أحفاد كعب بن الأشرف وقضية الحجاب

أحفاد كعب بن الأشرف وقضية الحجاب | مرابط

الكاتب: راغب السرجاني

2216 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

ذكرنا أن التنوع والتلون من أهم سمات الباطل في مواجهة الحق، ولكن يبقى أن هناك –دائمًا- طرقًا ووسائل ثابتة للباطل في هذه المواجهة، اعتمدها زعيم أهل الباطل إبليس منذ خروجه عن طاعة الله عز وجل، واتخاذه عداوة بني آدم دِينًا.
 
وقضية إنكار الحجاب واعتباره ردة ثقافية، تبين أن من وسائل الباطل الثابتة على مدار الأزمان إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا بكل الوسائل الممكنة، المعروفة والمستحدثة.
 
إن مواجهة الباطل للحق عسكريًا ليست مضمونة النتائج في كثير من الأحوال، ففي وقت قوة الحق يكون النصر حليفه، وفي وقت ضعفه ربما تشحذ الحروب همم أبنائه لمواجهة عدوهم؛ لذا لا بد من وسيلة لتخدير أعصاب جنود الحق، وإلهائهم عن المواجهة الحقيقية والاستعداد لها.
 
وهذا السلاح الذي يستخدمه أعداء الحق -إشاعة الفاحشة- من الخطورة بمكانٍ حتى أنه استدعى تحذيرًا إلهيًّا خالدًا على مَرِّ الأزمان يحذر وينبه: [يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا] {الأعراف:27}.

 

المنهج الإبليسي: إشاعة الفاحشة

 

إنها وسيلة ثابتة في المنهج الإبليسي إذن، يستعملها الشيطان وأولياؤه من الكفار والمنافقين، فقوم لوطٍ جاءوا بفاحشةٍ ما سبقهم بها من أحدٍ من العالمين، وكانت هي الطامة التي سبَّبَت هلاكهم، وقد شغلت عليهم تلك الفاحشة تفكيرهم، لدرجة أنهم كانوا يفعلونها جهارًا، وفي أماكن تجمعهم ولا يختفون بها، بل ويعتدون على الرجال في الطريق بالفاحشة عنوة.
 
وعلى مدار التاريخ كان ذلك السلاح الفاتك -إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا- كان حاضرًا في مواجهات الباطل مع الحق بقوة، مع اختلاف القائمين به وتنوعهم، ففي العهد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام كان أحد يهود بني النضير يقود حربًا ضروسًا ضد المسلمين، ليست قبيلة بني النضير بكاملها لكن واحدًا منها، وكان اسمه كعب بن الأشرف وهو من قادة وزعماء بني النضير، وكان يصرّح بسب الله عز وجل وسب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار في هجاء الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكتف بهذا الأمر بل إنه ذهب ليؤلب القبائل على الدولة الإسلامية، وذهب أيضًا إلى مكة المكرمة وألّب قريشًا على المسلمين، وبدأ يذكِّرهم ويتذاكر معهم قتلاهم في بدر، بل فعل ما هو أشد من ذلك وأنكى - وهو كما نعرف من اليهود، ويعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرسل من رب العالمين - فعندما سأله القرشيون وهم يعبدون الأصنام قالوا له: أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه وأي الفريقين أهدى سبيلا؟
 
فقال الكافر: أنتم أهدى منهم سبيلًا.
 
وفي ذلك أنزل الله عز وجل: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا] {النساء:51}.
 
وهذا الكلام الذي قاله كعب لقريش شجعهم على حرب المسلمين.
 
بل فعل هذا الكافر أمورا تخرج عن أدب العرب وعن فطرتهم سواء في إسلامهم أو في جاهليتهم، فقد بدأ يتحدث بالفاحشة في أشعاره عن نساء الصحابة رضي الله عنهن وعن أزواجهن جميعًا.
 
ويظهر من خلال موقف كعب بن الأشرف مدى الانحراف الجنسي ومحاولة إثارة الغرائز واستخدام ذلك في إفساد الأرض، فنحن نجده يتحدث عن نساء الصحابة رضي الله عنهن؛ يتحدث بالفاحشة وبما لا يستقيم مع صاحب فطرة سليمة، فكانت هذه إحدى طرق اليهود التي استخدموها قبل النبي صلى الله عليه وسلم وفي عصره وبعده، كما فشا فيهم الزنا.
 
قال صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ".
 
وكان هذا شيئًا عامًّا في تاريخهم وإلى الآن، فمعظم وسائل الإعلام من سينما وغيرها من برامج وأفلام إباحية تمت بصلة قوية إلى اليهود؛ فأكثر من 50 % من وسائل الإعلام في العالم مملوكة لليهود، وما بين 80 إلى 90 % من الإعلانات التي تقدم في هذه الوسائل من البرامج أو الأفلام تقوم أساسًا على إثارة الغرائز والجنس والنساء، ولا بد أن ينتبه المسلمون إلى هذا الأمر جيدًا.
 
