أين أخطأ المقاصديون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة ج1

أين أخطأ المقاصديون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة ج1 | مرابط

الكاتب: الدكتور هيثم بن جواد الحداد

1856 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمد لله والصلاة على رسول الله، أمَّا بعد:

فلم يحظ موضوع أصولي في العشرين سنة الماضية ما حظيه موضوع مقاصد الشريعة، وقد ساهمت أحداث سبتمبر وما أعقبها مما يسمى بالحرب على الإرهاب في مزيد من الاهتمام بهذه الموضوع بشكل لم يسبق له مثيل.
 
السياسيون اهتموا به لتمرير "أجندتهم" السياسية، والإعلاميون تمسكوا بها، لتبرير مخالفة الإعلام للشريعة، وكثير من الدعاة تمسك بها من أجل المزيد من المكتسبات سواء لدى عامة الناس، أو لدى شرائح "الملأ"، وتولت مقاصد الشريعة مع "ظاهرة الخروج عن مألوف الشريعة المعهود لدى المسلمين بحجة نبذ التقليد والعمل بالدليل" مهمة تمرير "لبرلة" الإسلام وعصرنته، وكان أخطر ما في الأمر تبني شرائح إسلامية عديدة لهذا الفكر الأصولي الفقهي فكانوا أخطر الجميع.
 

مقاصد الشريعة

لقد اهتم الجميع بهذين الموضوعين: مقاصد الشريعة، عزل النص (الإلهي) القرآن والسنة عن العمل البشري (اجتهاد الفقهاء)، حتى لم يعودا موضوعين أصوليين، بقدر ما أصبحا أداة خطاب، كل يستعملها كيف شاء، ولأي غرض شاء.

وقد أقبل جمع من الدعاة وطلبة العلم وبدون تمحيص إلى مقاصد الشريعة من خلال منظور محدد، وتبنوها، وكتبوا فيها رسائل علمية، مما زاد الفهم الخاطئ لها تثبيتا وتقريرا، وعسر على بعض منهم الاعتراف بأن ثمة خطأ في هذه المنظومة الفكرية الأصولية التي نسجت بتوال على خطأ واحد، ووقف كثير من الدعاة وبعض طلبة العلم وأهله عاجزين عن مواجهة هذا الفكر باللغة نفسها، فعمد بعضهم إلى لغة عاطفية قد لا تكون مناسبة في مقام تأصيل وتقعيد، مما بدا لكثير أنه عجز في الحجة نفسها، لا في طريقة أدائها، الأمر الذي أكسب هذا الفهم القاصر والمغلوط زخمًا ومزيدًا من الرسوخ.
 

إلغاء وحدة المسلمين

فمقاصد الشريعة بذلك الفهم ألغت المطالبة بوحدة المسلمين تحت خليفة واحد، إذ إنّ مقصود الشريعة الأعظم هو حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال والعرض وهذا يتحقق بهذه النظم الورقية المعاصرة، أما ما نعم به المسلمون في بعض أزمانهم من وحدة جعلتهم دولة مرهوبة الجانب، فتحت مشارق الأرض ومغاربها، إنما هو مجرد واقع تاريخي ومرحلة زمنية لا يجوز أن تفرض نفسها على نظرة المسلمين السياسية المعاصرة.
 

إلغاء جهاد الطلب

ومقاصد الشريعة ألغت جهاد الطلب، وقصرت الجهاد على الدفاع، فمواثيق الأمم المتحدة، وبنود التعايش السلمي تمنع الاعتداء، الذي هو قلب مقاصد الشريعة، وليت الأمر اقتصر على "وقف العمل بجهاد الطلب حتى تكتمل شروطه" بل تجاوزه إلى إلغاء جهاد الطلب وشطبه من القاموس الإسلامي بالكلية.

 

دار الإسلام ودار الحرب

وقل مثل ذلك فيما أجمع عليه فقهاء المسلمين حتى قبل المائة سنة الماضية من تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب، وما تبع ذلك من جعل الولاء السياسي في الإسلامي مبنيا على الولاء العقدي لا العكس.
 

