استمداد المذاهب من خارج أهلها

استمداد المذاهب من خارج أهلها | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

1436 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمدلله وبعد،،

 

الفقهاء العابرون للحدود

يتصور البعض أن المذاهب الفقهية أسوار مغلقة أقرب إلى القنوات المتجاورة التي تسير بجنب بعضها لكنها لا تتمازج، أي أنها كانت تجتهد وتفكر وتنتج داخل فضائها الفقهي الخاص فقط، وهذا غير دقيق، فهناك فقهاء يمكن تسميتهم (الفقهاء العابرين للحدود) وهم فقهاء أثروا على مذاهب أخرى تأثيرًا جوهريًا أوجزئيًا.

وحين كنت أطالع كتب المذاهب الفقهية الثلاث (الحنفية والمالكية والشافعية) وللأسف ليس لي خبرة دقيقة ومنظمة بها، بل كثيرًا ما تمر بي اصطلاحات في كتب المذاهب الأخرى ولا تتبين لي، وخصوصًا المالكية فما أكثر اختصاراتهم، لكنني كنت أراجع بعض المسائل فقط، فكان يدهشني حجم الحضور لأعلام مميزين خارج مذاهبهم.
 

أبو حامد الغزالي

أكثر شخص شدني حضوره خارج مذهبه ولم أجد ذلك لعالم آخر في كل التراث الإسلامي، وأستبعد أن يوجد له مثيل، فهو حضور مكثف وغزير وكأنه واحد من أهل المذهب نفسه، إنما هو (أبو حامد الغزالي)، فالغزالي حاضر في المذاهب الأخرى صراحة أو ضمنًا بشكل مثير للاستغراب جدًا، وهو بحاجة لدراسة لسبب استئثاره بهذا التأثير الأممي في عالم الفقه؟!

وخصوصًا تأثير الغزالي على الفقه المالكي، حتى أنني مرة حين رأيت كثرة ورود الغزالي في كتب المالكية استربت في الأمر، وقلت لعل هذا رجل من المالكية اسمه الغزالي! وراجعت المسألة ووجدته أبو حامد فعلًا! ومن أكثر من أدخل الغزالي على المالكية ابن شاس رحمه الله.
 
حتى قال ابن عرفة في أحد مسائل الشهادات (لا أعرف هذه المسألة لأحد من أهل المذهب، إنما ذكرها الغزالي فأضافها ابن شاس للمذهب)، وينص ابن عرفة كثيرًا فيقول "نص عليها الغزالي".

ولاحظت متأخري الحنفية ينقلون كثيرًا من إحياء علوم الدين للغزالي، والمالكية ينقلون كثيرًا من الوجيز للغزالي، وربما أن السبب هو اختلاف نمط الاحتياجات، فالحنفية يحتاجون للجانب الأخلاقي الذي عرضه أبو حامد، والمالكية يحتاجون للفروع التي فرعها أبو حامد، إذ لم يكن متقدمو المالكية مولعون بالتفريع كما كان الحنفية فلديهم اكتفاء من هذا الجانب.
 
وحتى في أصول الفقه، فالكتاب المشهور للحنابلة هو (روضة الناظر) وهو مختصر من المستصفى، وابن رشد المالكي صاحب بداية المجتهد لخص المستصفى أيضًا!
ويبدو لي لو بحث أحد الباحثين مصادر الأحاديث الضعيفة التي دخلت على كتب المذاهب الفقهية، فلن أستبعد أن يكتشف أنه بسبب الإحياء، فالإحياء للغزالي هو بوابة الأحاديث الضعيفة على أمة محمد، غفر الله له، وكلما تذكرت كتاب العراقي (المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار) أخذت أتعجب من شدة جلد العلماء السابقين، نحن اليوم مع كل الإمكانيات البحثية نتعب في تخريج الحديث وجمع طرقه وتحقيق صحته، بل الواحد منا إذا حقق مائة أو مائتي حديث شعر بالزهو، وهذا العراقي يلاحق أحاديث الإحياء الغزيرة والتي أكثرها ليس في دواوين الإسلام المعروفة، فلله در العراقي!

وأكثر متأخري الحنفية ماتريدية، وكتابهم الرئيسي هو (المسايرة) وقد تأثر فيها بالغزالي حتى قال ابن عابدين (المسايرة هي رسالة في علم الكلام ساير بها عقيدة الغزالي).

فالغزالي أعظم شخصية إسلامية مؤثرة في العصر الوسيط !
 

