قانون لتدمير الأسرة

قانون لتدمير الأسرة | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

1981 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

صفاء المنهج الإسلامي

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصًا تمام الحرص على ألاّ يختلط المنهج الإسلامي بغيره من المناهج الأرضية الوضعية؛ حتى لا تفقد الأمة أهم مقومات قيامها، وهو الاعتماد في تشريعها ومبادئها على القرآن والسنة، وذلك تحقيقًا لقول الله عز وجل: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}. [الزمر: 3]. وحتى إنه عندما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في صفحة من التوراة، قال له وهو غاضب: "أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَابْنَ الْخَطَّابِ؟! وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً... وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي"(1).
 
وعلى مر التاريخ كانت هذه القضية هي الفيصل في قيام الأمة الإسلامية أو سقوطها، فليس هناك فترة من فترات النهوض والعزة إلا وتجد الأمة متمسكة بقرآنها وسُنَّة نبيها، وتأبى أن تفرط في بندٍ واحد من بنود الشريعة الحكيمة. وليس هناك -أيضًا- فترة من فترات الضعف إلا وتجد فيها تهاونًا كبيرًا في أمر الدين، حتى يأتي المشرعون والحكام ورجال الفكر بقوانين ما أنزل الله بها من سلطان، ويهجرون الشرع المحكم الذي أنزل رب العالمين.
 

استيراد القوانين

وها نحن في هذه الأيام نمر بفترة عصيبة من حياة الأمة، تستورد فيها الأمة القوانين من هنا وهناك، غير مبالين بمخالفة الشريعة الإسلامية، وغير عابئين بالآثار الوخيمة التي ستعود على المسلمين من جرَّاء تطبيق هذه القوانين المستوردة، ومن آخر هذه القوانين وأخطرها قانون الطفل الجديد!!
 
ومع أنَّ المروجين للقانون يعلنون أنه يهدف إلى حماية الطفل، ومع أن القانون يحوي فعلًا بعض البنود التي تهدف إلى مصلحة الطفل كمنع الاتِّجار به، وعدم التعرض له بالتحرُّش الجنسي، إلا أن القانون في الوقت نفسه يحمل الكثير من المخالفات للشريعة الإسلامية، وعلى الرغم من ذلك فقد أقره مجلس الشوري المصري، وهو معروض على مجلس الشعب.
 

قانون الطفل في ميزان الإسلام

إنَّ القانون بدايةً يُعرِّف الطفل بأنه الذي لم يصل إلى ثمانية عشر عامًا، وذلك اتِّباعًا لتعريف الأمم المتحدة وأوروبا وأمريكا، ومِنْ ثَمَّ فإنه يسحب عدَّة أحكام -بناءً على هذا التعريف- فيها مخالفةٌ واضحةٌ للشريعة الإسلاميَّة؛ فالطفل في الإسلام هو الذي لم يصل إلى حدِّ البلوغ بعدُ، وهذا بالنسبة إلى الذكر والأنثى، أمَّا إذا حدث البلوغ فقد طُرح الطفل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة تحمل المسئولية (مرحلة المراهقة والبلوغ عند علماء النفس)، وفيها يصبح الإنسان -ذكرًا كان أو أنثى- محاسبًا من رب العزة سبحانه وتعالى على كل أعماله، وكذلك يصبح في الشريعة الإسلامية محاسبًا على كل أفعاله.
 
وبناءً على وصف الشاب الذي وصل إلى البلوغ ولكنه لم يصل إلى ثماني عشرة سنة بأنه طفل، فإن القانون يجرم زواج هذا الشاب أو الشابة، ومن ثَمَّ تصبح عقود الزواج قبل سن 18 باطلة، وهذا مخالفة للشريعة الإسلامية التي تجيز الزواج قبل هذا السن إذا تم البلوغ.
 
ثم تأتي الجريمة الكبرى والبلية العظمى، حيث يطالب القانون الجديد بتوفير ما يضمن الصحة الإنجابية للأطفال! بمعنى أن تتوفر وسائل منع الحمل لهم حتى يحمي البنات من الحمل المبكر، ويحمي الجنسين من الإيدز! فالزنا إذن قبل 18 سنة مسموح بشرط الحفاظ على الصحة وعدم الحمل، لكن الزواج ممنوع!!
 
وليس هذا فقط بل يؤكد القانون على أن الفتاة تملك جسدها، وبالتالي فهي تستطيع أن تتصرف فيه كما تشاء، وإذا ما أنجبت طفلًا دون زواج، فإنَّ لها أن تنسب هذا الطفل لنفسها أو لأبٍ وهميٍّ دون احتياجٍ إلى وجود الأب الحقيقي للمولود!
 
