجلا أراد أن يثبت لصاحبه غفلة الناس وأنهم كالبقر لا يفقهون شيئا، فصعد ربوة وقال: يا قوم هلموا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا حوله وأقبل يحدثهم: روى فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا بلغ لسان أحدكن أرنبة أنفه دخل الجنة) فأخرج السامعون ألسنتهم إلى أنوفهم وأصبح شكلهم يشبه البقر)

وبعد سرد هذه القصة قال الدكتور صبحي معلقا عليها: " ما الذي جعل عقول أولئك الناس تغيب، إنه التصديق والإيمان بأن ما يقوله هذا الرجل قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم حقا، وما الذي جعلهم يؤمنون ويصدقون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك الكلام؟ إنه الإسناد، أي أسند أو نسب ذلك الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم عبر العنعنة، أي قال حدثني فلان عن فلان... إلخ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا. وهذا معنى الاسناد وهذه خطورته على العقل.. اهـ"، ثم يقول: "إن الإسلام الصحيح هو دين العقل، بل إن التعقل أو استعمال العقل هو سبب إنزال القرآن، ولكن الإسناد أوجد خصومة مستحكمة بين المسلمين والتعقل"[3].

 

ويرد على هذه الشبهة بأن الإسناد في الحقيقة لا يغيب العقل ولا يلغيه – كما صرح بذلك الكاتب – بل إن الإسناد دليل مادي عقلي محسوس، ويتضح هذا من أمرين، هما:

أولا: أن أفراد هذه الأسانيد ليسوا أشخاصا مجهولين، بل هم أفراد معروفون ولهم تراجم وافية في كتب التراجم وكتب الجرح والتعديل، يذكر فيها كل التفاصيل التي تتعلق بروايتهم وبحياتهم الشخصية، ومن كان منهم مجهولا فإن حديثه يطرح ولا يقبل.

ثانيا: لم يقل أحد من المحدثين أن أي حديث يرُوى بالإسناد فهو صحيح ومقبول لا محالة، بل إنهم يروون بالإسناد الصحيح وغيره، ولكنهم يمحصون الروايات، فإذا كان رجال السند كلهم ثقات وخلا الحديث من العلل فإن المحدثين يصححون ذلك الحديث ويقبلونه، أما إذا كان رجال الإسناد ضعفاء أو فيهم راو ضعيف فإن المحدثين لا يقبلون ذلك الحديث ويضعفون تلك الرواية، وهذا هو المنهج الصحيح الذي يرتضيه أي عقل سليم.

كما يُرد عن الأستاذ أحمد صبحي منصور بادعائه أن الإسناد منافٍ للعقل استنادا على هذه القصة؛ فنقول له: نحن لا نثق بهذه القصة لأنها مسندة، كما أن هذا الحديث الوارد في القصة لا يخف أمره على أحد من المحدثين، فلا نجده مثبتا في أي كتاب من كتب السنة، ولو كان يمكن اختلاق الإسناد وتمريره على الناس، لرأينا هذا الحديث مثبتا في كتب السنة المعتمدة، أو نرى رواته موثقين في كتب الرجال[4].

وأثار أحمد صبحي شبهة أخرى حول الإسناد، وأدعى أنه مناقض للمنهج القرآني، إذ يقول في مقاله سابق الذكر: ( إن إسناد قول ما للنبي صلى الله عليه وسلم يعني تحويل ذلك القول أو الحديث إلى حقيقة دينية يكون المسلم مطالبا بالإيمان بها والعمل وفقا لأحكامها، وهذا لا يتأتى إلّا للقرآن وحده، فالقرآن محفوظ بقدرة الله تعالى، وليس هنالك من وحي أما تلك الأحاديث التراثية فلا أول لها ولا آخر، وهي تتناقض مع بعضها وتناقض القرآن...) ثم يواصل الكتاب كلامه بقوله: ( إن إسناد قول ما للنبي صلى الله عليه وسلم وجعله حقيقة دينية هو اتهام للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه فرط في تبليغ الرسالة، وأنه ترك جزءا من الرسالة يتناقله الناس من بعده ويختلفون فيه، إلا أننا نؤمن أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة كاملة وهي القرآن الكريم) والنتيجة التي خلص إليها الكاتب للخروج من هذا المأزق – على حد تعبيره – تكمن في إلغاء ذلك الإسناد، وقطع الصلة بين تلك الأحاديث والنبي صلى الله عليه وسلم رحمة بالإسلام، وتماشيا مع المنطق، والمنهج العقلي والعلمي[5].

