محاورة دينية اجتماعية الجزء الأول

محاورة دينية اجتماعية الجزء الأول | مرابط

الكاتب: عبد الرحمن بن ناصر السعدي

1854 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 هذه صورة محاورة بين رجلين كانا متصاحبين رفيقين مسلمين يدينان الدين الحق، ويشتغلان في طلب العلم جميعًا، فغاب أحدهما عن صاحبه مدة طويلة، ثم التقيا، فإذا هذا الغائب قد تغيَّرت أحواله، وتبدَّلت أخلاقه، فسأله صاحبه عن ذلك، فإذا هو قد تغلبت عليه دعاية الملحدين الذين يدعون لنبذ الدين، ورفض ما جاء به المرسلون، فحاوره صاحبه وقلبه، لعله يرجع عن هذا الانقلاب الغريب، فأعيته الحيلة في ذلك، وعرف أن ذلك علة عظيمة، ومرض يفتقر إلى استئصال الداء، ومعالجته بأنفع الدواء، وعرف أن ذلك متوقف على معرفة الأسباب التي حوَّلته، والطرق التي أوصلته إلى هذه الحالة المخيفة، وإلى فحصها وتمحيصها وتخليصها وتوضيحها ومقابلتها بما يضادها ويقمعها، على وجه الحكمة والسداد.
 

محاولة استكشاف الداء

فقال لصاحبه مستكشفًا له عن الحامل له على ذلك: يا أخي ما هذه الأسباب التي حملتك على ما أرى؟ وما الذي دعاك إلى نبذ ما كنت عليه؟ فإن كان خيرا كنت أنا وأنت شريكين، وإن كان غير ذلك فأعرف من عقلك ودينك وأدبك أنني وأنك لا نرضى أن تقيم على ما يضرُّك.
 
فأجابه صاحبه قائلًا: لا أكتمك أني قد رأيت المسلمين على حالة لا يرضاها ذوو الهمم العلية؛ رأيتهم في جهل وذلٍّ وخمول، وأمورهم مُدْبرة، وأحوالهم سيئة، وأخلاقهم منحلة، وقد فقدوا روح الدين والدنيا جميعًا، ورأيت في الجانب الآخر هؤلاء الأجانب قد ترقَّوْا في هذه الحياة، وتفننوا في الفنون الراقية والمخترعات العجيبة المدهشة
والصناعات المتفوقة، فرأيتهم قد دانت لهم الأمم، وخضعت لهم الرقاب، وصاروا يتحكمون في الأمم الضعيفة بما شاؤوا، ويعدونهم كالعبيد والأجراء، فرأيت فيهم العزَّ الذي بهرني، والتفنن الذي أدهشني، فقلت في نفسي: لولا أن هؤلاء القوم هم القوم، وأنهم على الحق، والمسلمون على الباطل لما كانوا على هذا الوصف الذي ذكرت لك، فرأيت أن سلوكي سبيلهم واقتدائي بهم خير لي وأحسن عاقبة، فهذا الذي صيَّرني إلى ما رأيت.
 

تأخر المسلمين

فقال له صاحبه حين أبدى ما كان خافيًا: إذا كان هذا هو السبب الذي حولك إلى ما أرى، فهذا ليس من الأسباب التي يبنى عليها أولو الألباب والعقول عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم ومستقبل أمرهم، فاسمع يا صديقي تمحيص هذا الأمر الذي غرك وحقيقته:
إن تأخر المسلمين فيما ذكرت ليس ناشئًا عن دينهم، فإنه قد علم كل من له أدنى نظر وبصيرة أن دين الإسلام يدعو إلى الصلاح والإصلاح في أمور الدين وفي أمور الدنيا، ويحث على الاستعداد؛ من تعلم العلوم والفنون النافعة، ويدعو إلى تقوية القوة المعنوية والمادية لمقاومة الأعداء، والسلامة من شرهم وأضرارهم ، ولم يستفد أحد منفعة دنيوية – فضلًا عن المنافع الدينية – إلا من هذا الدين، وهذه تعاليمه وإرشاداته قائمة لدينا تنادي أهلها: هلمَّ إلى الاشتغال بجميع الأسباب النافعة التي تعليكم وترقيكم في دينكم ودنياكم.
 