مكتسبات الدولة

وتسابقت الدول الإسلامية في فتح أراضيها للقوات الأجنبية الكافرة لضرب حركات أو دول إسلامية مجاورة وتذرع هؤلاء بدون حياء بمقاصد الشريعة التي توجب عليهم المحافظة على مكتسبات الدولة (وبعضهم أسماها الأمة)، ومصالحها العليا.
 

تجنب الصراعات المدنية

وأخمد أيٌ من الأصوات المعارضة لصوت بعض الأنظمة الحاكمة، ولو كانت معارضتها هادئة وديعة، وتكفلت مقاصد الشريعة المغلوطة بهذه المهمة متذرعة بسعي الشريعة لتحقيق وحدة الأمة وتجنب الصراعات المدنية التي تضيع حفظ الأنفس والأموال والأعراض، وتكفل كبر ذلك أشياخ أو علماء، فعباءتهم أوسع العباءات، وهي الأكثر تأثيرًا في الحس الإسلامي، فلا أنسب منها رداءا وقت الحاجة!.
 

الجانب الاجتماعي في المجتمع

أما على الصعيد الإجتماعي، فقد فرضت علينا مقاصد الشريعة هذه تغيير وضع المرأة المسلمة ونظرة المجتمع لها، إذ لم تعد مهمتها الكبرى تربية الأولاد والعناية بالبيت، بل تجاوزته إلى مساهمتها في الحياة السياسية وربما العسكرية، وعليه فلا بد من تغيير المعهود من أحكام إختلاط النساء بالرجال، وصفة الحجاب وشروطه..
 

وضع الأقليات

وعند الأقليات، أباحت مقاصد الشريعة للزوجة التي أسلمت تحت زوج كافر، أن تبقى معه على كفره، مناقضة بذلك ما أجمع عليه العلماء أو اتفقت كلمة جلهم على انتهاء عقد الزوجية بدخولها في الإسلام.
ولن يتخيل بعض القراء بعض الأمثلة التي سأوردها، فكثير منها يتداول في الغرب، لكن الأخطر من ذلك أننا أصبحنا نرى ونسمع عن تداول الأمثلة نفسها في بلاد المسلمين..
 

إعادة قراءة الإسلام

فمثلاً يكثر بعض الدعاة في الغرب الحديث عن ضرورة إعادة قراءة بعض أحكام الإسلام، وضرورة القيام بحركة تصحيحية تجاه نظرة الإسلام للملل الأخرى وأهلها، أو أحكام الأقليات في الإسلام، والحدود الشرعية، وقوامة الرجل على المرأة، وميراثها، ونظرة الإسلام لما يسمى بالمثلية الجنسية (الشذوذ الجنسي)، إذ أن هذه الأحكام بحسب زعمهم جاءت منسجمة مع واقع معين، فإذا ما تغير هذا الواقع واضطرب هذا الانسجام، وجب تغيير الأحكام محافظة على هذا الإنسجام الذي هو أحد مقاصد الشريعة!.
 
وفي الغرب كذلك يكثر الحديث بين الأوساط الإسلامية عن العلمانية، وأنها أصلح الأنظمة لحكم المجتمعات متعددة الثقافات، بل لحكم مجتمع ذي ثقافة واحدة لكنه مرتبط بمجتمعات متعددة الثقافات من خلال أدوات العولمة، ونرى الآن كثيرًا من بعض الإسلاميين في بلاد الإسلام يؤمنون بهذه الأفكار وربما روجوا لها بحماس يثير الدهشة.
 