كما شهد العهد النبوي موقفًا آخر حيث قام رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول بمحاولته الدنئية الشهيرة لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا من خلال حادث الإفك، إذ اتهم أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها بارتكاب الفاحشة مع الصحابي الجليل صفوان بن المعطل في غزوة بني المصطلق، ونشر ذلك الإفك ليطعن شرف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وليثلم جدار الشرف في الجماعة المسلمة كلها، فإذا كانت أم المؤمنين ذاتها وقعت في ذلك الذنب فما بالك بمن دونها؟!!
 
ومن هنا استحق ابن سلول وأمثاله من المنافقين ذلك التهديد العنيف بالعقاب في الدنيا والآخرة [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ] {النور: 19}.
 
فمجرد حب إشاعة الفاحشة يستحق صاحبه ذلك العذاب، فما بالك بمن يقوم بنشر الفاحشة فعلاً ؟!!

 

قضية الحجاب

 

واستمر ذلك التوجه عند أهل الباطل على مدار التاريخ، ومن ذلك ما حدث في بدايات القرن العشرين من موجة الدعوة إلى خلع الحجاب التي تبنتها بعض المنظمات النسائية في أوروبا التي راعها كونُ الحجاب هو الزي الرسمي والشعبي لكل فئات نساء المجتمع المسلم، فاستقطبت بعض الشخصيات من النساء والرجال فيما يشبه غسيل المخ، ليصيروا دعاةً ضد العفة والفضيلة عن قصدٍ منهم أو عن جهل.
 
ومع تقدم التقنيات في النصف الثاني من القرن العشرين صارت الحرب في سبيل إشاعة الفاحشة أشد كثافة، وأكثر تطورًا، فمع ظهور وانتشار التلفاز والسينما دأب المنافقون وسادتهم على نشر الرذيلة، وتجميلها من خلال الإعلام، وما يقدمونه من أفلام تُهَوِّن من شأن التبرج والزنا وشرب الخمور، وتجعل كل هذه الفواحش من الأمور المعتادة التي يلجأ إليها أغلب أبطال العمل الفني، ومع ذلك يظهرونهم بالمظهر الطيب السعيد الناجح في كل مجالات حياته، من أجل أن يقوم المشاهدون بتقليدهم.
 
ومع انتشار الفضائيات صارت الكليبات العارية هي عنوان العديد من القنوات التي صارت تدغدغ مشاعر الشباب والفتيات والرجال والنساء على حَدًّ سواء، مما نرى صداه وتأثيره على زي الفتيات في الطرقات. وفي مجال الانترنت أظهرت دراسة حديثة أن العالم العربي هو الأول في العالم من حيث البحث عن كلمة (جنس) على شبكة الإنترنت، كما بلغ عدد المواقع الجنسية على الشبكة في أواخر عام 2003م 2.4 مليون موقع، كما أن مستخدمي الشبكة حول العالم يتبادلون 2.5 مليار رسالة جنسية يوميًا.
 
كل ما مضى يبين لنا سِرَّ الحرب الضروس على الحجاب الذي فرضه اللهُ عزَّ وجل على الفتيات والنساء المسلمات. إن هذه الحرب هدفها الأول هو إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، حتى تخمد قوة الحق في نفوس المؤمنين، وتثور قوى الغريزة، فيسوقهم أعداؤهم كما يسوقون ذوات الأربع.
 
وقد اتخذت هذه الحرب ميادين عدة، ففي أوربا بدأت فرنسا داعية الحرية بمنع المسلمات ارتداء الحجاب في المدارس، لأن فيها ما يقرب من ثمانية ملايين مسلم يمثلون أكبر جالية إسلامية في أوربا، وفرنسا تريد إذابة كل ما يتعلق بالإسلام من قلوبهم، وتريد أن تدمر الأخلاق الإسلامية في نفوسهم، ثم حذت عدة مقاطعات ألمانية حذوها رغم أن ألمانيا تتظاهر بأنها لا تريد العداء مع المسلمين!
 
أما في العالم الإسلامي فالمنافقون يقومون بهذا الدور على أكمل ما يريده أعداء الله؛ لأن لهم عقليةً واحدة، وهدفًا واحدًا هو إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وتحت هذا الهدف يندرج القانون التونسي الذي يمنع الحجاب من عشرات السنين، ويعتبره زيًّا طائفيًّا حتى اليوم.
 
إنهم يريدون العُري، يريدوننا قومَ لوطٍ آخرين نأتي المنكر علانية، يشعرون بالضيق إذا رأوا مظاهر العفة سائدة في المجتمع، إنهم -لا شك- يستمتعون –بل ويستفيدون- من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وهدفهم الأسمى أن يهدموا بنيان المجتمع المسلم، فقد فهموا جيدًا أنَّ مَن يريد تقويض أركان مجتمع ما استعصى على الهزيمة والتغيير؛ فعليه أن يهدم حصن الأخلاق والعفة فيه.

