قانون لتدمير الأسرة

قانون لتدمير الأسرة | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

2344 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

صفاء المنهج الإسلامي

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصًا تمام الحرص على ألاّ يختلط المنهج الإسلامي بغيره من المناهج الأرضية الوضعية؛ حتى لا تفقد الأمة أهم مقومات قيامها، وهو الاعتماد في تشريعها ومبادئها على القرآن والسنة، وذلك تحقيقًا لقول الله عز وجل: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}. [الزمر: 3]. وحتى إنه عندما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في صفحة من التوراة، قال له وهو غاضب: "أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَابْنَ الْخَطَّابِ؟! وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً... وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي"(1).
 
وعلى مر التاريخ كانت هذه القضية هي الفيصل في قيام الأمة الإسلامية أو سقوطها، فليس هناك فترة من فترات النهوض والعزة إلا وتجد الأمة متمسكة بقرآنها وسُنَّة نبيها، وتأبى أن تفرط في بندٍ واحد من بنود الشريعة الحكيمة. وليس هناك -أيضًا- فترة من فترات الضعف إلا وتجد فيها تهاونًا كبيرًا في أمر الدين، حتى يأتي المشرعون والحكام ورجال الفكر بقوانين ما أنزل الله بها من سلطان، ويهجرون الشرع المحكم الذي أنزل رب العالمين.
 

استيراد القوانين

وها نحن في هذه الأيام نمر بفترة عصيبة من حياة الأمة، تستورد فيها الأمة القوانين من هنا وهناك، غير مبالين بمخالفة الشريعة الإسلامية، وغير عابئين بالآثار الوخيمة التي ستعود على المسلمين من جرَّاء تطبيق هذه القوانين المستوردة، ومن آخر هذه القوانين وأخطرها قانون الطفل الجديد!!
 
ومع أنَّ المروجين للقانون يعلنون أنه يهدف إلى حماية الطفل، ومع أن القانون يحوي فعلًا بعض البنود التي تهدف إلى مصلحة الطفل كمنع الاتِّجار به، وعدم التعرض له بالتحرُّش الجنسي، إلا أن القانون في الوقت نفسه يحمل الكثير من المخالفات للشريعة الإسلامية، وعلى الرغم من ذلك فقد أقره مجلس الشوري المصري، وهو معروض على مجلس الشعب.
 

قانون الطفل في ميزان الإسلام

إنَّ القانون بدايةً يُعرِّف الطفل بأنه الذي لم يصل إلى ثمانية عشر عامًا، وذلك اتِّباعًا لتعريف الأمم المتحدة وأوروبا وأمريكا، ومِنْ ثَمَّ فإنه يسحب عدَّة أحكام -بناءً على هذا التعريف- فيها مخالفةٌ واضحةٌ للشريعة الإسلاميَّة؛ فالطفل في الإسلام هو الذي لم يصل إلى حدِّ البلوغ بعدُ، وهذا بالنسبة إلى الذكر والأنثى، أمَّا إذا حدث البلوغ فقد طُرح الطفل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة تحمل المسئولية (مرحلة المراهقة والبلوغ عند علماء النفس)، وفيها يصبح الإنسان -ذكرًا كان أو أنثى- محاسبًا من رب العزة سبحانه وتعالى على كل أعماله، وكذلك يصبح في الشريعة الإسلامية محاسبًا على كل أفعاله.
 
وبناءً على وصف الشاب الذي وصل إلى البلوغ ولكنه لم يصل إلى ثماني عشرة سنة بأنه طفل، فإن القانون يجرم زواج هذا الشاب أو الشابة، ومن ثَمَّ تصبح عقود الزواج قبل سن 18 باطلة، وهذا مخالفة للشريعة الإسلامية التي تجيز الزواج قبل هذا السن إذا تم البلوغ.
 
ثم تأتي الجريمة الكبرى والبلية العظمى، حيث يطالب القانون الجديد بتوفير ما يضمن الصحة الإنجابية للأطفال! بمعنى أن تتوفر وسائل منع الحمل لهم حتى يحمي البنات من الحمل المبكر، ويحمي الجنسين من الإيدز! فالزنا إذن قبل 18 سنة مسموح بشرط الحفاظ على الصحة وعدم الحمل، لكن الزواج ممنوع!!
 
وليس هذا فقط بل يؤكد القانون على أن الفتاة تملك جسدها، وبالتالي فهي تستطيع أن تتصرف فيه كما تشاء، وإذا ما أنجبت طفلًا دون زواج، فإنَّ لها أن تنسب هذا الطفل لنفسها أو لأبٍ وهميٍّ دون احتياجٍ إلى وجود الأب الحقيقي للمولود!
 
