ما هي مرتبة الحضارة في الوحي الإلهي؟

ما هي مرتبة الحضارة في الوحي الإلهي؟ | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

713 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

بكل وضوح وصراحة، وبلا مجاملة ولا مداورة ولا التفاف .. "الحضارة" بالمعنى الشائع -والتي هي العلوم المدنية الدنيوية لخلق الرفاه البشري- هي قيمة ذات مرتبة تبعية في الوحي الإلهي, وليست الغاية ولا الأولوية الرئيسية أو القضية المركزية كما نحب أن نتظاهر بذلك, أعلم أن هذا الأمر يزعج الكثيرين, بل ويؤلمهم, لأنهم يريدون بالكثير من حسن النية كسب تعاطف النخب المثقفة تجاه الإسلام, لكن هذه هي الحقيقة.

إننا يجب أن نكسب انتماء الناس إلى الإسلام والقرآن والنبي محمد صلى الله عليه وسلم كما هم في ذاتهم, أي كما كانوا فعلًا لا كما جعلناهم نحن عبر عمليات إعادة التصنيع والتشكيل طبقًا لميول المستهلك, الإسلام في نسخته الحقيقية الصادقة لا الإسلام الذي يميل إلى سماعه المخاطبون, النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما عاش فعلًا بين حرَّات طابة لا صورة النبي المصممة للذوق الفرانكفوني.

والشواهد وأوجه الدلالة التي تبرهن أن المدنية الدنيوية ذات قيمة ثانوية باعتبارها مجرد وسيلة لنصرة الإسلام وتحقيق شرائعه تابعة لهذا الهدف, وليست غاية في حد ذاتها أو مجالًا لمنافسة الشعوب والأمم في امتلاك الدنيا, هي شواهد تفوق الحصر.

مركزية الدنيا

لقد جاء القرآن بشكل واضح بتأسيس "مركزية الآخرة" في مقابل "مركزية الدنيا", هذا الأمر واضح في القرآن بشكل يخجلنا أن نورد شواهده, ولكننا كثيرًا ما نحب أن نتجاهل ذلك, ونتعسف في قلب هرم الاهتمامات القرآني.

تدفعنا كثيرًا محاولة إرضاء الآخرين إلى عرض القرآن باعتبار أن رسالته الأساسية "العمران المادي"! والحقيقة أننا نكذب على القرآن, ونضعه في موقع لم يأت ليضع نفسه فيه.

لا.. أبدًا.. لم يأت القرآن بألوية العمارة المادية, بل جاء لعكس ذلك تمامًا, جاء ليؤسس مركزية الآخرة في مقابل مركزية الدنيا, جاء القرآن ليحول الدنيا من "غاية" إلى مجرد "وسيلة".

بل إن بيان القرآن لخطر الدنيا في إضلال الناس عن الله أكثر من بيانه لوجوب عمرانها أصلًا, فالدنيا في التصور القرآني مجرد "وسيلة" خطرة يجب التعامل معها بحذر خوفًا من أن تجرفنا عن الحياة المستقبلية اللانهائية في الدار الآخرة.

المصلحة المؤبدة والمصلحة المؤقتة

إن أبرز مبادئ العقلانية تقديم المصلحة المؤبدة على المصلحة المؤقتة, ولذلك جاء القرآن بالتأكيد على هذه الحقيقة العقلية وتعزيز مقتضاها فقدم سعادة الآخرة الباقية المؤبدة على متعة الدنيا الفانية المؤقتة.

كثير من النخب المثقفة يشعر بالتبرم حين يسمع كلام القرآن في ذم الدنيا, لأنهم يخشون أن ينصرف الناس عن هذه الوسيلة فنبقى مجتمعًا ضعيفًا, وهذا نوع من الاستدراك على الله!

ولذلك كان وسيظل ينبوع الانحراف الثقافي بكل اختصار: الانبهار بالمظاهر المادية من عمران ومدنية وحضارة دنيوية, والزهد في مضامين الوحي من العلوم الإلهية وحقائق الإيمان والغيبيات ومعاملة الله سبحانه تعالى.

نماذج من الوحي

كثيرًا ما يشير القرآن إلى أن كل ما على هذه البسيطة من موارد وإمكانيات ليس المراد بها رفاه الجنس الإنساني, وإنما المراد بها ابتلاء الناس وامتحانهم هل يؤمنون ويقبلون على الله أم يعرضون عنه؟ كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7].

