من حياة عمر بن عبد العزيز ج1

من حياة عمر بن عبد العزيز ج1 | مرابط

الكاتب: خالد الراشد

483 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

مقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" [آل عمران:102].

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" [النساء:1].

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" [الأحزاب:71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله! يقول المولى سبحانه وتعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران:110]. أمتكم أمة مجيدة كريمة عظيمة، اختارها الله لتكون واسطة العقد في هذا التاريخ، فهي الشاهد على الناس والرسول عليها شهيد يوم القيامة، إنها أمة تمرض ولكنها لا تموت، وقد تغفو أحيانًا ولكنها لا تنام، وتغلب أحيانًا لكنها لا تقهر بإذن الله. أخرج الله منها منائر للتوحيد وهداة للبشر ومشاعل للحضارة الحقة.

فمع علم من أعلام هذه الأمة نقف وقفة عظة وتذكر وتدبر، علم يجب على الأمة أن تجعله قدوة من القدوات يوم كادت تغيب القدوات، حتى يكون حديث شيوخها في المنتديات وقصصًا لأطفالها الذين شغلوا بالقصص الهابطة والرسوم المتحركة، وحديثًا لشبابها الذين طالما شغلوا بالحديث عن اللاعبين والفنانات، وملئوا أسماعهم وأبصارهم بالأفلام والمسلسلات، إنه من جعل كبير المسلمين له أبًا، وأوسطهم له أخًا، وأصغرهم له ابنًا، فوقر أباه وأكرم أخاه وعطف على ولده، إنه القيم والأخلاق والمثل، وما أجمل وأروع أن نرى المثل والأخلاق رجالًا وواقعًا ملموسًا!

إنه من العادلين إذا ذكر العدل، ومن الخائفين من الله إذا ذكر الخائفون، إنه من حيزت له الدنيا بأكملها، فتولى عنها يريد ما عند الله، فلم يصلح بينه وبين الله أحد من خلقه، فخاف الله وما تكبر وما تجبر وما ظلم، خشي الله فعدل، خشي الله فأمن، خشي الله فرضي.

أظنكم قد عرفتموه، إنه عمر بن عبد العزيز، وما أدراكم ما عمر ؟

إنها الهمم تتكلم وتتحدث، كان يقول لزوجه فاطمة: يا فاطمة ! إن لي نفسًا تواقة اشتاقت إلى الإمارة، فتولى الإمارة، فارتفعت الهمم، فقال لها: يا فاطمة ! إن لي نفسًا تواقة اشتاقت إلى الخلافة، فتولى الخلافة، فارتفعت الهمم: فقال لها: يا فاطمة: إن لي نفسًا تواقة تشتاق إلى الجنة، إنه رجل لا كالرجال، وسيرته لا كالسير، وعذرًا أن نفيه حقه في هذه العجالة، لكن حسبكم وحسبي أن نقف عند بعض المواقف، نقف ونتذكر ونعتبر، ونقرأ التاريخ.

اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر

"لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ" [يوسف:111] فهيا بنا نبحر في بحر عمر، ومن لآلئه نقتبس ونتذكر، ومن درره ننهل، وعند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة بإذن رب العالمين.

تولى الخلافة رضي الله عنه فكان مجددًا بحق، كانت خلافته ثلاثين شهرًا، لكنها خير من ثلاثين قرنًا، لم يضيعها في كسب دنيوي، ولا شهوة عاجلة، لكنه جعلها وقفًا لله رب العالمين، فبارك الله في سنتين ونيف، بويع بالخلافة، وقام ليلقي أول خطاب له على المنبر: فتعثر في طريقه إلى المنبر من ثقل المسئولية، ومن خوف رب البرية، فوقف يتحدث إلى الناس قائلًا: لقد بويعت بالخلافة على غير رغبة مني، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم رجلًا، فصاح الناس صيحة واحدة ممزوجة بالبكاء: قد اخترناك يا عمر ورضينا بك، فبكى وقال: الله المستعان! ثم أوصاهم من على المنبر قائلًا: أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، ثم رفع صوته: أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، ونزل من على المنبر باكيًا.