إنَّه إعلانٌ واضحٌ أنَّ العلاقات غير الشرعية ستصبح متاحةً وسهلة، بينما الزواج سيكون صعبًا ومعقَّدًا، بل إنَّ القانون يشترط على المتزوجين أن يقوموا بالفحص الطبي، فإذا لم يرفق بعقد الزواج هذا الفحص الطبي فإن العقد لا يصلح!
 
هذه بعض بنود القانون الخاصة بالعلاقات الجنسية، وما يتعلق بها.
 
ولا يكتفي القانون بهذا التدمير للأسرة، بل هو يسلك سبلًا أخرى للتدمير، منها على سبيل المثال تشجيع الطفل على أن يتصل بالشرطة لتنقذه من أبويه إذا تعرَّض للضرب منهما! وهنا تأتي الشرطة الرحيمة لتنتزع الطفل من أبويه، وتضعه في أحد المؤسسات الاجتماعيَّة الرقيقة والرفيقة!! أو تُعطي هذا الطفل لأحد الأسر الأمينة، إلى أن يثبت أنَّ الأب والأم لن يجرآ على ضربه مرَّةً ثانية!!

 

إنَّنا نُدرك أنَّ هناك بعض الحالات التي يتجرَّد فيها الأب أو الأم من المشاعر الإنسانيَّة الطبيعيَّة، ويتجاوزون في إيذاء أبنائهم، لكن هل من أجل هذه الحالات يعاقب كل الآباء والأمهات بسحب أبنائهم منهم في حالة ضرب الطفل؟! وهل سيبقى حبٌّ بين الطفل وأبويه عندما يستدعي الطفل الشرطة للآباء؟! وهل إذا علَّم أب ابنه الصلاة لسبعٍ ثم ضربه عليها لعشرٍ فإن الشرطة ستسحب الابن لتعطيه لأسرة أمينة لا تضرب على الصلاة؟!
 
إننا لسنا بهذا الكلام نشجع الضرب أو الإيذاء، بل نعلم أن الرفق خير في الأمور كلها، لكن لا يكون العلاج بإدخال الشرطة والقضاء والحكومة في العلاقة الدقيقة بين الآباء وأبنائهم.
 

النموذج الأوروبي


وقد يعتقد البعض أن هذا الكلام نظري، وأنه غير قابل للتطبيق، لكني أقول لهؤلاء أن هذا هو ما يحدث بالفعل في البلاد الأوربية وأمريكا، وأن الحكومة فعلاً تسحب الأبناء من آبائهم إذا قام الأب بضرب الابن وأبلغ الابن الشرطة. وإننا إذا كنا نستغرب هذا الآن فإنه سيصبح أمرًا عاديًّا مستقبلاً، وقد تعجبت الأمة كثيرًا عندما ظهر من ينادي أن تخلع المرأة المسلمة حجابها، ومرت الأعوام والأعوام، وأصبح عاديًّا جدًّا أن نرى النساء المسلمات بلا حجاب، بل يتجرأ الكثيرون عليه ويصفونه بالرجعية والتخلف والظلم للمرأة.
 

الحجاب

وللعلم فإن القانون الجديد يعطي الطفلة التي لم تصل إلى ثمانية عشر عامًا الحقَّ في رفض الحجاب وإنْ وصلت إلى سن البلوغ، بل إن القانون الجديد يعطي الطفل حق اختيار الديانة، فليس بالضرورة أن يصبح الطفل مسلمًا إذا كان أبواه مسلمين!!
 

خلاصة


إلى أين تسير الأمة بهذه القوانين؟ ومَن المستفيد حقيقةً من تطبيقها؟!
 
إنني أرى أن مجرد عرض هذه البنود الإباحية والمارقة للمناقشة إثمٌ كبير وذنب عظيم، فما بالكم بإقراره وتطبيقه!! إنهم بدعوى حرية الفكر والرأي، والنظام العالمي الجديد يعرضون كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهواء الناس واختياراتهم، وليس من شك أن الإسلام -وإن كان يؤيد الشورى- إلا أن ذلك لا يكون فيما أحله الله عز وجل أو حرمه.
 
وما أعظم رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ لنا هذه الأحداث التي تمر بنا حيث قال: "لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ"(2). .قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فَمَنْ"
 
إن الأمة الإسلامية لن تخرج من كبوتها إلا بالاعتزاز الحقيقي بدينها، وهذا الاعتزاز الحقيقي يعني الرضا بما حكم الله ورسوله، والقناعة التامة بصلاحية الشريعة لحكم المسلمين في كل زمان ومكان، والتطبيق الفعلي لها في كل صغيرة وكبيرة من حياتنا.
 
وعندما نشعر بهذه العزة فعلاً، سيكون الخروج من أزماتنا بإذن الله، ولن ينصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أوَّلها.
 
ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. رواه أحمد (15195) ترقيم النسخة الميمنية، وضعفه شعيب الأرناءوط.
  2. البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" (6889)، ترقيم مصطفى البغا.

 

المصدر:

  1. د. راغب السرجاني، بين التاريخ والواقع، الجزء الثاني، ص111
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#بين-التارخ-والواقع #حقوق-الطفل
اقرأ أيضا
اجتلاء العيد | مرابط
مقالات

اجتلاء العيد


جاء يوم العيد يوم الخروج من الزمن إلى زمن وحده لا يستمر أكثر من يوم. زمن قصير ظريف ضاحك تفرضه الأديان على الناس ليكون لهم بين الحين والحين يوم طبيعي في هذه الحياة التي انتقلت عن طبيعتها. يوم السلام والبشر والضحك والوفاء والإخاء وقول الإنسان للإنسان: وأنتم بخير. يوم الثياب الجديدة على الكل إشعارا لهم بأن الوجه الإنساني جديد في هذا اليوم. يوم الزينة التي لا يراد منها إلا إظهار أثرها على النفس ليكون الناس جميعا في يوم حب.

بقلم: مصطفى صادق الرافعي
398
البشر والبشاشة في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم | مرابط
مقالات

البشر والبشاشة في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم


لقد كان حبيبنا صلوات الله وسلامه عليه يسمي أشياءه كل أشيائه.. تقريبا ما كان يترك شيئا له إلا ويجعل له اسما أو لقبا سواء في ذلك ما كان مخلوقا ينبض بالحياة أو جمادا باردا لكل دابة كان يمتلكها أو يركبها اسم أو لقب تخيل هذه النفسية التي رغم انشغالها والهموم التي تحملها والبلاءات التي تتوالى على صاحبها ومع ذلك تصر على تسمية مرآة أو كوب ماء أو درع!! بعضنا لو فعل مثل ذلك لربما تلقاه الناس بالاستهجان واللوم والاتهام بالتشاغل عن الهموم الجسيمة والمهمات الجليلة ولرمي باللامبالاة أو كما يقال بالعامية...

بقلم: محمد علي يوسف
295
الزينة والنمص | مرابط
تفريغات المرأة

الزينة والنمص


ومن اتباع الهوى والشيطان تكلف الفتاة في تزيين مظهرها ومثال ذلك النمص وهو تغيير لخلق الله وتعرض للعنة الله فقد صح عند أبي داود وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة المغيرات لخلق الله.

بقلم: محمد العريفي
406
عبادات ميسورة | مرابط
مقالات

عبادات ميسورة


ومن العبادات الميسورة التي لا يعجز أحد عنها: عبادة جميلة هي زكاة العلم وهو أنك إذا سألك أحدهم عن معلومة قلها كاملة مثلما ساقها لك رب العالمين عن طريق أحدهم... ابعثها لكل الناس أفدهم بها وكذلك عبادة الرضا الرضا بما قسمه الله لك أيا كان لأنه هو الأنسب لك في كل الأحوال

بقلم: محمد لبيب
425
معركة الحجاب الجزء الأول | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين تفريغات المرأة

معركة الحجاب الجزء الأول


يبدو أن هدم الأسرة المسلمة يأتي ضمن أولويات أعداء الدين فالأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع وهي التي تخرج للأمة الإسلامية أجيال النصر والبناء ولما كان استهداف الأسرة ضمن أهم الأولويات حاول أولياء الشيطان أن يفسدوا المرأة بأي شكل ممكن وقضية الحجاب من ضمن القضايا التي أثيرت في عالمنا العربي بإيعاز داخلي وخارجي أرادوا جميعا نزع الحجاب عن المرأة والحط من شأنه وإجبار النساء على السفور والتبرج والانحلال حتى يفسد ركن هام من أركان الأسرة وفي هذه المحاضرة للشيخ محمد صالح المنجد استعراض للقضية

بقلم: محمد صالح المنجد
2325
الليبرالية الاستئصالية الجزء الأول | مرابط
فكر الليبرالية

الليبرالية الاستئصالية الجزء الأول


مقال تفصيلي يسير بشكل موجز بين أروقة التاريخ ليحدثنا عن الليبرالية الاستئصالية التي ترفع شعار الحرية والمساواة ولكنها على أرض الواقع أبعد ما يكون عن شعاراتها ومبادئها هنا سترى الليبرالية منذ بداياتها مراحل الضعف والانهزام أمام الاشتراكية ثم انهيار الأخيرة وصعود موجات الليبرالية وبداية حقبة جديدة تمتد موجاتها إلى عالمنا الإسلامي

بقلم: إبراهيم بن محمد الحقيل
2412