الاغترار بالدنيا

الاغترار بالدنيا | مرابط

الكاتب: ابن القيم

897 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

وأعظم الخلق غرورا من اغتر بالدنيا وعاجلها، فآثرها على الآخرة، ورضي بها من الآخرة، حتى يقول بعض هؤلاء: الدنيا نقد، والآخرة نسيئة، والنقد أحسن من النسيئة، ويقول بعضهم: ذرة منقودة، ولا درة موعودة، ويقول آخر منهم: لذات الدنيا متيقنة، ولذات الآخرة مشكوك فيها، ولا أدع اليقين بالشك.

وهذا من أعظم تلبيس الشيطان وتسويله، والبهائم العجم أعقل من هؤلاء؛ فإن البهيمة إذا خافت مضرة شيء لم تقدم عليه ولو ضربت، وهؤلاء يقدم أحدهم على ما فيه عطبه، وهو بين مصدق ومكذب.

فهذا الضرب إن آمن أحدهم بالله ورسوله ولقائه والجزاء، فهو من أعظم الناس حسرة، لأنه أقدم على علم، وإن لم يؤمن بالله ورسوله فأبعد له.

 

وقول هذا القائل: النقد خير من النسيئة.

جوابه أنه إذا تساوى النقد والنسيئة فالنقد خير، وإن تفاوتا وكانت النسيئة أكبر وأفضل فهي خير، فكيف والدنيا كلها من أولها إلى آخرها كنفس واحد من أنفاس الآخرة؟

كما في مسند أحمد والترمذي من حديث المستورد بن شداد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع؟»

فإيثار هذا النقد على هذه النسيئة، من أعظم الغبن وأقبح الجهل، وإذا كان هذا نسبة الدنيا بمجموعها إلى الآخرة، فما مقدار عمر الإنسان بالنسبة إلى الآخرة، فأيما أولى بالعاقل؟ إيثار العاجل في هذه المدة اليسيرة، وحرمان الخير الدائم في الآخرة، أم ترك شيء حقير صغير منقطع عن قرب، ليأخذ ما لا قيمة له ولا خطر له، ولا نهاية لعدده، ولا غاية لأمده؟

وأما قول الآخر: لا أترك متيقنا لمشكوك فيه، فيقال له: إما أن تكون على شك من وعد الله ووعيده وصدق رسله، أو تكون عل يقين من ذلك، فإن كنت على اليقين فما تركت إلا ذرة عاجلة منقطعة فانية عن قرب، لأنه متيقن لا شك فيه ولا انقطاع له.

وإن كنت على شك فراجع آيات الرب تعالى الدالة على وجوده وقدرته ومشيئته، ووحدانيته، وصدق رسله فيما أخبروا به عن الله، وتجرد وقم لله ناظرا أو مناظرا، حتى يتبين لك أن ما جاءت به الرسل عن الله فهو الحق الذي لا شك فيه، وأن خالق هذا العالم ورب السماوات والأرض يتعالى ويتقدس ويتنزه عن خلاف ما أخبرت به رسله عنه، ومن نسبه إلى غير ذلك فقد شتمه وكذبه، وأنكر ربوبيته وملكه، إذ من المحال الممتنع عند كل ذي فطرة سليمة، أن يكون الملك الحق عاجزا أو جاهلا، لا يعلم شيئا، ولا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، ولا يأمر ولا ينهى، ولا يثيب ولا يعاقب، ولا يعز من يشاء، ولا يذل من يشاء، ولا يرسل رسله إلى أطراف مملكته ونواحيها، ولا يعتني بأحوال رعيته، بل يتركهم سدى ويخليهم هملا، وهذا يقدح في ملك آحاد ملوك البشر ولا يليق به، فكيف يجوز نسبة الملك الحق المبين إليه؟

وإذا تأمل الإنسان حاله من مبدأ كونه نطفة إلى حين كماله واستوائه تبين له أن من عني به هذه العناية، ونقله إلى هذه الأحوال، وصرفه في هذه الأطوار، لا يليق به أن يهمله ويتركه سدى، لا يأمره ولا ينهاه ولا يعرفه بحقوقه عليه، ولا يثيبه ولا يعاقبه، ولو تأمل العبد حق التأمل لكان كل ما يبصره وما لا يبصره دليلا له على التوحيد والنبوة والمعاد، وأن القرآن كلامه، وقد ذكرنا وجه الاستدلال بذلك في كتاب إيمان القرآن عند قوله: {فلا أقسم بما تبصرون - وما لا تبصرون - إنه لقول رسول كريم} [سورة الحاقة: 38 - 40].
وذكرنا طرفا من ذلك عند قوله: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [سورة الذاريات: 21].
وأن الإنسان دليل نفسه على وجود خالقه وتوحيده، وصدق رسله، وإثبات صفات كماله.

فقد بان أن المضيع مغرور على التقديرين: تقدير تصديقه ويقينه، وتقدير تكذيبه وشكه.

 

كيف يجتمع اليقين بالمعاد، والتخلف عن العمل؟

فإن قلت: كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار ويتخلف العمل؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غدا إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة، أو يكرمه أتم كرامة، ويبيت ساهيا غافلا لا يتذكر موقفه بين يدي الملك، ولا يستعد له، ولا يأخذ له أهبته.

