هل عبد سيدنا إبراهيم عليه السلام النجوم والشمس والقمر

هل عبد سيدنا إبراهيم عليه السلام النجوم والشمس والقمر | مرابط

الكاتب: محمد عمارة

2010 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أصل الشبهة

يوضح القرآن أن الله لا يغفر أن يشرك به (4: 48). ومع ذلك فقد غفر الله لإبراهيم، عليه السلام، بل جعله نبيًا رغم أنه عبد النجوم والشمس والقمر (6: 86-78). فما الإجابة؟

 

الجواب:

الشرك محبط للعمل: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (الزمر: 64-66) ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (النساء: 48).
 

تنزيه الأنبياء والرسل

والأنبياء والرسل هم صفوة الله من خلقه، يصطفيهم ويستخلصهم، ويصنعهم على عينه، وينزهم - حتى قبل البعثة لهم والوحي إليهم - عن الأمور التي تخل بجدارتهم للنبوة والرسالة.. ومن ذلك الشرك، الذي لو حدث منهم واقترفوه لكان مبررًا لغيرهم أن يقترفه ويقع فيه.. ولذلك، لم يرد في القرآن الكريم ما يقطع بشرك أحد الأنبياء والرسل قبل بعثته.. بمن في ذلك أبو الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام...
 

الآيات المستدل بها صاحب الشبهة

أما الآيات التي يشير إليها السؤال.. وهي قول الله، سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: 74-83).
 
أما هذه الآيات، فليس فيها دليل على أن إبراهيم، عليه السلام، قد مر بمرحلة شرك، وحاشا له أن يقع في ذلك، وإنما هي تحكي كيف آتى الله إبراهيم الحجة على قومه.. حجة التوحيد، ودحض الشرك.. فهي حجاج وحوار يسلم فيه إبراهيم جدلًا - كشأن الحوار - بما يشركون؛ لينقض هذا الشرك، ويقيم الحجة على تهاوي ما به يحتجون، وعلى صدق التوحيد المركوز في فطرته.. ليخلص من هذا الحوار والحجاج والاحتجاج إلى أن الخيار الوحيد المتبقي - بعد هذه الخيارات التي سقطت - هو التوحيد.. فهو حوار التدرج من توحيد الفطرة إلى التوحيد القائم على المنطق والبرهان والاستدلال، الذي فند دعاوى وحجج الخصوم.. الاستدلال اليقيني - {وليكون من الموقنين} - وليس فيه انتقال من الشرك إلى التوحيد.. تلك هي الحقيقة التي رجحجها المفسرون:
 

من كلام المفسرين

فالقرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (671هـ 1273م) يقول في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) - موردًا الآراء المختلفة حول هذا الموضوع:
 
"قوله تعالى: "قال هذا ربي" اختلف في معناه على أقوال؛ فقيل: كان هذا منه في مهلة النظر وحال الطفولية وقبل قيام الحجة؛ وفي تلك الحال لا يكون كفر ولا إيمان...
 
وقال قوم: هذا لا يصح؛ وقالوا: غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف، ومن كل معبود سواه بريء. قالوا: وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وآتاه رشده من قبل، وأراه ملكوته ليكون من الموقنين، ولا يجوز أن يوصف بالخلو عن المعرفة، بل عرف الرب أول النظر. قال الزجاج: هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن قال؛ وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال: "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " "إبراهيم: 35 " وقال جل وعز: "إذ جاء ربه بقلب سليم " "الصافات: 84 " أي لم يشرك به قط..
 
لقد قال "هذا ربي " على قول قومه؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر؛ ونظير هذا قوله تعالى: "أين شركائي" "النحل: 27 " وهو جل وعلا واحد لا شريك له. والمعنى: ابن شركائي على قولكم...
 
وقيل: إنما قال "هذا ربي" لتقرير الحجة على قومه فأظهر موافقتهم؛ فلما أفل النجم قرر الحجة وقال: ما تغير لا يجوز أن يكون ربا. وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها. وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل: " نور على نور " [النور: 35] قال: كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه، فإذا عرفه أزداد نورا على نور؛ وكذا إبراهيم عليه السلام عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله، فعلم أن له ربا وخالقا. فلما عرفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال: " أتحاجوني في الله وقد هدان " [الأنعام: 80].
 
وقيل: هو على معنى الاستفهام والتوبيخ، منكرا لفعلهم. والمعنى: أهذا ربي، أو مثل هذا يكون ربا؟ فحذف الهمزة. وفي التنزيل " أفإن مت فهم الخالدون " [الأنبياء: 34] أي أفهم الخالدون؟" (1)
 
ومع هذا الرأي ايضًا الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي (467-538هـ/1075-1144م) صاحب تفسير (الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل).. الذي يقول في تفسير هذه الايات:
 
"وكان أبوه آزر وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدّ إلى أن شيئًا منها لا يصحّ أن يكون إل?هًا، لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثًا أحدثها، وصانعًا صنعها، مدبرًا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها.
 
{هَـذَا رَبّى} قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه. لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب، ثم يكرّ عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة.
 
{لا أُحِبُّ الأفِلِينَ} لا أحبّ عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال، المتنقلين من مكان إلى آخر، المحتجبين بستر، فإنّ ذلك من صفات الأجرام.
 