 


 

المصدر:

  1. راغب السرجاني، بين التاريخ والواقع، ج1، ص34، بتصرف.
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#راغب-السرجاني #قضية-الحجاب
اقرأ أيضا
نشوء دولة التتار ج2 | مرابط
تفريغات

نشوء دولة التتار ج2


في هذه المحاضرة ألخص ما حدث في هذه الفترة من أحداث وأسأل الله عز وجل أن يمكننا من استعراض كل الأمور بإيجاز نتحدث اليوم عن ظهور قوة جديدة على سطح الأرض في القرن السابع الهجري هذه القوة أدت إلى تغييرات هائلة في العالم بصفة عامة وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة قوة بشعة أكلت الأخضر واليابس ولم يكن لها هدف في حياتها إلا التدمير والإبادة

بقلم: د راغب السرجاني
753
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الأول ج1 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الأول ج1


يجب على الإنسان أن يقف ويتفكر ويتدبر في كل الأحداث التي مرت قبل ذلك بأمتنا ليخرج منها بالعبرة واسألوا أنفسكم: لماذا نزلت الرسالة النبوية في بلد كمكة ولماذا هاجر صلى الله عليه وسلم إلى بلد كالمدينة والجو -كما تعلمون- حار والصحراء قاحلة والمياه نادرة والهواء ساخن نحن لا نستطيع أن نتحمل إلا بضعة أيام نقضيها في العمرة أو في الحج مع وجود المكيفات والمراوح ووسائل الرفاهية الكثيرة فهذا يدل على أن الدعوة والأمة لا تنشأ إلا في جو صعب يربي الناس تربية قوية راسخة على تحمل المشاق في سبيل الله عز وجل

بقلم: د راغب السرجاني
813
اللسان العربي والعلوم العقلية | مرابط
لسانيات

اللسان العربي والعلوم العقلية


تغيرت طبيعة التعبير اللغوي بتأثير من العلوم العقلية المتغلغلة في الأمة وقد ظهر هذا الأثر في مجالين كبيرين: الأدب والعلوم الشرعية وهناك الكثير من الشواهد التي لا تحصى على تغير اللسان وابتعاده عن اللسان الأول بسبب تأثر العبارة الشرعية بالمنطق اليوناني خصوصا وبالعلوم العقلية عموما

بقلم: البشير عصام المراكشي
609
صناديق الاستثمار في عشر ذي الحجة | مرابط
تعزيز اليقين

صناديق الاستثمار في عشر ذي الحجة


سجل في الصندوق قبل أن يغلق الاكتتاب .. كانت أعمار بني آدم في الأزمنة السابقة طويلة وأما أعمار أمة خاتم الأنبياء غما بين الستين إلى السبعين إلا أن الله تعالى بفضله وبمنه وكرمه عوض نقص أعمار هذه الأمة بأن جعل لهم مواسم الخيرات محطات يتزودون بها ومن تلك المواسم عشر ذي الحجة حيث فضلت على سائر أيام

بقلم: د. يحيى بن إبراهيم اليحيى
429
السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج2 | مرابط
مناقشات

السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج2


حين بدأت بمطالعة كتاب ما بعد السلفية كنت حريصا على أن تتخلق في نفسي انطباعاتي الذاتية عن الكتاب بعيدا عن ضغط تأثير انطباعات الآخرين خصوصا وأنا أعلم أن الكتاب سيكون كتابا جدليا بامتياز وسيحدث جدلا في المشهد الفكري والشرعي بشكل عام وفي الداخل السلفي بخاصة والذي ستتشكل فيه بؤر ممانعة ذاتية طبعية من النقد والمراجعة فبعض النفوس قد لا تحتمل النقد وبعضها قد تحتمله ولكن لا تحتمل أن يكون معلنا وأجدني -بحمد الله- كما أجد غيري ميالا إلى استيعاب الممارسة النقدية واسع الصدر لها بل داعيا ومرحبا بها كونها...

بقلم: عبد الله العجيري
1377
المذاهب والفرق المعاصرة: القدرية ج1 | مرابط
تفريغات

المذاهب والفرق المعاصرة: القدرية ج1


أهل السنة والجماعة يؤمنون بالقدر إيمانا كاملا مفصلا وعقيدتهم في الإيمان بالقدر عقيدة واضحة وبينة وهم ينهون ويأمرون بالإمساك عن مسائل القدر إذا كان الخوض فيها بغير منهاج الشرع فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب وقال: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم وهذا حديث صحيح رواه الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح

بقلم: عبد الرحيم السلمي
938