قيل: هذا لعمر الله سؤال صحيح وارد على أكثر هذا الخلق، فاجتماع هذين الأمرين من أعجب الأشياء وهذا التخلف له عدة أسباب:

أحدها: ضعف العلم، ونقصان اليقين، ومن ظن أن العلم لا يتفاوت، فقوله من أفسد الأقوال وأبطلها.

وقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه إحياء الموتى عيانا بعد علمه بقدرة الرب على ذلك، ليزداد طمأنينة، ويصير المعلوم غيبا شهادة.

وقد روى أحمد في مسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ليس الخبر كالمعاينة».
فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدم استحضاره، أو غيبته عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها لاشتغاله بما يضاده، وانضم إلى ذلك تقاضي الطبع، وغلبات الهوى، واستيلاء الشهوة، وتسويل النفس، وغرور الشيطان، واستبطاء الوعد، وطول الأمل، ورقدة الغفلة، وحب العاجلة، ورخص التأويل وإلف العوائد، فهناك لا يمسك الإيمان إلا الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وبهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال، حتى ينتهي إلى أدنى مثقال ذرة في القلب.

وجماع هذه الأسباب يرجع إلى ضعف البصيرة والصبر، ولهذا مدح الله سبحانه أهل الصبر واليقين، وجعلهم أئمة في الدين، فقال تعالى: {منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة: 24]

 


 

المصدر:

ابن قيم الجوزية، الفوائد، ص36

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
أحد عشر سؤالا عن العشر الأواخر وليلة القدر | مرابط
فكر

أحد عشر سؤالا عن العشر الأواخر وليلة القدر


ماذا غير استجابة الدعاء؟ هذه ليلة عظيمة لها فضائل عظيمة وكل كلمة من الطاعة وكل فعل فيها له أجر عظيم مضاعف لا يخطر ببالك. قراءة القرآن والصلاة والصدقة وذكر الله بالثناء عليه والطلب منه بالدعاء والتذلل له والإلحاح عليه وإظهار الفقر والحاجة لله تبارك وتعالى.

بقلم: خالد بهاء الدين
586
الأسباب والنتائج | مرابط
اقتباسات وقطوف

الأسباب والنتائج


كثيرا ما يرتبط في أذهاننا أن قوة النتائج مرتبطة بما يظهر من قوة الأسباب في مظاهرها وغطائها المادي ولذلك تهفو النفوس للتعلق بالسبب كثيرا ما يمور في عقولنا تصورات مسبقة أن أقوى الناس هم أولئك الذين يملكون أقوى الأسباب المادية وقد أثار انتباهي تنبيه لطيف لأحد السلف يزلزل هذه القناعات والتصورات المطمورة وقد نقله أبو العباس ابن تيمية واحتفى به في عدة مواضع من كتبه

بقلم: إبراهيم السكران
767
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم | مرابط
اقتباسات وقطوف

فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم


مقتطف ماتع من كتاب شفاء العليل لابن قيم الجوزية يعلق فيه على قول الله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ويبين لنا كيف أن من عقاب السيئة السيئة بعدها ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها ويضرب مثلا بقصة إبليس وإعراضه عن أمر ربه وكيف كانت عقوبته

بقلم: ابن القيم
1220
أسباب الوضع المأساوي للمسلمين اليوم | مرابط
تفريغات

أسباب الوضع المأساوي للمسلمين اليوم


إن المشكلة ليست مشكلة دولة أو مجتمع أو فرد وإنما هي مشكلة أمة كاملة أمة عاشت سنوات تقود غيرها فإذا بها اليوم تقاد أمة رفعت رأسها قرونا فإذا هي اليوم تطأطئ رأسها للشرق وللغرب أمة ظلت دهرا تعلم الناس الخير وتضرب لهم الأمثال في الأخلاق وتأخذ بأيديهم إلى طريق الله عز وجل فإذا بها بعد أن عرفت طريق الهدى وعرفت به تتبع هذا وذاك وهذه مشكلة خطيرة

بقلم: د راغب السرجاني
759
بين الإمام أحمد والكرابيسي | مرابط
مناظرات فكر مقالات

بين الإمام أحمد والكرابيسي


من باب المباحثة مع إخوتي الكرام حول قصة الإمام أحمد مع حسين الكرابيسي المشهورة وشدة موقف الإمام أحمد منه كما جاء ذلك عنه بروايات كثيرة وهنا في هذه الخاطرة القصيرة محاولة لتسليط المجهر حول هذه القصة وتداعياتها والبحث عن ملابساتها وواقعها الزمني قبل الحكم عليها

بقلم: عبد اللطيف بن عبد الله التويجري
2097
استرداد مقولة الإمبريالية كمقولة تحليلية | مرابط
تفريغات

استرداد مقولة الإمبريالية كمقولة تحليلية


الحل الصهيوني للمسألة اليهودية مثلا هو الحل الاستعماري عندك يهود زيادة إما تحرقهم أو ترسلهم فلسطين وهكذا تحل قضية الأقليات في المجتمعات المدنية عندك بضائع أرسلها للمستعمرات وهكذا أوروبا حلت مشاكلها عن طريق تصديرها للشرق وأسست مجتمعات مدنية

بقلم: عبد الوهاب المسيري
486