التأويل المذموم

التأويل المذموم | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

3207 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

مصطلح التأويل من أكثر المصطلحات تداولًا لدى الفرق العقدية وأكثرها حضورًا في كتبهم وأقوالهم، إذ كان من حججهم الكبار في تحريف النص، لهذا عني شيخ الإسلام ابن تيمية بدراسة هذا المصطلح لغويًا وشرعيًا وتاريخيًا، فخلص إلى النتيجة الآتية:

التأويل له معنيان:

المعنى الأول: التفسير، كما يذهب إليه بعض مفسّري القرآن حين يقول تأويل هذه الآية كذا؛ أي: تفسيرها، ومن أشهرهم ابن جرير الطبري.

المعنى الثاني: معرفة حقيقة ما يؤول إليه الشيء، وهو المراد بلفظ التأويل في القرآن كما في قوله تعالى "هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ" فتأويل الأحاديث هو نفس مدلولها الذي تؤول إليه.

وأما المعنى الثالث: الذي هو صرف اللفظ عن معناه الحقيقي إلى معنى مرجوح لدليل راجح، فهو التفسير الدارج عند المتكلمين، لكن هذا معنى محدث ليس من معاني التأويل في الكتاب والسنة ولم يعرفه أهل اللغة(1)

وفائدة هذا التحقيق هو إبطال اعتمادهم على هذا المعنى المحدث لتفسير قوله تعالى "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" فالتأويل هنا سواء على رواية الوقف أو الوصل لا يراد به التأويل الكلامي في حمل الكلام على غير ظاهره بدليل ﻷنه معنى محدث فلا يصح تفسير ألفاظ الشريعة بمصطلحات ومفاهيم محدثة جاءت فيما بعد، كما لا تفسر بقية الآيات التي ورد فيها لفظ التأويل بنفس التفسير.

وأما مجرد الاصطلاح على تسمية مثل هذا تأويلًا أو تسميته بأي شيء آخر فغير مؤثر ما دام أنه مجرد اصطلاح، فلا إشكال مع ذات المصطلح، إنما الإشكال في تفسير الآية به، حيث يفسرون به التأويل في القرآن ويزعمون أنه هو المراد به (2). وإن كان ثم إشكال مع هذا الاصطلاح عند بعض أهل العلم الذين ينفون المجاز من جهة أنهم لا يرون أن ثم معنى حقيقيًا سابقًا قد تُرك لوجود مرجّح نقل المعنى إلى المعنى المجازي، والخلاف على هذه الجهة خلاف لفظي. 

فالتأويل بهذا المعنى يكشف لنا عن قواعد أربع: 

الأولى: الإيمان بوجود معنى واضح من النص الشرعي
الثانية: الإيمان بأن هذا المعنى يؤخذ من دلالة النص وسياقه
الثالثة: الإيمان بأنه لا يجوز العدول عن ظاهر هذا النص إلا بدليل أقوى منه، فهو يبحث عن مراد النص، فحين يجد دليلًا أقوى منه ينتقل إليه، فهذا بحث عن الدلالة الأرجح للنص، فهو ترجيح لمعنى النص بناء على نصوص آخر، فهو من قبيل تفسير النصوص بعضها ببعض.
الرابعة: الإيمان بأن الاتجاه للمعنى غير الظاهر لا يكون إلا بعد اجتهاد ونظر في الدليل، ذلك:

حين نقرأ هذه المعطيات الأربع نجد أن التأويل بهذا المعنى صحيح ولا إشكال فيه، وحين يلتزم المسلم به فسيكون متبعًا للنص الشرعي، إنما يأتي الإشكال حين تأتي الانحرافات التي تعبث بمسيرة الاهتداء والاقتفاء للنص، فيحرف التأويل ليبتعد عن مسار الكشف عن مراد النص ومعرفة مقصوده إلى تفسير النص بما يخالف ظاهره اعتمادا على أمور خارجية عنه بلا دليل صحيح.. إذا كان التأويل بهذا المعنى لا إشكال فيه، فأين الإشكال؟

أين الإشكال في التأويل؟

الإشكال في سبب العدول، لماذا يعدل عن ظاهر النص؟ وما الدليل الأقوى حتى يعدل به عن ظاهر النص؟

هنا تأتي الانحرافات الكلامية، فتجعل من معتقداتها السابقة وأصولها الفكرية المنحرفة عذرًا لها في تأويل كل ما يخالف النص، فالحقيقة أن المنطلق لم يكن من النص، وإنما جاء من خارجه، فهو يعدل عن ظاهر النص لأنه يرفض هذا الظاهر مسبقًا، فيعدل عنه إلى معتقده السابق، الذي يراه الأرجح دليلًا.