بداية مقاصد الشريعة

البداية:
تكاد كلمة الباحثين تتفق على أن أول من أفرد مقاصد الشريعة بالذكر هو الغزالي (505هـ)، فقد ذكر أن الشريعة جاءت لرعاية خمس مقاصد؛ حفظ الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل، وتابعه على هذه الطريقة جل من تحدث عنها خلا شيخ الإسلام ابن تيمية (708هـ)، وكما تقدم ذكره، فلم يأخذ هذا الموضوع حيزا من الاهتمام إلا في العقد السابقين، لكن أكبر خلل وقع فيه من تحدث عن مقاصد الشريعة هو قصرها على المصالح الدنيوية، ولا أظن أنه دار بخلد الغزالي ولا غيره من السابقين أن مقاصد الشريعة ستصبح دنيوية محضة، تغيب فيها المقاصد الأصلية الكبرى، إلى أن ينتهى الحال بمقارنة الشريعة بالنظم الوضعية.

ونسي الجميع بما فيهم عدد من الأفاضل، أن أهم وأعلى مقاصد الشريعة التي جاءت من أجلها إنقاذ الناس من عذاب النار، وإدخالهم جنات عدن، من خلال التعبد للرب وحده لا شريك له، ذلك المقصد الذي تذوب فيه كل المقاصد الأخرى، ومن ثم فإنه يؤثر في رؤى الناس للكون والحياة؛ للسياسة، والاقتصاد، والعلاقات الدولية، لتنفيذ الحدود وتطبيقها، للعلاقة بين الدنيوي والأخروي، لهيمنة الشريعة وثباتها، للمقصود من الحضارات، لربط الفرد بعلاقة متزنة مع جميع من حوله بما فيهم الجماد.
 
إنّ المتتبع للقرآن الكريم والسنة المطهرة، يرى أن النصوص تحدثت عن "إرادة إلهية"، ولا شك أن هذه الإرادة هي العليا، وعليه فلا يمكن أن تكون مقاصد الشريعة، إلا تبعا لهذه الإرادة، ومن خلال التتبع لهذه النصوص لا يصعب علينا أن نميز بين إرادات (مقاصد) أربع، يدل عليها كذلك الاستقراء العقلي:
 
ما أراده الله لنفسه من خلقه الخلق، وهو ما يُعبر عنه أحيانا بالإرادة الكونية.
ما أراده الله لعباده من خلقه لهم.
ما أراده الله لنفسه من شرعه الشرائع، وهو ما يعبر عنه أحيانا بالإرادة الشرعية.
وما أراد الله لعباده من شرعه الشرائع.
وهذه الأنواع كما ترون يمكن أن تدمج لتصبح اثنين:
ما أراد الله لعباده.
ما أراد الله لنفسه.

وإن أكبر خطأ وقع فيه المقاصديون الجدد هو إهمالهم لما أراد الرب لنفسه، ولما أراده لخلقه بعد مماتهم، مع أنهما الأهم في ما رمت إليه الشريعة.
أما ما قصدته الشريعة من حفظ الضروريات الخمس المذكورة، فإنه ثانوي ومكمل لهذين المقصدين، ومن أهم ما يترتب على ذلك ترتيب أولويات الشريعة، وأهلها، لا سيما عند التعارض بين الأدلة، أو الأحكام، أو عند محاولة تنزيل بعض الأدلة على بعض الوقائع المعاصرة، وما يعرف بالسياسة الشرعية.

 


 

المصدر:

https://dorar.net/article/526/%D8%A3%D9%8A%D9%86-%D8%A3%D8%AE%D8%B7%D8%A3-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%B5%D8%AF%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D9%86%D8%B8%D8%B1%D8%AA%D9%87%D9%85-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%B5%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%B9%D8%A9-1/2

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#المقاصد
اقرأ أيضا
السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج2 | مرابط
مناقشات

السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج2


حين بدأت بمطالعة كتاب ما بعد السلفية كنت حريصا على أن تتخلق في نفسي انطباعاتي الذاتية عن الكتاب بعيدا عن ضغط تأثير انطباعات الآخرين خصوصا وأنا أعلم أن الكتاب سيكون كتابا جدليا بامتياز وسيحدث جدلا في المشهد الفكري والشرعي بشكل عام وفي الداخل السلفي بخاصة والذي ستتشكل فيه بؤر ممانعة ذاتية طبعية من النقد والمراجعة فبعض النفوس قد لا تحتمل النقد وبعضها قد تحتمله ولكن لا تحتمل أن يكون معلنا وأجدني -بحمد الله- كما أجد غيري ميالا إلى استيعاب الممارسة النقدية واسع الصدر لها بل داعيا ومرحبا بها كونها...

