لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها

لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها | مرابط

الكاتب: محمد البشير الإبراهيمي

1536 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

هذا العنوان جملة إن لم تكن من كلام النبوة فإن عليها مسحة من النبوة، ولمحة من روحها، وومضة من إشراقها.

 

صلاح أمتنا الإسلامية

والأمة المشار إليها في هذه الجملة أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وصلاح أول هذه الأمة شيء ضربت به الأمثال، وقدمت عليه البراهين، وقام غائبه مقام العيان، وخلدته بطون التاريخ، واعترف به الموافق والمخالف، ولهج به الراضي والساخط، وسجلته الأرض والسماء. فلو نطقت به الأرض لأخبرت أنها لم تشهد منذ دحدحها الله أمة أقوم على الحق وأهدى به من أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ دحدحها مجموعة من بني آدم اتحدت سرائرها وظواهرها على الخير مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ دحدحها الله قومًا بدؤوا في إقامة قانون العدل بأنفسهم، وفي إقامة شرعة الإحسان بغيرهم مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ أنزل الله إليها آدم وعمرها بذريته مثالًا صحيحًا للإنسانية الكاملة حتى شهدته في أول هذه الأمة، ولم تشهد أمة وحدت الله فاتحدت قواها على الخير قبل هذه الطبقة الأولى من هذه الأمة.
 
هذه شهادة الأرض تؤديها صامتة فيكون صمتها أبلغ في الدلالة من نطق جميع الناطقين، ثم يشرحها الواقع، ويفسرها العيان الذي تحجبه بضعة عشر قرنًا، بل إن هذه الأمة استقامت في مراحلها الأولى على هدي القرآن، وعلى هدي من أنزل على قلبه القرآن فبينه بالأمانة، وبلغه بالأمانة، وحكم به بالأمانة، وحكمه في النفوس بالأمانة، وعلم وزكى بالأمانة، ونصبه ميزانًا بين أهواء النفوس، وفرقانًا بين الحق والباطل، وحدًّا لطغيان الغرائز، وسدًّا بين الوحدانية والشرك، فكان أول هذه الأمة يحكمونه في أنفسهم، ويقفون عند حدوده، ويزنون به حتى الخواطر والاختلاجات، ويردون إليه كل ما يختلف فيه الرأي، أو يشذ فيه التفكير، أو يزيغ فيه العقل، أو تجمح فيه الغريزة، أو يطغى فيه مطغى النفس.
 

القرآن الذي صلحت به الأمة

فالذي صلح به أول هذه الأمة حتى أصبح سلفًا صالحًا هو هذا القرآن الذي وصفه منزِّلُه بأنه إمام، وأنه موعظة، وأنه نور، وأنه بينات، وأنه برهان، وأنه بيان، وأنه هدى، وأنه فرقان، وأنه رحمة، وأنه شفاء لما في الصدور، وأنه يهدي للتي هي أقوم، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه قول فصل وما هو بالهز ل .  ووصفه من أنزل على قلبه، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لا يخلق جديده، ولا يبلى على الترداد، ولا تنقضي عجائبه، وبأن فيه نبأ من قبلنا، وحكم ما بعدنا، ثم هو بعد حجة لنا أو علينا.
 
القرآن هو الذي أصلح النفوس التي انحرفت عن صراط الفطرة، وحرر العقول من ربقة التقاليد السخيفة، وفتح أمامها ميادين التأمل والتعقل، ثم زكى النفوس بالعلم والأعمال الصالحة، وزينها بالفضائل والآداب. والقرآن هو الذي أصلح بالتوحيد ما أفسدته الوثنية، وداوى بالوحدة ما جرحته الفرقة واجترحته العصبية، وسوى بين الناس في العدل والإحسان، فلا فضل لعربي - إلا بالتقوى -  على عجمي، ولا لملك على سوقة إلا في المعروف، ولا لطبقة من الناس فضل مقرر على طبقة أخرى.
 
والقرآن هو الذي حل المشكلة الكبرى التي يتخبط فيها العالم اليوم ولا يجد لها حلًا، وهي مشكلة الغنى والفقر. فحدد الفقر كما تحدد الحقائق العلمية، وحث على العمل كما يحث على الفضائل العملية، وجعل بعد ذلك التحديد للفقير حقًّا معلومًا في مال الغني يدفعه الغني عن طيب نفس لأنه يعتقد أنه قربة إلى الله، ويأخذه الفقير بشرف لأنه عطاء الله وحكمه، فإذا استغنى عنه عافه كما يعاف المحرم، فلا تستشرف إليه نفسه، ولا تمتد إليه يده.
 
والقرآن هو الذي بلغ بهم إلى تلك الدرجة العالية من التربية، ووضع الموازين القسط للأقدار، فلزم كل واحد قدر ه، فكان كل واحد كوكبًا في مداره، وأفرغ في النفوس من الأدب الإلهي ما صير كل فرد مطمئنًا إلى مكانه من المجموع، فخورًا بوظيفته، منصرفًا إلى أدائها على أكمل وجه، واقفًا عند حدوده من غيره، عالمًا أن غيره واقف عند تلك الحدود، فلا المرأة متبرمة بمكانها من الرجل لأن الإسلام أعطاها حقها واستوقن لها من الرجل، واستوثق منه على الوفاء، ولا العبد متذمر من وضعه من السيد لأن الإسلام أنقذه من ماضيه فهو في مأمن، وحدد له يومه فهو منه في عدل ورضى، وهو بعد ذلك من غده في أمل ورجاء، ينتظر الحرية في كل لحظة وهو منها قريب، ما دام سيده يرى في عتقه قربة وطريقًا إلى الجنة وكفارة للذنب.
 