أفبتفريط المسلمين تحتجُّ على الدين؟! إن هذا لهو الظلم المبين!
أليس من قصور النظر، ومن الهوى والتعصب، النظر في أحوال المسلمين في هذه الأوقات التي تدهورت فيها علومهم وأعمالهم وأخلاقهم، وفقدوا فيها جميع مقومات دينهم، وترك النظر إليهم في زهرة الإسلام والدين في الصدر الأول، حيث كانوا قائمين بالدين، مستقيمين على الدين، سالكين كل طريق يدعو إليه الدين، فارتقت أخلاقهم وأعمالهم حتى بلغت مبلغًا ما وصل إليه ولن يصل إليه أحد من الأولين والآخرين، ودانت لهم الدنيا من مشارقها إلى مغاربها، وخضعت لهم أقوى الأمم، وذلك بالدين الحق والعدل والحكمة والرحمة، وبالأوصاف الجميلة التي كانوا عليها؟!

أليس ضعف المسلمين في هذه الأوقات يوجب لأهل البصائر والنجدة منهم أن يكون جدهم ونشاطهم وجهادهم الأكبر متضاعفًا، ويقوموا بكل ما في وسعهم؛ لينالوا المقامات الشامخة، ولينجوا من الهوة العميقة التي وقعوا فيها؟!
أليس هذا من أفرض الفرائض وألزم اللازمات في هذا الحال؟
فالجهاد في حال قوة المسلمين, وكثرة المشاركين فيه، له فضل عظيم يفوق سائر العبادات، فكيف إذا كانوا على هذه الحالة التي وصفت؟ فإن الجهاد لا يمكن التعبير عن فضائله وثمراته، ففي هذه الحال يكون الجهاد على قسمين:

أحدهما: السعي في تقويم المسلمين، وإيقاظ هممهم، وبعث عزائمهم، وتعليمهم العلوم النافعة، وتهذيبهم بالأخلاق الراقية، وهذا أشق الأمرين، وهو أنفعهما وأفضلهما.
والثاني: السعي في مقاومة الأعداء، وإعداد جميع العدد القولية والفعلية والسياسية؛ الداخلية والخارجية؛ لمناوءتهم، والسلامة من شرهم!

أفحين صار الأمر على هذا الوصف الذي ذكرت، وصار الموقف حرجًا، تتخلَّى عن إخوانك المسلمين، وتتخلف مع الجبناء والمخالفين؟ فكيف مع ذلك تنضمُّ إلى حزب المحاربين!.. الله الله يا أخي لا تكن أقل ممن قيل فيهم: {تَعَالَوْاْ  قَاتِلُواْ  فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ} [آل عمران: 167]. قاتلوا لأجل دينكم، أو ادفعوا لأجل قومكم ووطنكم، لا تكن مثل هؤلاء المنافقين، فأعيذك يا أخي من هذه الحال التي لا يرضاها أهل الديانات، ولا أهل النجدات والمروءات، فهل ترضى أن تشارك قومك في حال عزِّهم وقوة عددهم وعنصرهم، وتفارقهم في حال ذلِّهم ومصائبهم، وتخذلهم في وقت اشتدت فيه الضرورة إلى نصرة الأولياء، وردِّ عدوان الأعداء؟ فهل رأيت قومًا خيرًا من قومك، أو شاهدت دينًا أفضل من دينك؟
 

بين حضارة الإسلام والمادية الغربية

فقال المنصوح: الأمر هو ما ذكرت لك، ونفسي تتوق إلى أولئك الأقوام الذين أتقنوا الفنون والصناعات، وترقوا في هذه الحياة.
فقال له صاحبه وهو يحاوره: رفضت دينًا قيمًا كامل القواعد، ثابت الأركان، مشرق البرهان، يدعو إلى كل خير، ويحث على السعادة والفلاح، ويقول لأهله: هلمَّ إلى كلِّ صلاح وإصلاح، وإلى كلِّ خير ونجاح، واسلكوا كلَّ طريق يوصلكم إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
 
دين مبني على الحضارة الراقية الصحيحة التي بنيت على العدل والتوحيد، وأُسِّست على الرحمة والحكمة والعلم والشفقة وأداء الحقوق الواجبة والمستحبة، وسلمت من الظلم والجشع والأخلاق السافلة، وشملت بظلِّها الظليل وإحسانها الطويل وخيرها الشامل وبهائها الكامل ما بين المشارق والمغارب، وأقرَّ بذلك الموافق والمنصف المخالف، أتتركها راغبًا في حضارات ومدنيات مبنية على الكفر والإلحاد، مؤسسة على الطمع والجشع والقسوة وظلم العباد، فاقدة لروح الإيمان ورحمته، عادمة لنور العلم وحكمته؟
 
