من حياة عمر بن عبد العزيز ج1

من حياة عمر بن عبد العزيز ج1 | مرابط

الكاتب: خالد الراشد

538 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

مقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" [آل عمران:102].

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" [النساء:1].

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" [الأحزاب:71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله! يقول المولى سبحانه وتعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران:110]. أمتكم أمة مجيدة كريمة عظيمة، اختارها الله لتكون واسطة العقد في هذا التاريخ، فهي الشاهد على الناس والرسول عليها شهيد يوم القيامة، إنها أمة تمرض ولكنها لا تموت، وقد تغفو أحيانًا ولكنها لا تنام، وتغلب أحيانًا لكنها لا تقهر بإذن الله. أخرج الله منها منائر للتوحيد وهداة للبشر ومشاعل للحضارة الحقة.

فمع علم من أعلام هذه الأمة نقف وقفة عظة وتذكر وتدبر، علم يجب على الأمة أن تجعله قدوة من القدوات يوم كادت تغيب القدوات، حتى يكون حديث شيوخها في المنتديات وقصصًا لأطفالها الذين شغلوا بالقصص الهابطة والرسوم المتحركة، وحديثًا لشبابها الذين طالما شغلوا بالحديث عن اللاعبين والفنانات، وملئوا أسماعهم وأبصارهم بالأفلام والمسلسلات، إنه من جعل كبير المسلمين له أبًا، وأوسطهم له أخًا، وأصغرهم له ابنًا، فوقر أباه وأكرم أخاه وعطف على ولده، إنه القيم والأخلاق والمثل، وما أجمل وأروع أن نرى المثل والأخلاق رجالًا وواقعًا ملموسًا!

إنه من العادلين إذا ذكر العدل، ومن الخائفين من الله إذا ذكر الخائفون، إنه من حيزت له الدنيا بأكملها، فتولى عنها يريد ما عند الله، فلم يصلح بينه وبين الله أحد من خلقه، فخاف الله وما تكبر وما تجبر وما ظلم، خشي الله فعدل، خشي الله فأمن، خشي الله فرضي.

أظنكم قد عرفتموه، إنه عمر بن عبد العزيز، وما أدراكم ما عمر ؟

إنها الهمم تتكلم وتتحدث، كان يقول لزوجه فاطمة: يا فاطمة ! إن لي نفسًا تواقة اشتاقت إلى الإمارة، فتولى الإمارة، فارتفعت الهمم، فقال لها: يا فاطمة ! إن لي نفسًا تواقة اشتاقت إلى الخلافة، فتولى الخلافة، فارتفعت الهمم: فقال لها: يا فاطمة: إن لي نفسًا تواقة تشتاق إلى الجنة، إنه رجل لا كالرجال، وسيرته لا كالسير، وعذرًا أن نفيه حقه في هذه العجالة، لكن حسبكم وحسبي أن نقف عند بعض المواقف، نقف ونتذكر ونعتبر، ونقرأ التاريخ.

اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر

"لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ" [يوسف:111] فهيا بنا نبحر في بحر عمر، ومن لآلئه نقتبس ونتذكر، ومن درره ننهل، وعند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة بإذن رب العالمين.

تولى الخلافة رضي الله عنه فكان مجددًا بحق، كانت خلافته ثلاثين شهرًا، لكنها خير من ثلاثين قرنًا، لم يضيعها في كسب دنيوي، ولا شهوة عاجلة، لكنه جعلها وقفًا لله رب العالمين، فبارك الله في سنتين ونيف، بويع بالخلافة، وقام ليلقي أول خطاب له على المنبر: فتعثر في طريقه إلى المنبر من ثقل المسئولية، ومن خوف رب البرية، فوقف يتحدث إلى الناس قائلًا: لقد بويعت بالخلافة على غير رغبة مني، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم رجلًا، فصاح الناس صيحة واحدة ممزوجة بالبكاء: قد اخترناك يا عمر ورضينا بك، فبكى وقال: الله المستعان! ثم أوصاهم من على المنبر قائلًا: أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، ثم رفع صوته: أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، ونزل من على المنبر باكيًا.