العز بن عبد السلام

والشاطبي متأثر بالقرافي، والقرافي متأثر بالعز بن عبد السلام الشافعي تأثيرًا جوهريًا شديدًا، وقد كنت أقرأ في الفروق للقرافي مواضع تعجبني جدًا، ثم أكتشف أنها بنصها في قواعد الأحكام للعز ابن عبد السلام، وقد أشار لذلك الشاطبي مرةً في الاعتصام فقال (ومما يورد في هذا الموضع أن العلماء قسموا البدع بأقسام أحكام الشريعة الخمسة، ولم يعدوها قسما واحدا مذموما، فجعلوا منها ما هو واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحرم، وبسط ذلك القرافي بسطًا شافيًا، وأصل ما أتى به من ذلك شيخه عز الدين بن عبد السلام).
 

ابن المنذر وابن عبد البر

وأما المغني لابن قدامة فمادته الجوهرية من ابن المنذر وابن عبد البر، وخصوصًا مذاهب الصحابة والتابعين، ومذاهب أئمة الأمصار، بل كثيرًا ماينقل ابن قدامة أقوال ابي حنيفة ليس من كتب الحنفية بل من كتب فقهاء أهل الحديث كابن المنذر وابن عبد البر، وهذا هو سبب عدم دقة المغني في نقل مذهب الحنفية على وجه الخصوص، فتجد دومًا للحنفية تفصيلات دقيقة في مسائلهم لا تجدها واضحة حين يناقشهم ابن قدامة في المغني، بل تجده كثيرًا ما يسوق قول ابي حنيفة بنفس صياغة ابن المنذر وابن عبد البر له.
 
والحقيقة أن ابن عبد البر لم يكن موردًا أساسيًا لابن قدامة فقط، بل إن ابن رشد صاحب بداية المجتهد، إنما كتابه مجرد "تنظيم عقلي" لمادة الاستذكار لابن عبد البر، ولولا ابن عبد البر لما راح ابن رشد ولا جاء، وقد صرح بذلك ابن رشد في نفس الكتاب، فحين أنهى كتاب الطهارة ختمه بهذه الجملة (وأكثر ما عولت فيما نقلته من نسبة هذه المذاهب إلى أربابها هو كتاب الاستذكار، وأنا قد أبحت لمن وقع من ذلك على وهم لي أن يصلحه).
 
وفي بقية الكتاب لا يصرح ابن رشد باسم ابن عبد البر إلا حين يورد تصحيحه أو تضعيفه للمرويات، فانظر لحسن أثر "أهل الحديث" على الناس، ولذلك فقد صدق ابن تيمية حين فسر خفة انحرافات الفلاسفة مثل ابن ملكا وابن رشد (مقارنة بابن سينا والفارابي) بكونهم نشؤوا بين أهل الحديث وانتفعوا بهم.
 
وأتعجب ممن يكيل الإطراء لكتاب "بداية المجتهد"، وينسى أن مادة الكتاب كله هو من جهد ابن عبد البر، بل حتى ابن حزم الموسوعي تراه في كتبه يقول كتبت لابن عبد البر وأخبرني ابن عبد البر، بل في رسالة لابن حزم تحدث فيها عن علوم أهل الأندلس تحدث بفخامة لا توصف عن عظمة كتاب التمهيد لابن عبد البر، وأنه لا يوجد مثله في الكلام على فقه الحديث، وهكذا كان يبجله ابن تيمية أيضًا.
 

ابن تيمية

ومن أطرف الأخبار في هذا الباب، ويستحق أن يفرد في باب من العلم خاص وهو (باب ما نقل فيه أهل المذهب مذهبهم عن غيرهم) حيث وجدت موضعًا طريفًا في رد المحتار لابن عابدين قرر فيه المذهب الحنفي لا بناءً على نص للحنفية، بل بناء على نص لابن تيمية في حكاية المذهب الحنفي، حيث يقول ابن عابدين عن مسألة الساب:
(فقد أفاد –أي ابن تيمية- أنه يجوز عندنا قتله إذا تكرر منه ذلك وأظهره، وقوله "وإن أسلم بعد أخذه" لم أر من صرح به عندنا، لكنه نقله عن مذهبنا وهو ثبت فيقبل).
 