بعد ذلك عرضت عليه الخيل والدواب ليركبها لتكون موكبه إلى قصر الخلافة كما كان يفعل أسلافه، فأعرض قائلًا: ما أنا إلا رجل من المسلمين أغدو كما يغدون، وأروح كما يروحون.

عاد إلى بيته معلنًا أنه من تواضع لله رفعه، ترك قصر الخلافة ودخل غرفته المتواضعة، وجلس حزينًا يئن تحت وطأة المسئولية، ثم استدعى زوجه فاطمة مبتدئًا بالأقربين، استدعى فاطمة العابدة الزاهدة بنت الخليفة وأخت الخلفاء، قال لها: إني بعت نفسي من الله، فإن كنت تريدين العيش معي فحيهلا، وإلا فالحقي بأهلك، وهذه الحلي التي تلبسينها تعلمين من أين أتى لك بها أبوك، رديها إلى بيت المال، والله! لا أجتمع مع هذه الحلي في دار واحدة، قالت الزاهدة الراغبة فيما عند الله: بل أردها، والحياة حياتك يا عمر، وللآخرة خير وأبقى للذين آمنوا واتقوا.

خرج إلى الأمة ليردها إلى الله الواحد القهار فكان فعله يصدق قوله، كان لا يشغله عن الله شاغل، ليله قيام وبكاء وخشوع وتضرع، ونهاره عدل وإنصاف ودعوة وبذل وعطاء، فما ليلنا ونهارنا يا عباد الله؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.

اللهم ردنا إليك ردًا جميلًا يا قيوم السماوات والأرضين.


عدل عمر بن عبد العزيز

ملأ الأرض عدلًا بعد أن كادت تملأ جورًا، إيه يا عمر! قد عشت عمرك زاهدًا في كل ما جمع البشر أتعبت من سيجيء بعدك في الخلافة يا عمر! بعد كل صلاة ينادي مناديه: أين الفقراء؟ أين المحتاجون؟ فيقدم لهم الطعام والأموال، فلا والله ما تنساه البطون الجائعة ولا الأكباد الظمأى ما دام في الأرض بطن جائعة أو كبد ظمأى.

هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله

ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله

رزقه الله الخشية، ومن رزق الخشية فقد رزق خيرًا كثيرًا، والذي يجعل الله نصب عينيه يفتح الله عليه: "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ" [البقرة:282]. فتح الله على عمر فتحًا لا يخطر على البال ولا يدور بالخيال، فكان أخوف الناس لله، وهو يرجو الأمان من الله: "يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" [الشعراء:88-89]، وفي الحديث القدسي يقول الحق تبارك وتعالى: (وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، إن أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة).

دخل عليه أحد العباد وهو محمد بن كعب القرظي، فجعل ينظر في وجهه، فإذا هو وجه شاحب، وبدن نحيل، كأن جبال الدنيا قد سقطت عليه، فقال: يا عمر ! ماذا دهاك؟ يا عمر ! ما الذي أصابك؟ والله! لقد رأيتك وأنت أجمل فتيان قريش تلبس اللين، وتجلس على الوثير، لقد كنت لين العيش، نضر البشرة، والله لو دخلت عليك يا عمر في غير هذا المكان ما عرفتك، فتنهد عمر باكيًا، قال: أما إنك لو رأيتني بعد ثلاث ليالٍ من دفني وقد سقطت العينان، وانخسفت الوجنتان، وعاثت في الجوف الديدان، وتغير الخدان، لكنت لحالي من حالي أشد إنكارًا وأشد عجبًا!

فبكى محمد وبكى عمر وبكى الناس حتى ضج المجلس بالبكاء.

جعل الهم همًا واحدًا، فرضي الله عنه ورحمه، إنه هم الآخرة وكفى، عرف عمر نفسه، وعرف همه وغايته، فرحم الله امرأً عرف قدر نفسه، لقد كسدت عنده بضاعات المنافقين والشعراء والدجالين، وقام عنده سوق المساكين والفقراء، يدخل عليه أحد الشعراء فيمدحه، فلم يجد سماعًا لما يقول، ولم يعطه عمر شيئًا من أموال المسلمين، فخرج وهو يقول: رجل يعطي الفقراء ويمنع الشعراء.