 

ويمكن مناقشة هذه الشبهة بقولنا إن عمل المحدثين باعتبار الإسناد دليلا على صحة الحديث يتفق في طبيعته مع المنهج القرآني، ولا يخالفه بأي حال، ويمكن الرد على هذه الشبهة من خلال النقاط التالية:

أولا: لم يقل أحد من المحدثين أن إسناد أي قول للنبي صلى الله عليه وسلم يعني الحكم بصحته، فهم يروون بالإسناد كل نوع من أنواع الحديث؛ الصحيح والحسن والضعيف بل حتى المكذوب، أما الحكم على الحديث المسند الصحيح بأنه حقيقة دينية فليس في ذلك مؤاخذة، فإن الحديث إذا صح سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح حقيقة دينية، لأن الأخذ بالحديث الصحيح هو في حقيقته استجابة للأمر القرآني في قوله تعالى: ﴿ وما ءاتكم الرسول فخذوه ﴾ [سورة الحشر: 7 ].

ثانيا: أن القرآن علّق قبول الأخبار بمعرفة أحوال ناقليها، فأمرنا سبحانه أن نتبين في خبر الفاسق ونتثبت منه، حتى يثبت صدقه، فمفهوم الآية يدل على قبول خبر العدل، ويدل دلالة ظاهرة على اعتبار الاسناد في قبول الأخبار، وهذا الأصل بنى عليه المحدثون نقلهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم.

 

الخاتمة:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ثم أما بعد: ففي ختام هذا البحث الذي حاولنا فيه الدفاع عن السنة النبوية التي تتعرض لهجمات كبيرة، من بعض أبناء جلدتنا ومن يتكلمون بلساننا؛ وهم الحداثيون العرب، الذين أثاروا عدة شبه حول تدوين السنة النبوية وما يتعلق به، نقف على جملة من الحقائق والنتائج، أهمها:

1- الحداثة فكر غربي ومشروع أيديولوجي، له أهدافه وأدواته وغايته التي يناضل من أجلها، والحداثيون العرب متأثرون بهذا الفكر، وينطلقون منه لنقد الموروث الإسلامي.

2- وقف الحداثيون العرب موقف المعادي الشديد للسنة النبوية، قصد النيل منها، والحد من حجيتها، وإلغاءها من مصادر التشريع الإسلامي، وجعل العقل مكانها.

3- أثار الحداثيون العرب عدة شبهات حول تدوين السنة النبوية، وفي الحقيقة هي تساؤلات عقلية، يستطيع أي عقل ان يشكك في أي شيء وفي أي وقت، فتساؤل كيف وأين ومن ولعل.. لا يعجز أحد عن نثره.

4- إن الشبهات المثارة حول تأخر تدوين السنة كلها شبهات باطلة، أثارها أول من أثارها المستشرقون، وأعاد نشرها بعض المثقفين العرب المتأثرين بالأفكار الغربية، إلا أن علماؤنا كانوا بالمرصاد لهذه الشبه وفندوها من عدة وجوه.

5- إن شبهة عدم حجية السنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدونها هي شبه باطلة، لأنهم حصروا الحجية في الكتابة فقط، وإهمال وسائل التوثيق والحجية الأخرى، وجهل بصور العناية بالسُّنة النبوية في القرنين الأول والثاني، وجهل بوجود الكتابة المبكِّرة للسنة النبوية.