 
{لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى} تنبيه لقومه على أنّ من اتخذ القمر إل?هًا وهو نظير الكوكب في الأفول، فهو ضال، وأنّ الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه.
 
 
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي للذي دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدؤها ومبتدعها" (2)
 
وعلى هذا الرأي أيضًا - من المحدثين - الشيخ عبد الوهاب النجار (1278-1360هـ/1862-1941م) - صاحب (قصص الأنبياء) - الذي يقول: "لقد أتى إبراهيم في الاحتجاج لدينه وتزييف دين قومه بطريقة التدرج في الإلزام، أو التدرج في تكوين العقيدة.." (3)..
 
ذلك هو موقف إبراهيم الخليل، عليه السلام، من الشرك.. لقد عصمه الله منه.. وإنما هي طريقة في الجدال يتدرج بها مع قومه، منطلقًا من منطلقاتهم؛ ليصل بهم إلى هدم هذه المنطلقات، وإلى إقامة الدليل العقلي على عقيدة التوحيد الفطرية المركوزة في القلوب.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. (الجامع لأحكام القرآن) ج7 ص25، 26. طبعة دار الكتاب العربي للطباعة والنشر - القاهرة سنة 1387 هـ سنة 1967 م.
  2. (الكشاف) ج2 ص30، 31 طبعة دار الفكر - بيروت - بدون تاريخ - وهي طبعة مصورة عن طبعة طهران "انتشارات آفتاب - طهران" - وهي الأخرى بدون تاريخ للطبع.
  3. (قصص الأنبياء) ص80. طبعة دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان - بدون تاريخ للطبع.

 

المصدر:

محمد عمارة، شبهات حول القرآن، ص3

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#شبهات-حول-القرآن
اقرأ أيضا
اختلاط الجنسين في نظر الإسلام الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات المرأة

اختلاط الجنسين في نظر الإسلام الجزء الأول


ومعنى غض البصر صرفه عن النظر الذي هو وسيلة الفتنة والوقوع في فساد ومن ذا الذي يجمع الفتيان والفتيات في غرفة وينتظر من هؤلاء وهؤلاء أن يصرفوا أبصارهم عن النظر ولا يتبعوا النظرة بأخواتها وهل يستطيع أحد صادق اللهجة أن يقول: إن أولئك المؤمنين والمؤمنات يحتفظون بأدب غض أبصارهم من حين الالتقاء بين جدران الجامعة إلى أن ينفضوا من حولها والشريعة التي تأمر بغض النظر عن النظر إلى السافرات تنهى أولي الأمر عن تصرف شأنه أن يدفع الفتيان والفتيات إلى عواقب وخيمة

بقلم: محمد الخضر حسين
1900
مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج4 | مرابط
مناظرات

مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج4


أما بعد.. فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس أي بعد السبعمائة لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه. فإن من كان غائبا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
478
لماذا الهجوم على الحجاب ج2 | مرابط
تعزيز اليقين تفريغات المرأة

لماذا الهجوم على الحجاب ج2


إن الله يريده مجتمعا إسلاميا طاهرا نقيا فيه الفضائل وتحارب فيه الرذائل فليس لها مكان في ظل مجتمع يؤمن بالله ورسوله ويسعى لتنفيذ حكم الله ورسوله والله عز وجل خلق العباد وهو أبصر بهم ويعلم ما في نفوسهم وما يصلح لهم ولذلك حرم الزنا وحرم الخلوة بين الذكر والأنثى الأجنبيين وأوجب الحجاب وفرض حد القذف وحد الزنا وشرع الزواج وأكد عليه ففتحت الشريعة طرق العفاف وسدت طرق الشر والرذيلة

بقلم: محمد صالح المنجد
2415
التسليم موقف عقلاني | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

التسليم موقف عقلاني


المسلم مطالب بالتسليم للأوامر الشرعية كلها طالما ثبت صحتها عنده وليس هناك مجال للاختيار أو عدم الاستجابة ولكن يبقى السؤال: هل هذا التسليم مبني على لاشيء هل هو موقف قائم على العمى المطلق أو هي استجابة تخلو من إعمال العقل الإجابة هي: لا ليس الأمر كذلك كما يدعي أعداء الدين وإنما التسليم الشرعي للنص مبني على أصول عقلية وعلمية يبينها المؤلف في هذا المقال الماتع

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري
2069
من آفات الدعاء | مرابط
اقتباسات وقطوف

من آفات الدعاء


كما نهتم بمعرفة الطريقة الصحيحة للدعاء وأوقات الإجابة يجب أيضا أن نقف على آفات الدعاء أو ما يمنع ترتب أثر الدعاء عليه فهذا مما قد يخفى على كثير من المسلمين وقد لا يهتم به أحد ثم يتعجب عن سبب تأخر الإجابة أو عدم وجود الإجابة بحال

بقلم: ابن القيم
907
خصائص أدلة القرآن | مرابط
اقتباسات وقطوف

خصائص أدلة القرآن


كلام هام لابن القيم رحمه الله يشير فيه إلى خصائص أدلة القرآن الكريم مثل السهولة واليسر والمباشرة والقرب من فطرة الإنسان وعقله واعتماد أيسر الطرق وأقصرها وأقلها تكلفا وأكثرها نفعا ويمكننا أن نقارن بين هذه الصفات وبين الطرق المعوجة التي سلكها أهل الكلام في الاستدلال

بقلم: ابن قيم الجوزية
1945