كذلك وضع القرآنة الحدود بين الحاكمين والمحكومين، وجعل القاعدة في الجميع هذه الآية: { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} وأن في نسبة الحدود إلى الله لحكمة بالغة في كبح أنانية النفوس.
 
القرآن إصلاح شامل لنقائص البشرية الموروثة، بل اجتثاث لتلك النقائص من أصولها. وبناء للحياة السعيدة التي لا يظلم فيها البشر، ولا يهضم له حق، على أساس من الحب والعدل والإحسان. والقرآن هو الدستور السماوي الذي لا نقص فيه ولا خلل: فالعقائد فيه صافية والعبادات خالصة، والأحكام عادلة، والآداب قويمة، والأخلاق مستقيمة، والروح لا يهضم لها فيه حق، ولا يضيع له مطلب.
 
هذا القرآن هو الذي صلح عليه أول هذه الأمة وهو الذي لا يصلح آخرها إلا عليه...
 
فإذا كانت الأمة شاعرة بسوء حالها، جادة في إصلاحه، فما عليها إلا أن تعود إلى كتاب ربها فتحكمه في نفسها، وتحكم به، وتسير على ضوئه، وتعمل بمبادئه وأحكامه، والله يؤيدها ويأخذ بناصرها وهو على كل شيء قدير.

 


 

المصدر:

  1. آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، 4/93، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997م.
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأمة-الإسلامية
اقرأ أيضا
إشكالية توفيق المرأة بين البيت والعمل | مرابط
مقالات المرأة

إشكالية توفيق المرأة بين البيت والعمل


يمكن للمرأة أن توفق بين عملها خارج المنزل ودورها كزوجة وأم.. ليس بالضرورة أن يحدث تعارض أو أن يجور دورها تجاه العمل عن دورها تجاه البيت الزوج المتفاهم والمحب لزوجته سيساعدها في ذلك وبهذا يضحي أحدهما ليقوم الآخر بما يحب... أنانية أي طرف ستضر بالعلاقة.

بقلم: أحمد جلال
363
لماذا لا يثق الليبراليون بالليبراليات: الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات الليبرالية

لماذا لا يثق الليبراليون بالليبراليات: الجزء الأول


يستطيع الليبرالي أن يعيش ازدواجية عنيفة بين شخصيته التي يظهر بها أمام أضواء الإعلام وفي سطور مؤلفاته أو مقالاته وشخصيته الحقيقية التي تظهر عندما تنطفئ هذه الأضواء وعندما يعم الظلام ويجف مداد القلم هنا تظهر هذه الازدواجية لترى الانحلال الأخلاقي والنظرة الشهوانية الجنسية للمرأة التي تقبع داخله بينما ينادي ليل نهار بحرية المرأة والتعامل معها على أنها إنسان له حقوق وكرامة قبل كل شيء وفي هذا المقال سترى الكثير من الشهادات بألسنة الليبراليين أنفسهم لتدرك وهم الليبرالية

بقلم: إبراهيم السكران
2035
من مقومات المجتمع المسلم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر | مرابط
تفريغات

من مقومات المجتمع المسلم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


إن هذه الشعيرة العظمى يراد طمسها وإذا طمست فلن يبق بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات الكافرة أي فرق بل تنتشر الضلالات والبدع والشركيات ويتحول المجتمع المسلم إلى مجتمع مشرك أو متسم باسم الإسلام ظاهرا فقط ولا فرق بينه وبين غيره يعلن صاحب الإلحاد بإلحاده وصاحب البدعة ببدعته ويتنصر من تنصر ويتهود من تهود ويعبد الأصنام من يعبدها فلا أحد ينكر على أحد فلو تركت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان هذا هو المآل في النهاية عياذا بالله

بقلم: سفر الحوالي
583
مختصر قصة الأندلس الجزء الأول | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة الأندلس الجزء الأول


سلسلة مقالات مختصرة تطوف بنا حول الأندلس لنعرف قصتها من البداية حتى النهاية من الفتح إلى السقوط سنعرف كل ما دار من أحداث بين لحظة الفتح والصعود ولحظة الانهيار والأفول والهدف من ذلك أن ندرك ونعي تاريخنا بشكل جيد وأن نتعلم منه حتى نبني للمستقبل

بقلم: موقع قصة الإسلام
1359
الجهل بأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان | مرابط
أباطيل وشبهات اقتباسات وقطوف

الجهل بأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان


الابتلاء في هذه الحياة مثل الكأس وكل الناس شارب منه ولا بد لكنه يتفاوت من شخص إلى آخر حسب قوة إيمانه ويقينه وحقيقة نفسه التي يخرجها الله بهذه الامتحانات وهذا من ضمن أسباب إشكالية وجود الشر التي أثارها الكثير من الفلاسفة بين يديكم مقتطف يعالج فيه الكاتب هذه المسألة

بقلم: م أحمد حسن
592
الإنجاز اليومي | مرابط
مقالات

الإنجاز اليومي


التمهيد لابن عبدالبر الفتح لابن حجر المغني لابن قدامة إلخ.. لم تكن وليدة شهر ولا سنة ولكنها خلاصة عمر ومشروع حياة نراها في نسختها الأخيرة فنتعجب من قدرة أصحابها التصنيفية - وحق لنا ذلك - لكنا لو نظرنا إلى تدرج تأليفها لعلمنا أن رأس مال الأمر في الجد والمصابرة

بقلم: مشاري الشثري
348