وجدت رقى الشيطان لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن راقيا

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#عمر-بن-عبد-العزيز
اقرأ أيضا
الوقاية بالغض من البصر | مرابط
تفريغات

الوقاية بالغض من البصر


إن الشارع قد منع إتيان أماكن الفساد والمحرمات بالإضافة إلى ذلك وأمر بغض البصر عند دخول الأسواق وغيرها من المجامع التي فيها مظنة النظر إلى ما حرم الله أو شيء من انكشاف العورات. ونحن اليوم ما أحوجنا إلى غض البصر أمام هذا الكم الهائل من الأجساد التي تعرت عما أوجب الله ستره والتي كشفت بقصير أو ضيق أو شفاف أو برقع فاتن أو نقاب واسع أو عيون قد غشاها الكحل ونحو ذلك من وسائل الفتنة!

بقلم: محمد صالح المنجد
285
عين الخصم! | مرابط
مقالات

عين الخصم!


عندما تحاور من يستشكل أو يشكك في أحكام الإسلام فلا يفوتنك شيء مهم وهو أن لدى بعض من تحاورهم خللا منهجيا يجب أن تسلط الضوء عليه لتظهر قوة موقفك فمثلا قد يسألونك عن سبب التحريم للحم الخنزير وفي خلفية سؤالهم أنهم يطلبون مصدرا معينا من المعارف وهو المصدر الحسي والتجريبي والواقع أن اختزال المعرفة في الحس والتجريب خلل منهجي سائد في الغرب

بقلم: د. طارق عنقاوي
322
الإنسان المترقب وأزمة ترحيل المهام | مرابط
اقتباسات وقطوف

الإنسان المترقب وأزمة ترحيل المهام


الإنسان المترقب قد يكون يرفل في ربيع العمر ويحرق سنواته الذهبية بلا مبالاة من يشعل سيجارة لصديق وضع يده على جيبه ولم يجد ولاعته وأخذ ينفث الزمن في الهواء الإنسان المترقب حدث تحول مهم في حياته كان يتابع الجدل والردود المتبادلة ونقائض التيارات عبر المنتديات الإلكترونية ثم صار اليوم يتابعها عبر شبكات التواصل هذا كل ما في الأمر

بقلم: إبراهيم السكران
463
من أدلة وجود الله: دليل الآفاق | مرابط
تعزيز اليقين

من أدلة وجود الله: دليل الآفاق


قال تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد فصلت:53. فقوله: سنريهم آياتنا في الآفاق أي: علامات وحدانيتنا وقدرتنا وقوله في الآفاق يعني أقطار السماوات والأرض: من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والرعد والبرق والصواعق والنبات وغير ذلك مما فيها من عجائب خلق الله.. وهذا المقال يناقش دليل الآفاق المثبت لوجود الله عز وجل.

بقلم: علي محمد الصلابي
358
معرفة جلال الله وعظمته | مرابط
اقتباسات وقطوف

معرفة جلال الله وعظمته


مقتطف لأبي حامد الغزالي من كتابه إلجام العوام عن علم الكلام يشير فيه إلى السبيل الحق وهو معرفة جلال الله وعظمته وصفاته من كتابه بعبارة الوحي الصادقة الصافية بعيدا عن عبارات أهل الكلام حتى لو أنهم يصلون إلى نفس النتيجة ولكن بطرق ملتوية تشوش قلوب المؤمنين

بقلم: أبو حامد الغزالي
2007
القول بعدم توسع المحدثين في نقد المتن | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

القول بعدم توسع المحدثين في نقد المتن


يناقش الكاتب محمد أبو شهبة بعض الشبهات المثارة حول السنة النبوية قديما وحديثا والتي روج بعضها المستشرقون وتلقفها بعدهم أحفادهم من منكري السنة والعلمانيين وأعداء الملة والدين وفي هذا المقال يناقش الكاتب شبهة أن المحدثين لم يهتموا بنقد المتون

بقلم: محمد أبو شهبة
1761