حضارة ظاهرها مزخرف مزوَّق، وباطنها خراب، وتظنها تعمر الموجود، وهي في الحقيقة مآلها الهلاك والتدمير، ألم تر آثارها في هذه الأوقات، وما احتوت عليه من الآفات والويلات، وما جلبته للخلائق من الهلاك والفناء والتدمير؟
فهل سمع الخلق منذ أوجدهم الله لهذه المجازر البشرية التي انتهى إليها شوط هذه الحضارة نظيرًا أو مثيلًا؟
فهل أغنت عنهم مدنيتهم وحضارتهم من عذاب الله لما جاء أمر ربك، وما زادتهم غير تتبيب؟
فلا يخدعنك ما ترى من المناظر المزخرفة، والأقوال المموهة، والدعاوى الطويلة العريضة؛ وانظر إلى بواطن الأمور وحقائقها، ولا تغرنك ظواهرها، وتأمل النتائج الوخيمة، والثمرات الذميمة، فهل أسعدتهم هذه الحضارة في دنياهم التي لا حياة لهم يرجون غيرها؟ أما تراهم يتنقلون من شرٍّ إلى شرور؟! ولا يسكنون في وقت إلا وهم يتحفزون إلى شرور فظيعة ومجازر عظيمة؟
 
فالقوة والمدنية والحضارة والمادة بأنواعها إذا خلت من الدين الحقِّ فهذه طبيعتها، وهذه ثمراتها وويلاتها، ليس لها أصول وقواعد نافعة، ولا لها غايات صالحة.
ثم هب أنهم متعوا في حياتهم واستدرجوا فيها بالعز والرئاسة ومظاهر القوة والحياة، فهل إذا انحزت إليهم وواليتهم يشركونك في حياتهم، ويجعلونك كأبناء قومهم؟ كلا والله، إنهم إذا رضوا عنك جعلوك من أرذل خدامهم، وآية ذلك أنك في ليلك ونهارك تكدح في خدمتهم، وتتكلم وتجادل وتخاصم على حسابهم، ولم ترهم رفعوك حتى ساووا معك أدنى قومهم وبني جنسهم!! فالله الله يا أخي في دينك وفي مروءتك وأخلاقك وأدبك!! والله الله في بقية رمقك!! فالانضمام إلى هؤلاء والله، هو الهلاك.
 

على هذا المذهب أصحاب مثقفون

فقال له المنصوح: لقد صدقت فيما قلت، ولكن لي على هذا المذهب أصحاب مثقفون.. ولي على هذا الرأي شبيبة مهذبون، قد تعاقدت معهم على التمسك بالإلحاد، واحتقار المستمسكين بدين رب العباد، قد أخذنا نصيبًا وافرًا من اللذات، واستبحنا ما تدعو إليه النفوس من أصناف الشهوات، فأنَّى لي بمقاطعة هؤلاء السادة الغرر؟ وكيف لي بمباينتهم وقد اتصلت بهم غاية الاتصال؟!
فالآن يتنازعني داعيان: داعي الحق بعد ما بان سبيله واتضح دليله، وداعي النفس والاتصال بهؤلاء الأصحاب المنافي للحق غاية المنافاة، فكيف الطريق الذي يريحني ويشفيني، وما الذي عن هذا الأمر يسليني؟
 
فقال له صاحبه الناصح: ألم تعلم أن من أوجب الواجبات وأكبر فضائل الرجل اللبيب أن يتبع الحق الذي تبين له، ويدع ما هو فيه من الباطل، وخصوصًا عند المنازعات النفسية، والأغراض الدنيوية؛ وأن الموفَّق إذا وقع في المهالك طلب الوسيلة إلى تحصيل الأسباب المنجية؟
أما علمت أن من نعمة الله على العبد أن يقيض له الناصحين الذين يرشدونه إلى الخير، ويأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر، ويسعون في سعادته وفلاحه؟ ثم من تمام هذه النعمة أن يُوفَّق لطاعتهم، ولا يتشبه بمن قال الله فيهم: {وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79] .
 