بعد ذلك عرضت عليه الخيل والدواب ليركبها لتكون موكبه إلى قصر الخلافة كما كان يفعل أسلافه، فأعرض قائلًا: ما أنا إلا رجل من المسلمين أغدو كما يغدون، وأروح كما يروحون.

عاد إلى بيته معلنًا أنه من تواضع لله رفعه، ترك قصر الخلافة ودخل غرفته المتواضعة، وجلس حزينًا يئن تحت وطأة المسئولية، ثم استدعى زوجه فاطمة مبتدئًا بالأقربين، استدعى فاطمة العابدة الزاهدة بنت الخليفة وأخت الخلفاء، قال لها: إني بعت نفسي من الله، فإن كنت تريدين العيش معي فحيهلا، وإلا فالحقي بأهلك، وهذه الحلي التي تلبسينها تعلمين من أين أتى لك بها أبوك، رديها إلى بيت المال، والله! لا أجتمع مع هذه الحلي في دار واحدة، قالت الزاهدة الراغبة فيما عند الله: بل أردها، والحياة حياتك يا عمر، وللآخرة خير وأبقى للذين آمنوا واتقوا.

خرج إلى الأمة ليردها إلى الله الواحد القهار فكان فعله يصدق قوله، كان لا يشغله عن الله شاغل، ليله قيام وبكاء وخشوع وتضرع، ونهاره عدل وإنصاف ودعوة وبذل وعطاء، فما ليلنا ونهارنا يا عباد الله؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.

اللهم ردنا إليك ردًا جميلًا يا قيوم السماوات والأرضين.


عدل عمر بن عبد العزيز

ملأ الأرض عدلًا بعد أن كادت تملأ جورًا، إيه يا عمر! قد عشت عمرك زاهدًا في كل ما جمع البشر أتعبت من سيجيء بعدك في الخلافة يا عمر! بعد كل صلاة ينادي مناديه: أين الفقراء؟ أين المحتاجون؟ فيقدم لهم الطعام والأموال، فلا والله ما تنساه البطون الجائعة ولا الأكباد الظمأى ما دام في الأرض بطن جائعة أو كبد ظمأى.

هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله

ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله

رزقه الله الخشية، ومن رزق الخشية فقد رزق خيرًا كثيرًا، والذي يجعل الله نصب عينيه يفتح الله عليه: "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ" [البقرة:282]. فتح الله على عمر فتحًا لا يخطر على البال ولا يدور بالخيال، فكان أخوف الناس لله، وهو يرجو الأمان من الله: "يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" [الشعراء:88-89]، وفي الحديث القدسي يقول الحق تبارك وتعالى: (وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، إن أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة).

دخل عليه أحد العباد وهو محمد بن كعب القرظي، فجعل ينظر في وجهه، فإذا هو وجه شاحب، وبدن نحيل، كأن جبال الدنيا قد سقطت عليه، فقال: يا عمر ! ماذا دهاك؟ يا عمر ! ما الذي أصابك؟ والله! لقد رأيتك وأنت أجمل فتيان قريش تلبس اللين، وتجلس على الوثير، لقد كنت لين العيش، نضر البشرة، والله لو دخلت عليك يا عمر في غير هذا المكان ما عرفتك، فتنهد عمر باكيًا، قال: أما إنك لو رأيتني بعد ثلاث ليالٍ من دفني وقد سقطت العينان، وانخسفت الوجنتان، وعاثت في الجوف الديدان، وتغير الخدان، لكنت لحالي من حالي أشد إنكارًا وأشد عجبًا!

فبكى محمد وبكى عمر وبكى الناس حتى ضج المجلس بالبكاء.

جعل الهم همًا واحدًا، فرضي الله عنه ورحمه، إنه هم الآخرة وكفى، عرف عمر نفسه، وعرف همه وغايته، فرحم الله امرأً عرف قدر نفسه، لقد كسدت عنده بضاعات المنافقين والشعراء والدجالين، وقام عنده سوق المساكين والفقراء، يدخل عليه أحد الشعراء فيمدحه، فلم يجد سماعًا لما يقول، ولم يعطه عمر شيئًا من أموال المسلمين، فخرج وهو يقول: رجل يعطي الفقراء ويمنع الشعراء.

