ما هي مرتبة الحضارة في الوحي الإلهي؟

ما هي مرتبة الحضارة في الوحي الإلهي؟ | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

182 مشاهدة

تم النشر منذ 6 أشهر

بكل وضوح وصراحة، وبلا مجاملة ولا مداورة ولا التفاف .. "الحضارة" بالمعنى الشائع -والتي هي العلوم المدنية الدنيوية لخلق الرفاه البشري- هي قيمة ذات مرتبة تبعية في الوحي الإلهي, وليست الغاية ولا الأولوية الرئيسية أو القضية المركزية كما نحب أن نتظاهر بذلك, أعلم أن هذا الأمر يزعج الكثيرين, بل ويؤلمهم, لأنهم يريدون بالكثير من حسن النية كسب تعاطف النخب المثقفة تجاه الإسلام, لكن هذه هي الحقيقة.

إننا يجب أن نكسب انتماء الناس إلى الإسلام والقرآن والنبي محمد صلى الله عليه وسلم كما هم في ذاتهم, أي كما كانوا فعلًا لا كما جعلناهم نحن عبر عمليات إعادة التصنيع والتشكيل طبقًا لميول المستهلك, الإسلام في نسخته الحقيقية الصادقة لا الإسلام الذي يميل إلى سماعه المخاطبون, النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما عاش فعلًا بين حرَّات طابة لا صورة النبي المصممة للذوق الفرانكفوني.

والشواهد وأوجه الدلالة التي تبرهن أن المدنية الدنيوية ذات قيمة ثانوية باعتبارها مجرد وسيلة لنصرة الإسلام وتحقيق شرائعه تابعة لهذا الهدف, وليست غاية في حد ذاتها أو مجالًا لمنافسة الشعوب والأمم في امتلاك الدنيا, هي شواهد تفوق الحصر.

مركزية الدنيا

لقد جاء القرآن بشكل واضح بتأسيس "مركزية الآخرة" في مقابل "مركزية الدنيا", هذا الأمر واضح في القرآن بشكل يخجلنا أن نورد شواهده, ولكننا كثيرًا ما نحب أن نتجاهل ذلك, ونتعسف في قلب هرم الاهتمامات القرآني.

تدفعنا كثيرًا محاولة إرضاء الآخرين إلى عرض القرآن باعتبار أن رسالته الأساسية "العمران المادي"! والحقيقة أننا نكذب على القرآن, ونضعه في موقع لم يأت ليضع نفسه فيه.

لا.. أبدًا.. لم يأت القرآن بألوية العمارة المادية, بل جاء لعكس ذلك تمامًا, جاء ليؤسس مركزية الآخرة في مقابل مركزية الدنيا, جاء القرآن ليحول الدنيا من "غاية" إلى مجرد "وسيلة".

بل إن بيان القرآن لخطر الدنيا في إضلال الناس عن الله أكثر من بيانه لوجوب عمرانها أصلًا, فالدنيا في التصور القرآني مجرد "وسيلة" خطرة يجب التعامل معها بحذر خوفًا من أن تجرفنا عن الحياة المستقبلية اللانهائية في الدار الآخرة.

المصلحة المؤبدة والمصلحة المؤقتة

إن أبرز مبادئ العقلانية تقديم المصلحة المؤبدة على المصلحة المؤقتة, ولذلك جاء القرآن بالتأكيد على هذه الحقيقة العقلية وتعزيز مقتضاها فقدم سعادة الآخرة الباقية المؤبدة على متعة الدنيا الفانية المؤقتة.

كثير من النخب المثقفة يشعر بالتبرم حين يسمع كلام القرآن في ذم الدنيا, لأنهم يخشون أن ينصرف الناس عن هذه الوسيلة فنبقى مجتمعًا ضعيفًا, وهذا نوع من الاستدراك على الله!

ولذلك كان وسيظل ينبوع الانحراف الثقافي بكل اختصار: الانبهار بالمظاهر المادية من عمران ومدنية وحضارة دنيوية, والزهد في مضامين الوحي من العلوم الإلهية وحقائق الإيمان والغيبيات ومعاملة الله سبحانه تعالى.

نماذج من الوحي

كثيرًا ما يشير القرآن إلى أن كل ما على هذه البسيطة من موارد وإمكانيات ليس المراد بها رفاه الجنس الإنساني, وإنما المراد بها ابتلاء الناس وامتحانهم هل يؤمنون ويقبلون على الله أم يعرضون عنه؟ كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7].

وكشف تعالى عن وظيفة المعايش المدنية والتمكين السياسي فقال سبحانه: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف:10]

بل ويشير تعالى إلى عظمة هذا التمكين المدني وعمقه فيقول تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلاأَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26]

فانظر كيف عرض الله سبحانه وتعالى "المعايش المدنية" باعتبارها "نعمة" من الله لابتلاء الناس, لا أنها هي المطلب الشرعي الرئيس, ثم يؤكد تعالى على الغاية الشعائرية والحسبوية من نعمة التمكين السياسي في موضع آخر فيقول سبحانه: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} [الحج:41]

وحين يعرض الله الصورة الراقية للمؤمن يؤكد أنه ذلك الرجل الذي لا يشغله النشاط الاقتصادي عن الغاية الحقيقية العبادية, وأن الدنيا في يده لاتعظيم لها في قلبه, لأن نظره الحقيقي مربوط بلحظة لقاء الله, فيقول تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُوَالأَبْصَارُ} [النور:37]

وينبه الله تعالى في مواضع كثيرة من الوحي على أن المنزلة والمكانة الحقيقية عند الله ليست بالمظاهر المدنية المادية, ولا بالإمكانيات الاقتصادية والديموغرافية, فقال سبحانه: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37]

وما ذلك كله إلا لتفاهة الممتلكات المادية في "ميزان الله" فهل يا ترى ستكون موازيننا تابعة لميزانه سبحانه وتعالى, أم ستكون لنا موازيننا الخاصة؟!