بقلم: عبد الله العجيري
1287
عين جالوت والقضاء على القوى العظمى الجزء الثاني | مرابط
تاريخ مقالات

عين جالوت والقضاء على القوى العظمى الجزء الثاني


معركة عين جالوت كانت فاصلة جدا ليس في تاريخ الإسلام فقط بل في تاريخ العالم الإنساني بأكمله فشر التتار لم يقتصر على العالم الإسلامي وإنما وصل اجتياحهم إلى قلب أوروبا وأبادوا بلادا ومدنا كثيرة وأهلكوا الحرث والنسل ودمروا كل شيء وقف في طريقهم وكانت هذه الموقعة فاصلة لأن لها ما بعدها فإما أن يستكمل التتار احتلالهم للعالم بأسره عبر اجتياح مصر ومنها إلى إفريقيا بعد أن وصلوا إلى مناطق متقدمة في أوروبا وإما أن يتصدى لهم المسلمون وينتهي شرهم وهذا مقال هام يحدثنا عن المعركة وكل تفاصيلها بقلم راغب الس...

بقلم: راغب السرجاني
2270
حفظ اللسان | مرابط
فكر مقالات اقتباسات وقطوف

حفظ اللسان


إن ربنا سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قد جاء عنهما الأمر بحفظ اللسان هذا العضو السريع الحركة أسرع الأعضاء حركة وأنشطها لا يكل ولا يمل من كثرة الاستعمال قال الله عز وجل في كتابه العزيز: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد سورة ق 18 فكل ما خرج منه يكتب ويرصد ويحفظ ويجمع لينشر يوم الدين وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت

بقلم: محمد صالح المنجد
1209
نساؤنا ونساء الإفرنج | مرابط
مقالات

نساؤنا ونساء الإفرنج


لقد فقدت المرأة الغربية الزوج ففقدت المعيل فاقتحمت كل عمل لتعيش فصارت تعمل في المصنع وتشتغل في الحقل وتكنس الطريق من الأقذار! وقد خبرنا من رأى في أوربا البنات موظفات في المراحيض العامة ينظفنها لمن يريد الدخول

بقلم: علي الطنطاوي
275
لا تكن إقصائيا | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

لا تكن إقصائيا


تعد لفظة الإقصاء من الألفاظ الذميمة في ثقافتنا المعاصرة فتراها تتوارد على الألسنة في سياقات متعددة وصياغات كثيرة تكشف عن نفور الناس منها وهي سياقات تشترك في التحذير من هذه الممارسة وذم أصحابها مع الدعوة إلى ما يقابلها من مفاهيم التسامح والانفتاح وسعة الصدر وتقبل الآخر وغيرها الإشكالية في هذه المقولة أنها تتسم بقدر عال من الإجمال يستدعي شيئا من التفتيش في تفاصيلها الداخلية

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2102
مع نظرية المصلحة عند نجم الدين الطوفي | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

مع نظرية المصلحة عند نجم الدين الطوفي


تعتبر مقولة نجم الدين الطوفي الشهيرة: تقديم المصلحة على النص من أشهر المقالات الفقهية والفكرية فى هذا العصر لأنه تم توظيفها بمهارة لتكون بساطا يسير عليه أي تحريف معاصر يرغب في تخطي بعض النصوص الشرعية ومع الجهود العلمية الحثيثة في توضيح هذه القضية وبيان الشذوذ والخلل فيها إلا أن المقالة الطوفية ما تزال حاضرة في أي مشهد ثقافي يرغب في حذف بعض أحكام الشريعة

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1500