وجدت رقى الشيطان لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن راقيا

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#عمر-بن-عبد-العزيز
اقرأ أيضا
الصفات المعينة على الفتوى أو الحكم | مرابط
اقتباسات وقطوف

الصفات المعينة على الفتوى أو الحكم


مقتطف من كتاب إعلام الموقعين لابن القيم يعرض لنا فيه نوعين من الفهم لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بهما وهما فهم الواقع ثم فهم الواجب في الواقع وفي المقتطف شرح للنوعين مع التدليل بالأمثلة العملية التي توصل الغاية والمراد من كلامه رحمه الله

بقلم: ابن قيم الجوزية
1289
أبرز آراء النسوية الراديكالية: رفض الأسرة والزواج | مرابط
مقالات النسوية

أبرز آراء النسوية الراديكالية: رفض الأسرة والزواج


كرد فعل لوضع المرأة في الغرب وكرد فعل لقوانين الأحوال الشخصية المسيحية القاسية وكرد فعل لقسوة الرجال وعنفهم وكتحقيق للرغبة الجنسانية المستشرية في الغرب وابتغاء للفردية وعدم التقيد وهروبا من أعباء البيت ومسؤوليات الأسرة واعتقادا بأن الأسرة قيد وعبء ولا ضرورة لها وتصنف المرأة في درجة أدنى واحتجاجا على حصر دور المرأة في الإنجاب والأمومة دون غيرها من الأدواركل هذه الأمور أدت ببعض أجنحة هذه الحركة إلى السعي للتخلص من الأسرة والزواج

بقلم: مثنى أمين الكردستاني
2023
لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام | مرابط
مقالات

لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام


إن النصوص الصحيحة المأثورة عن الدين الإسلامي في القرآن وكتب السنة النبوية المشهورة بصحة رواتها إذا أردنا أن نقتصر منها على المعاني الإنسانية الخاصة بالرقيق فإنها وحدها تبلغ كتابا وإذا حاولنا أن ننقل الوقائع التاريخية عن عظماء المسلمين وأئمتهم وأخبارهم في تطبيق هذه النصوص والمبادئ والأحكام بالعمل لكان من ذلك مجلدات كئيرة.

بقلم: محمد الخضر حسين
646
الاجتهاد وتمدين الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاجتهاد وتمدين الإسلام


أما الآخر الذي أحب أن ألفت النظر إلى خطورته فهو تطوير الإسلام لكي يوافق الواقع في حياتنا المعاصرة. وقد بدأ هذا الاتجاه كما رأينا في أول الأمر بإحساس الحاجة إلى مواجهة الأقضية الجديدة باستنباط أحكام شرعية توافقها ورأينا صدى ذلك فيما كتبه الطهطاوي وخير الدين التونسي

بقلم: محمد محمد حسين
431
الأدب مع الله | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

الأدب مع الله


وتأمل أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله وخطابهم وسؤالهم كيف تجدها كلها مشحونة بالأدب قائمة به وهنا يذكر لنا ابن قيم الجوزية رحمه الله نماذج من خطاب الأنبياء والرسل مع الله تعالى وكيف تتجلى فيها معالم وملامح الأدب الكبير حتى في أدق التفاصيل

بقلم: ابن قيم الجوزية
2233
كيف نتغلب على حالة هدر الوقت | مرابط
تفريغات ثقافة

كيف نتغلب على حالة هدر الوقت


يجب أن نقول في البداية: إن الواحد منا مهما أبدى من الكفاءة والألمعية في تنظيم وقته والاستفادة منه فإنه لن يستطيع استثماره على نحو تام فالعنصر الروحي الذي يتمتع به الإنسان يفقده المرونة الكافية للعمل المتواصل ولذا فإن طبيعة عمله تظل مغايرة لطبيعة عمل الآلة كما أن الظروف والأحوال المحيطة هي الأخرى تحول دون ذلك ولذا لا بد إذا أن نقنع باستثمار نسبي واستفادة منقوصة

بقلم: د عبد الكريم بكار
505