وقد كشف الله في مواضع كثيرة تفاهة هذه المظاهر المادية من وجوه متعددة, فلاتخلوا مجموعة من آيات القرآن إلا وفيها التنبيه على حقارة الدنيا وأنها مجرد لعب, ولهو, ومتاع, وزينة, ونحوها من الألقاب, والجامع بين هذه الأوصاف كلها هو كونها "لذة مؤقتة".


المصدر:
إبراهيم السكران، مآلات الخطاب المدني

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
المدارس العالمية وتعلم اللغات | مرابط
فكر لسانيات

المدارس العالمية وتعلم اللغات


لي تجربة مع ولدي كان العمل يعطيني بدلا للتعليم يدخله أغلى مدرسة دولية لكنني فضلت لغة دينه وأمته ثم لما اطمأننت عليها دفعته قبل الجامعة بعام أو عامين لتعلم الإنجليزية فأتقنها وها هو الآن يدرس بها فلا هو ضيع لغته ودينه ولا هو تأخر عن غيره من أهل اللغة التي يدرسونها منذ نعومة أظفارهم على حساب لغة قرآنهم وأمتهم.

بقلم: د.خالد حمدي
179
الإلحاح في الدعاء | مرابط
اقتباسات وقطوف

الإلحاح في الدعاء


والله يحب الملحين في الدعاء ولهذا تجد كثيرا من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم فيها من بسط الألفاظ وذكر كل معنى بصريح لفظه دون الاكتفاء بدلالة اللفظ الآخر عليه ما يشهد لذلك كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه اللهم أغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت

بقلم: ابن القيم
56
خصائص أدلة القرآن | مرابط
اقتباسات وقطوف

خصائص أدلة القرآن


كلام هام لابن القيم رحمه الله يشير فيه إلى خصائص أدلة القرآن الكريم مثل السهولة واليسر والمباشرة والقرب من فطرة الإنسان وعقله واعتماد أيسر الطرق وأقصرها وأقلها تكلفا وأكثرها نفعا ويمكننا أن نقارن بين هذه الصفات وبين الطرق المعوجة التي سلكها أهل الكلام في الاستدلال

بقلم: ابن قيم الجوزية
1707
قواعد جليلة لأهل السنة والجماعة في بيان حقيقة التوحيد ج2 | مرابط
تعزيز اليقين

قواعد جليلة لأهل السنة والجماعة في بيان حقيقة التوحيد ج2


مجموعة من القواعد التأصيلية يذكرها ابن القيم في كتاب الصلاة ويقف بها على عقيدة أهل السنة والجماعة وحقيقة التوحيد والشرك والإيمان والكفر وهذه القواعد التي ذكرها تمثل كليات العقيدة وبها تنضبط المسائل أصولها وفروعها وبها يعلم القارئ أحوال الناس ومراتبهم

بقلم: ابن القيم
941
دين المؤتفكات: النسوية الجزء الأول | مرابط
فكر النسوية الجندرية

دين المؤتفكات: النسوية الجزء الأول


إن الموجة الجندرية المتصاعدة في هذه الأيام والتي تدعو إلى عدم اعتبار الهوية الجنسية البيولوجية الذكر والأنثى وإنما تدعو إلى هوية جندرية جديدة مصنوعة قد يرى فيها الرجل أنه امرأة والعكس قد تشعر فيها المرأة أنها تريد أن تصبح رجلا وتؤدي دوره الاجتماعي كاملا أي أن الجنس لا دلالة له ومن حق الرجل والمرأة اختيار الدور الاجتماعي المفضل وفقا للهوية الجندرية وهذه الموجة التي تدعو إلى تقنين الشذوذ واللوطية وإطلاق الحريات الجنسية لم تصعد إلا على أكتاف الحركة النسوية ومبادئها وأفكارها التي آلت إلى الفلسف...

بقلم: عمرو عبد العزيز
2339
الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج1 | مرابط
تاريخ تعزيز اليقين

الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج1


إن التأمل والتدبر في تفاصيل الهجرة النبوية المباركة يجعلنا نتيقن وبما لا يدع مجالا للشك أن الهجرة النبوية كانت حدثا حاسما في الدعوة المحمدية أرست الأسس والنواة الصلبة لدولة الإسلامية الناشئة كما حملت لنا عبرا ودروسا وافرة نستفيد منها ونستجلي منها قيما وأخلاقا حميدة وبين يديكم مجموعة من الفوائد والدروس والمآثر من وحي السيرة

بقلم: علي الصلابي
503