إنَّه إعلانٌ واضحٌ أنَّ العلاقات غير الشرعية ستصبح متاحةً وسهلة، بينما الزواج سيكون صعبًا ومعقَّدًا، بل إنَّ القانون يشترط على المتزوجين أن يقوموا بالفحص الطبي، فإذا لم يرفق بعقد الزواج هذا الفحص الطبي فإن العقد لا يصلح!
 
هذه بعض بنود القانون الخاصة بالعلاقات الجنسية، وما يتعلق بها.
 
ولا يكتفي القانون بهذا التدمير للأسرة، بل هو يسلك سبلًا أخرى للتدمير، منها على سبيل المثال تشجيع الطفل على أن يتصل بالشرطة لتنقذه من أبويه إذا تعرَّض للضرب منهما! وهنا تأتي الشرطة الرحيمة لتنتزع الطفل من أبويه، وتضعه في أحد المؤسسات الاجتماعيَّة الرقيقة والرفيقة!! أو تُعطي هذا الطفل لأحد الأسر الأمينة، إلى أن يثبت أنَّ الأب والأم لن يجرآ على ضربه مرَّةً ثانية!!

 

إنَّنا نُدرك أنَّ هناك بعض الحالات التي يتجرَّد فيها الأب أو الأم من المشاعر الإنسانيَّة الطبيعيَّة، ويتجاوزون في إيذاء أبنائهم، لكن هل من أجل هذه الحالات يعاقب كل الآباء والأمهات بسحب أبنائهم منهم في حالة ضرب الطفل؟! وهل سيبقى حبٌّ بين الطفل وأبويه عندما يستدعي الطفل الشرطة للآباء؟! وهل إذا علَّم أب ابنه الصلاة لسبعٍ ثم ضربه عليها لعشرٍ فإن الشرطة ستسحب الابن لتعطيه لأسرة أمينة لا تضرب على الصلاة؟!
 
إننا لسنا بهذا الكلام نشجع الضرب أو الإيذاء، بل نعلم أن الرفق خير في الأمور كلها، لكن لا يكون العلاج بإدخال الشرطة والقضاء والحكومة في العلاقة الدقيقة بين الآباء وأبنائهم.
 

النموذج الأوروبي


وقد يعتقد البعض أن هذا الكلام نظري، وأنه غير قابل للتطبيق، لكني أقول لهؤلاء أن هذا هو ما يحدث بالفعل في البلاد الأوربية وأمريكا، وأن الحكومة فعلاً تسحب الأبناء من آبائهم إذا قام الأب بضرب الابن وأبلغ الابن الشرطة. وإننا إذا كنا نستغرب هذا الآن فإنه سيصبح أمرًا عاديًّا مستقبلاً، وقد تعجبت الأمة كثيرًا عندما ظهر من ينادي أن تخلع المرأة المسلمة حجابها، ومرت الأعوام والأعوام، وأصبح عاديًّا جدًّا أن نرى النساء المسلمات بلا حجاب، بل يتجرأ الكثيرون عليه ويصفونه بالرجعية والتخلف والظلم للمرأة.
 

الحجاب

وللعلم فإن القانون الجديد يعطي الطفلة التي لم تصل إلى ثمانية عشر عامًا الحقَّ في رفض الحجاب وإنْ وصلت إلى سن البلوغ، بل إن القانون الجديد يعطي الطفل حق اختيار الديانة، فليس بالضرورة أن يصبح الطفل مسلمًا إذا كان أبواه مسلمين!!
 

خلاصة


إلى أين تسير الأمة بهذه القوانين؟ ومَن المستفيد حقيقةً من تطبيقها؟!
 
إنني أرى أن مجرد عرض هذه البنود الإباحية والمارقة للمناقشة إثمٌ كبير وذنب عظيم، فما بالكم بإقراره وتطبيقه!! إنهم بدعوى حرية الفكر والرأي، والنظام العالمي الجديد يعرضون كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهواء الناس واختياراتهم، وليس من شك أن الإسلام -وإن كان يؤيد الشورى- إلا أن ذلك لا يكون فيما أحله الله عز وجل أو حرمه.
 
وما أعظم رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ لنا هذه الأحداث التي تمر بنا حيث قال: "لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ"(2). .قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فَمَنْ"
 
إن الأمة الإسلامية لن تخرج من كبوتها إلا بالاعتزاز الحقيقي بدينها، وهذا الاعتزاز الحقيقي يعني الرضا بما حكم الله ورسوله، والقناعة التامة بصلاحية الشريعة لحكم المسلمين في كل زمان ومكان، والتطبيق الفعلي لها في كل صغيرة وكبيرة من حياتنا.
 