6- إن الادعاء الذي أثاره بعض الحداثيين حول الإسناد بقولهم تارة أنه منافٍ للمنهج القرآني، وقولهم تارة أخرى أنه مناقض للعقل لسهولة اختلاقه، هي تهم داحضة، وكلام لمن لا علم له، فالإسناد هو حقيقة المنهج القرآني الذي دعانا للتثبت في قبول الأخبار.

 

وفي الختام أضع بين أيدي من يقرأ بحثي هذا شيئاً من التوصيات، علها تجد آذاناً صاغية وقلوباً مفتوحة وأنفساً غيورة على هذا الدين العظيم، فأقول:

1- ضرورة قيام المعاهد والكليات الشرعية والمؤسسات الإسلامية بدورها في الحَدِّ من نشر الشبهات الواهية حول السنة النبوية.

2- تكوين الأئمة والدعاة، وتبيين الطرق العلمية للرد على شبهات الحداثيين العرب حول السنة النبوية وحجيتها.

3- تقريب الخطاب الاسلامي المعتدل للمثقفين العرب، خاصة المتأثرين بالفلسفات الغربية. فعلماء الإسلام مطالبون أكثر من أي وقت مضى بالوقوف على القرآن الكريم والسنة النبوية واستجلاءهما وإخراج العلوم منها بما يتلاءم مع روح العصر وأدواته.

4- ضرورة مراجعة المنهج النقدي عند المحدثين، لا لأنه عاجز بل لإدامة إحياءه والإفادة منه.

 

وفي الختام أسأل الله العلي القدير ان يكون هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يتقبله مني، وأن يجعله لبنة في صرح الدفاع عن السنة النبوية المطهرة، وما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام، ص260. وأحمد صبحي منصور، الإسناد في الحديث. بتصرف.
  2. أحمد صبحي منصور، مفكر إسلامي مصري، ولد في 1 مارس 1949 بالشرقية، كان يعمل مدرسا في جامعة الأزهر، لكنه فصل منها بسبب إنكار للسنة النبوية، وتأسيسه للمنهج القرآني الذي يكتفي بالقرآن مصدرا وحيدا للتشريع الاسلامي، سافر إلى أمريكا ليعمل مدرسا في جامعة هارفارد، له عدة آراء جريئة جدا على السنة النبوية ومناقضة لأصول الإسلام.
  3. أحمد صبحي منصور، الإسناد في الحديث.
  4. خالد أبا الخيل، الاتجاه العقلي وعلوم الحديث جدلية المنهج والتأسيس، ص 114.
  5. أحمد صبحي منصور، الإسناد في الحديث.

 

المصدر:

موقع الألوكة

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#السنة-النبوية #شبهات-حول-السنة
اقرأ أيضا
تأثير استخدام الأدوات والتقنيات على المخ | مرابط
ثقافة

تأثير استخدام الأدوات والتقنيات على المخ


مخنا فيه قدرة مهمة جدا اسمها المرونة العصبية المرونة العصبية هي قدرة المخ على التغير والتشكل على مدار حياتك نتيجة الخبرات التي تتعرض لها البيئة التي تعيش فيها أو التقنيات والأدوات التي تستخدمها المرونة العصبية ممكن ينتج عنها تقويض دوائر عصبية خاصة بوظيفة معينةلو كنت تقول بهذه الوظيفة لو كنت تقوم بها في شكل دوري وينتج عنها أيضا ضعف في الدوائر العصبية الخاصة بأي وظيفة أنت توقفت عن القيام بها