وكشف تعالى عن وظيفة المعايش المدنية والتمكين السياسي فقال سبحانه: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف:10]

بل ويشير تعالى إلى عظمة هذا التمكين المدني وعمقه فيقول تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلاأَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26]

فانظر كيف عرض الله سبحانه وتعالى "المعايش المدنية" باعتبارها "نعمة" من الله لابتلاء الناس, لا أنها هي المطلب الشرعي الرئيس, ثم يؤكد تعالى على الغاية الشعائرية والحسبوية من نعمة التمكين السياسي في موضع آخر فيقول سبحانه: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} [الحج:41]

وحين يعرض الله الصورة الراقية للمؤمن يؤكد أنه ذلك الرجل الذي لا يشغله النشاط الاقتصادي عن الغاية الحقيقية العبادية, وأن الدنيا في يده لاتعظيم لها في قلبه, لأن نظره الحقيقي مربوط بلحظة لقاء الله, فيقول تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُوَالأَبْصَارُ} [النور:37]

وينبه الله تعالى في مواضع كثيرة من الوحي على أن المنزلة والمكانة الحقيقية عند الله ليست بالمظاهر المدنية المادية, ولا بالإمكانيات الاقتصادية والديموغرافية, فقال سبحانه: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37]

وما ذلك كله إلا لتفاهة الممتلكات المادية في "ميزان الله" فهل يا ترى ستكون موازيننا تابعة لميزانه سبحانه وتعالى, أم ستكون لنا موازيننا الخاصة؟!

وقد كشف الله في مواضع كثيرة تفاهة هذه المظاهر المادية من وجوه متعددة, فلاتخلوا مجموعة من آيات القرآن إلا وفيها التنبيه على حقارة الدنيا وأنها مجرد لعب, ولهو, ومتاع, وزينة, ونحوها من الألقاب, والجامع بين هذه الأوصاف كلها هو كونها "لذة مؤقتة".


المصدر:
إبراهيم السكران، مآلات الخطاب المدني

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
العربي اليوم | مرابط
اقتباسات وقطوف

العربي اليوم


العربي اليوم هو أعظم الناس حملا للتكليف لأنه يحمل وزر ما هو فيه من ضعف ينبغي أن ينفض عن نفسه آصاره ويحمل حق أجيال مقبلة توجب عليه أن يعمل ويمهد لها في هذه الأرض ويحمل أيضا أمانة آباء وأجداد وأسلاف مهدوا له هذه الدنيا التي يسكنها من أطراف الهند إلى أقصى مراكش ومن حدود تركيا إلى أقصى السودان

بقلم: محمود شاكر
554
مطالعة في كتاب إسلام السوق لباتريك هايني | مرابط
فكر مناقشات

مطالعة في كتاب إسلام السوق لباتريك هايني


في عام 2005م نشر الباحث السويسري باتريك هايني رصدا لنمط جديد من التدين -بحسب رؤية الباحث- وذكر أن البحوث الغربية الحديثة لم تسلط الضوء عليه هذا النمط الجديد من التدين ذكر الباحث أن له منظومة عناصر وهي: مركزية الفردانية وبحث المتدين الجديد عن مشروعات شخصية وتمجيد التجارة والاستثمار والبزنس والاستغراق في أدبيات الفكر الإداري الأمريكي كالتنمية البشرية وتحقيق الذات وعلم النجاح والاستمتاع بالحياة ونحوها وغلبة النزعة الاستهلاكية والرفاه والاهتمام بالماركات في الزي ونحوه ومن ذلك تفريغ الحجاب من مض

بقلم: إبراهيم السكران
2026
عن ركعات قيام الليل | مرابط
مقالات

عن ركعات قيام الليل


قيام رمضان لم يؤقت النبي فيه عددا معينا بل كان هو لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة لكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد على الركعات

بقلم: حسين عبد الرازق
423
حديث الدولتين | مرابط
تاريخ فكر مقالات

حديث الدولتين


مقال هام لشيخ العربية محمود شاكر أبو فهر يتحدث عن القضية الفلسطينية وحل الدولتين ودور أمريكا وبريطانيا في ترسيخ أقدام اليهود في أرض فلسطين المباركة يكشف لنا الكثير من المؤامرات والأحداث التاريخية لنعرف كيف وصلنا إلى وضعنا الحالي

بقلم: محمود شاكر
2167
أنواع النظر | مرابط
اقتباسات وقطوف

أنواع النظر


مقتطف لشيخ الإسلام ابن تيمية من كتاب الرد على المنطقيين يناقش فيه نوعين من أنواع النظر العقلي وهما النظر الطلبي والنظر الاستدلالي ويوضح الفرق بينهما ثم يقارن بين هذين النوعين وبين نوعي النظر للعين وهما التحديق لطلب الرؤية والثاني هو نفس الرؤية

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2531
من الغافل؟ | مرابط
تفريغات

من الغافل؟


وكل يوم تطلع فيه الشمس عليك صدقة -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- وكل يوم محسوب عليك وأقرب مثال نراه نحن -الآن- في حياتنا هو هذا التقويم الذي يعلق في البيوت وفي المساجد إذا أخذت كل يوم منه ورقة تفاجأ وإذا به قد انتهى وهكذا العمر كل يوم تأخذ منه ورقة وإذا بالعمر فجأة ينتهي فهذا فيه عبرة لمن اعتبر.

بقلم: سفر الحوالي
391