وعندما نشعر بهذه العزة فعلاً، سيكون الخروج من أزماتنا بإذن الله، ولن ينصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أوَّلها.
 
ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. رواه أحمد (15195) ترقيم النسخة الميمنية، وضعفه شعيب الأرناءوط.
  2. البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" (6889)، ترقيم مصطفى البغا.

 

المصدر:

  1. د. راغب السرجاني، بين التاريخ والواقع، الجزء الثاني، ص111
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#بين-التارخ-والواقع #حقوق-الطفل
اقرأ أيضا
اهضم مبدعا | مرابط
فكر ثقافة

اهضم مبدعا


هناك فكرة جميلة يسمونها في الغرب اسرق مبدعا وليس معنى ذلك أن تسطو على أعماله وتنسبها لنفسك وإنما معناه أن تقصد إلى نتاج مبدع في مجاله وفنه وتعكف عليه عكوف المتبتل لا تدير وجهك عنه حتى تتشربه وتقف عليه وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه حتى تهضمه ويسلس لك قياد أعماله.

بقلم: د. طلال من فواز الحسان
117
الجانب الغريزي ودلالته على وجود الله | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

الجانب الغريزي ودلالته على وجود الله


إن الجانب الغريزي الموجود في جميع الخلائق يعتبر من أهم وأبرز الأدلة الموصلة إلى وجود الله تأمل فقط في غريزة الأمومة التي تمثل معنى صافيا من الرحمة والحب الصادق بل وتأمل حتى في غرائز الحيوانات التي تحملها على القيام بأفعال معينة أو الهجرة لأماكن معينة وغير ذلك إن هذه الغرائز تجد نفسيرها المرضي حين نؤمن بوجوده الله تعالى فالله تعالى هو واهبها وفي هذا المقال سنقف على تفسير الجانب الغريزي ودلالته على وجود الله للكاتب عبد الله العجيري

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري
1852
قاعدة جليلة في التوكل | مرابط
اقتباسات وقطوف

قاعدة جليلة في التوكل


قاعدة جليلة في التوكل منتقاة من كتاب الفوائد لابن قيم الجوزية يعرض فيه أنواع التوكل على الله فمن الناس من يتوكل على الله في جلب حوائجه الدنيوية ومنهم من يتوكل على الله في حصول ما يحبه الله ويرضاه كما يعرض لنا مفهوم التوكل بشكل صحيح والفرق بينه وبين التواكل وحال المؤمن المتوكل على الله

بقلم: ابن القيم
845
كم من نعمة لله في عرق ساكن | مرابط
مقالات

كم من نعمة لله في عرق ساكن


كان من دعاء أحد الأعراب: الحمد لله على نوم الليل وهدوء العروق وسكون الجوارح وكف الأذى والغنى عن الناس. ألا ما أعمق هذا الدعاء على وجازته! فنعمة هدوء العروق وسكون الجوارح من الأملاك الخفية التي لا تعرف قيمتها إلا حين فقدها ومن جميل حكم أبي الدرداء قوله: كم من نعمة لله في عرق ساكن

بقلم: طلال الحسان
97
صلاح القلوب بالشكر لله على نعمائه | مرابط
اقتباسات وقطوف

صلاح القلوب بالشكر لله على نعمائه


فإن صلاح القلوب بالشكر لله على نعمائه والصبر على بلائه وانتظار الفرج من الله إذا ألمت الملمات واللجوء إلى الله عند جميع المزعجات والمقلقات فأقل الأحوال عند هذا المؤمن أن تتقابل عنده المصائب والمحاب والأفراح والأتراح وقد تصل الحال بخواص المؤمنين إلى أن أفراحهم ومسراتهم عند المصيبات تزيد على ما يحصل فيها من الحزن والكدر الذي جبلت عليه النفوس

بقلم: عبد الرحمن بن ناصر السعدي
189
قصص وعبر للنساء ج2 | مرابط
تفريغات المرأة

قصص وعبر للنساء ج2


تفريغ لمحاضرة تأتي ضمن سلسلة من الرسائل النسائية يبدأها الدكتور نبيل العوضي بالرسالة الأولى بعنوان: قصص وعبر وكل قصة من هذه القصص تحمل عبرة فإن من النساء بل من الناس عموما من تمر عليه القصص فلا يعتبر والسعيد من اتعظ بغيره نبدأ هذه القصص لا للتسلية ولا لقضاء الأوقات ولا للطرف ولا للهزل إنما نقص هذه القصص للعبرة

بقلم: د نبيل العوضي
195