وهذا موقف طريف جدًا، فابن عابدين معروف في التشدد والتدقيق في حكاية المذهب، وأعظم من ذلك شدة الاطلاع على كتب الحنفية واستيعابها، ولا أظن في متأخري الحنفية من يضارع ابن عابدين في استيعاب كتب الحنفية والتدقيق فيها، لكن لعظم ثقته في نقل أبي العباس، فقد جعله من المذهب حتى وإن لم يجده عن أئمتهم!

أعتقد أن الإخوان مرت بهم ملاحظات طريفة حول التلاقح المذهبي، وتأثر المذاهب ببعضها، وظاهرة الفقهاء العابرين للحدود، وسيكون ضم هذه الفوائد لبعضها، وتصحيحها وتنقيح التعميمات الخاطئة فيها، ينتج مادة جميلة بإذن الله.

 

والله أعلم.

 


 

المصدر:

http://saaid.net/Doat/alsakran/23.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#فقه #المذاهب-الفقهية
اقرأ أيضا
الآثار السلبية للانفلات من الشريعة | مرابط
فكر مقالات المرأة

الآثار السلبية للانفلات من الشريعة


فبأي ذنب يتم إسقاط ملايين الأجنة سنويا بعمليات الإجهاض التي تسببت بها علاقات غير شرعية وإذا كانت الروح قد نفخت في كثير من هذه الأجنة فبأي ذنب قتلت أليس لهذا الجنين حق الحياة أم أن حرية الشهوة مقدمة وإدا كان مصير هذه الأرواح البريئة القتل والإزهاق فلماذا يتم تسهيل العلاقات التي تسببت في تكوينها من الأصل

بقلم: أحمد يوسف السيد
458
من ثمرات التوحيد | مرابط
مقالات

من ثمرات التوحيد


قال بعض الشيوخ: إنه ليكون لي إلى الله حاجة وأدعو فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك لأن النفس لا تريد إلا حظها فإذا قضي انصرفت

بقلم: ابن مفلح
515
المذاهب والفرق المعاصرة: القدرية ج1 | مرابط
تفريغات

المذاهب والفرق المعاصرة: القدرية ج1


أهل السنة والجماعة يؤمنون بالقدر إيمانا كاملا مفصلا وعقيدتهم في الإيمان بالقدر عقيدة واضحة وبينة وهم ينهون ويأمرون بالإمساك عن مسائل القدر إذا كان الخوض فيها بغير منهاج الشرع فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب وقال: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم وهذا حديث صحيح رواه الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح

بقلم: عبد الرحيم السلمي
642
ليلة في بيت النبي الجزء الأول | مرابط
تفريغات

ليلة في بيت النبي الجزء الأول


نتعلم في هذه المحاضرة معنى الدفء الذي تعاني كثير من بيوت المسلمين فقده سببه أنهم لا يترسمون خطا النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة النساء وكذلك النساء لا يترسمن خطا أزواج النبي عليه الصلاة والسلام في ضرب المثل في الوفاء وفي معرفة لماذا خلقت هذه المرأة ومعرفة حدود طاعة الرجل إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لنا أكثر من موقف بل حياته الكريمة كلها مليئة بهذا النموذج العطوف فقد كان يعامل النساء معاملة في غاية الرفق وفي غاية الرفعة وقد أوصانا عليه الصلاة والسلام بالنساء فقال: رفقا بالقوارير وحديث...

بقلم: أبو إسحق الحويني
643
أعذار أهل العلم | مرابط
اقتباسات وقطوف

أعذار أهل العلم


ومن أعظم المحرمات وأشنع المفاسد إشاعة عثراتهم والقدح فيهم وفي غلطاتهم وأقبح من هذا إهدار محاسنهم عند وجود شيء من ذلك. وربما يكون -وهو الواقع كثيرا- أن الغلطات التي صدرت منهم لهم فيها تأويل سائغ ولهم اجتهاد هم فيه معذورون والقادح فيهم غير معذور.

بقلم: عبد الرحمن السعدي
374
تلبيس إبليس على جاحدي النبوات | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

تلبيس إبليس على جاحدي النبوات


ققد لبس إبليس على البراهمة والهندوس وغيرهم فزين لهم جحد النبوات ليسد طريق ما يصل من الإله وقد اختلف أهل الهند فمنهم دهرية ومنهم ثنوية ومنهم على مذاهب البراهمة ومنهم من يعتقد نبوة آدم وإبراهيم فقط وقد ألقى إبليس الكثير من الشبهات ليصدهم عن إثبات النبوة واتباع الأنبياء يذكرها لنا ابن الجوزي بشكل مفصل

بقلم: ابن الجوزي
869