ثم اعلم أنه ربما كان الإنسان إذا ذاق مذهب المنحرفين، وشاهد ما فيه من الغي والضلال، ثم تراجع إلى الحق الذي هو حبيب القلوب، كان أعظم لوقعه وأكبر لنفعه! فارجع إلى الحق صادقًا، وثق بوعد الله {إِنَّ  اللّهَ  لاَ يُخْلِفُ  الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9].

 


 

المصدر:

  1. مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة (1343هـ - 1383هـ)، جمع وترتيب: أحمد الجماز و عبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء – الرياض، ط1: 1431هـ. (1/251)
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مناظرات #الإلحاد
اقرأ أيضا
النفس جبل عظيم شاق | مرابط
اقتباسات وقطوف

النفس جبل عظيم شاق


النفس جبل عظيم شاق في طريق السير إلى الله عز وجل وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل فلابد أن ينتهي إليه ولكن منهم من هو شاق عليه ومنهم من هو سهل عليه وإنه ليسير على من يسره الله عليه.

بقلم: ابن القيم
630
يا شباب العرب | مرابط
مقالات

يا شباب العرب


ويقولون: إن الأمر العظيم عند شباب العرب ألا يحملوا أبدا تبعة أمر عظيم ويزعمون أن هذا الشباب قد تمت الألفة بينه وبين أغلاطه فحياته حياة هذه الأغلاط فيه وأنه أبرع مقلد للغرب في الرذائل خاصة وبهذا جعله الغرب كالحيوان محصورا في طعامه وشرابه ولذاته ويزعمون أن الزجاجة من الخمر تعمل في هذا الشرق المسكين عمل جندي أجنبي فاتح ويتواصون بأن أول السياسة في استعباد أمم الشرق أن يترك لهم الاستقلال التام في حرية الرذيلة

بقلم: مصطفى صادق الرافعي
1194
لماذا يكرهون ابن تيمية؟ | مرابط
فكر

لماذا يكرهون ابن تيمية؟


من أجل هذا ونحوه يصدكم أهل الأهواء ودعاة الشرك بالله عن القراءة لابن تيمية لأنه لا يسلم بالمحدثات وهم المحدثون المبتدعون ولأنه يسأل كل قائل عن إسناده إلى الله أو رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت عبادة ودينا مما يسع فيها الاختلاف.. فكيف إن كان الأمر جنة ونارا وشركا وإيمانا مما لا يجوز فيه اختلاف ولا نزاع؟

بقلم: خالد بهاء الدين
641
عين الخصم! | مرابط
مقالات

عين الخصم!


عندما تحاور من يستشكل أو يشكك في أحكام الإسلام فلا يفوتنك شيء مهم وهو أن لدى بعض من تحاورهم خللا منهجيا يجب أن تسلط الضوء عليه لتظهر قوة موقفك فمثلا قد يسألونك عن سبب التحريم للحم الخنزير وفي خلفية سؤالهم أنهم يطلبون مصدرا معينا من المعارف وهو المصدر الحسي والتجريبي والواقع أن اختزال المعرفة في الحس والتجريب خلل منهجي سائد في الغرب

بقلم: د. طارق عنقاوي
416
الحلال والحرام في الرسم | مرابط
مقالات

الحلال والحرام في الرسم


مقال موجز فيه تفصيل وتوضيح للحلال والحرام فيما يخص الرسم والنحت وما يندرج تحت ذلك مثل التصاوير والدمى وغير ذلك.. فقد كثر اللغط في هذا الموضوع ولم يعد الناس يتحرون فيه ما يحل وما يحرم وبين يديكم هذا التفصيل للشيخ قاسم اكحيلات

بقلم: قاسم اكحيلات
414
الثقافة المستعارة: الأفلام والمسلسلات | مرابط
فكر اقتباسات وقطوف ثقافة

الثقافة المستعارة: الأفلام والمسلسلات


إن عالم الأفلام والمسلسلات ينتمي إلى فضاء غير الذي ننتمي إليه إنه ينتمي إلى فضاء التجارة والشهرة والإثارة والصنعة الإعلامية وهو فضاء لا يتقابل مع الواقع الحقيقي إلا في بعض صوره ومع الأسف الشديد فإن ما لا يقل عن جيلين أو ثلاثة أجيال من المسلمين قد تأثر كثير من أبنائها بثقافة المسلسلات وخاصة النساء

بقلم: أحمد يوسف السيد
569