بقلم: علي محمد علي
324
وقاحة الأدب | مرابط
فكر مقالات

وقاحة الأدب


نحن لا نشك في حقيقتين ظاهرتين متمايزتين متحزبتين بطبيعة الفطرة الإنسانية الاجتماعية: فالحقيقة الأولى: هي مطالب الفرد لنفسه ورغباته وأمانيه وأحلامه والحقيقة الأخرى: هي مطالب الجماعة المكونة من الأفراد على اختلاف نزعاتهم في أنفسهم وخاصتهم وكل عمل فردي لا يكاد يفلت أثره في الجماعة وتوجيهه في الحياة الاجتماعية عامة إلى جهة بعينها وخاصة إذا كان مرد أعمال الأفراد إلى قاعدة عامة تطلق لهم من الحرية ما يجعل أعمال الفرد استقلالا على طريقة المصلحة الفردية التي لا تحترم قيود الجماعة

بقلم: محمود شاكر
1249
إبطال شبهات الدارونية | مرابط
فكر مقالات

إبطال شبهات الدارونية


للناس في كيفية نشأة الحياة مذهبان مذهب يرى ويؤمن بالخلق المباشر بمعنى أن الله خلق الكون وسائر الحيوان بقوله: كن فكان ما أراد سبحانه وعلى هذا المذهب علماء الأديان وأكثر علماء الطبيعة وذهب آخرون إلى أن نشوء الحياة في سائر الحيوان كان عن طريق النشوء البطيء وتحول أنواع وظهور أنواع جديدة وكان من أشهر القائلين بهذا الرأي العالم الفرنسي لامارك وظل هذا المذهب ضعيفا لا يقوى على الوقوف أمام مذهب أهل الأديان إلى أن جاء دارون فدفع مذهب التحول دفعة قوية للأمام عندما وضع سنة 1859م كتابه في أصل الأنواع بط...

بقلم: إسلام ويب
1081
الدعوة إلى الله | مرابط
مقالات

الدعوة إلى الله


ولم يمر على المسلمين زمن كانوا أبعد فيه عن القرآن كهذا الزمن فلذلك وجب على كل من امتحن الله قلبه للتقوى وآتاه هداه أن يصرف قوته كلها في دعوة المسلمين إلى القرآن ليقيموه ويحققوا حكمة الله في تنزيله ويحكموه في أهواء النفوس ومنازع العقول ويسيروا بهديه وعلى نوره فإنه لا يهديهم إلا إلى الخير ولا يقودهم إلا إلى السعادة.

بقلم: محمد البشير الإبراهيمي
303
المذاهب والفرق المعاصرة: العلمانية ج1 | مرابط
تفريغات العالمانية

المذاهب والفرق المعاصرة: العلمانية ج1


فكرة العلمانية التي ظهرت أفرزت كثيرا من المذاهب وكثيرا من الأفكار بعضها صارت مشهورة ومعروفة عند الناس وبعضها صارت مغمورة وبعضها أقل من ذلك وبعضها أكثر وصارت هناك عشرات النظريات بل مئات النظريات الغربية التي انطلقت من هذا المنطلق وهو العلمانية وأنه ينبغي لك أن تبحث وأن تفكر بغض النظر عن الدين ويسمون الدين اللاهوت ويقولون: اللاهوت هو عبارة عن أشياء روحانية تؤديها في مكانها المخصوص وهو الكنيسة بالنسبة للغربيين والعلمانيون المنتسبون للإسلام يقولون: المسجد وأما بقية الحياة فلها شأن آخر

بقلم: عبد الرحيم السلمي
672
اقتضاء العدل الإلهي للجزاء الآخروي | مرابط
اقتباسات وقطوف

اقتضاء العدل الإلهي للجزاء الآخروي


وأما اقتضاء العدل الإلهي للجزاء الأخروي فظاهر وجعل الله التسوية بين المحسن والمسيء حكما سيئا منافيا للحق الذي خلقت به السماوات والأرض والواقع أن هذا التفريق الذي يقتضيه عدل الله تعالى وحكمته غير متحقق تماما في الدنيا

بقلم: د سعود عبد العزيز العريفي
663