وقد كان الإمام ابن القيم بصيرًا بأحوال هذه الفرق جيدًا حين وصف منهج التأويل لديهم قائلًا

"وحقيقة الأمر أن كل طائفة تتأول كل ما يخالف نحلتها وأصلها، فالمعيار عندهم فيما يتأول وما لا يتأول هو المذهب الذي ذهبت إليه، فما وافقها أقروه ولم يتأولوه وما خالفها تأولوه"(3)

وقبله قال شيخ الإسلام:

"ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع كلّ فريق لأنفسهم قانونًا فيما جاءت به الأنبياء من عند الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه هو ما ظنّوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعًا له، فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفهم لم يتبعوه"(4)

التأويلات المخالفة لمنهج التسليم

وهذا التقرير ينطبق على كافة التأويلات التي عرفها التراث الإسلامي قديمًا؛ كالتأويل الباطني والتأويل الفلسفي والتأويل الكلامي والتأويل الصوفي، فهذه التأويلات التي تحرف مفهوم النص وتحاكم النصوص لمقدمات فكرية مسبقة هي مناهج مخالفة لمنهج التسليم لله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، ولا تستقيم مع وجوب الانقياد لكلام الله وكلام رسوله، صلى الله عليه وسلم، وذلك:

أولًا: لأنها مخالفة لمدلول النص الشرعي، فالواجب هو اتباع ما دلّ عليه الشارع، ولا يعرف ذلك إلا من خلال اللفظ الصحيح والصريح، فحين لا يكون اللفظ دالا على مقصود الشارع وإنما يبحث عن باطن خفي أو معنى آخر لا يدل عليه اللفظ؛ بل واللفظ ينافيه ويرفضه فهذا إلى التدليس والتلبيس أقرب منه إلى النور والبرهان، فإن المتكلم "لا يجوز أن يعني بكلامه خلاف ظاهره مطلقًا، ولا يدل عليه دليل خلافًا للمرجئة؛ لأن اللفظ بالنسبة إلى غير ظاهره لا يدل عليه فهو كالمهمل والخطاب بالمهمل باطل"(5)

فالأصل هو اتباع ظاهر الكلام، وكل من يخرج عن الظاهر، فيجب عليه أمور:

1- بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي يذكره في ذلك التركيب، ولا يكفي أن يكون مجرد اللفظ يدل في اللغة على معنى ما؛ بل لا بد من كون التركيب بكامله يدلّ على هذا المعنى؛ لأن ثم ألفاظًا لها دلالات في اللغة مختلفة لكن السياق يحدد المراد، فلا يكفي أن يأتي بدلائل للفظة ما حتى يأتي بأن هذه الدلائل تأتي على ذات السياق.

2- بيان أن المراد هو المعنى الذي ذكره فلا بد من وجود دليل يثبت ذلك.

3- إثبات الدليل الصارف عن إرادة المعنى الأساسي.

4- الجواب عن المعارض (6)

وهذه الشروط التي ذكرها ابن القيم شروط ظاهرة مستمدة من قاعدة أن الأصل هو التسليم لدلالة ظاهر النص، فهو أصل قطعي، وحتى يستقيم العدول عن هذا الأصل لا بد من مثل هذه المقدمات العقلية.

فليس كلّ تأويل باطلًا، وإنما الباطل التأويل الذي ينحرف بالآية عن مقصودها، ويتجه به لخلاف ظاهرها بغير منهج صحيح، أما حين تجتمع شروط التأويل فيكون المحل قابلًا للتأويل ومحتملًا له، ودلالة تركيب الكلام والسياق تدل عليه، وقام الدليل على هذا المعنى فهذا تأويل صحيح (7)

ثانيًا: أن ثم لوازم شنيعة للأخذ بهذه المناهج التأويلية "منها: أن يكون الله سبحانه قد أنزل في كتابه وسنّة نبيه، صلى الله عليه وسلم، من هذه الألفاظ ما يضلهم ظاهره ويوفعهم في التشبيه والتمثيل:

ومنها: أن يكون قد ترك بيان الحق والصواب ولم يفصح به بل رمز إليه رمزًا وألغزه إلغازًا لا يفهم منه ذلك إلا بعد الجهد الجهيد.
ومنها: أن يكون قد كلف عباده أن لا يفهموا من تلك الألفاظ حقائقها وظواهرها، وكلفهم أن يفهموا منها ما لا تدل عليه، ولم يجعل معها قرينة تُفهم ذلك.
ومنها: أن يكون دائمًا متكلمًا في هذا الباب بما ظاهره خلاف الحق بأنواع متنوعة من الخطاب..
 ومنها: أن يكون أفضل الأمة وخير القرون قد أمسكوا من أولهم إلى آخرهم عن قول الحق في هذا النبأ العظيم الذي هو من أهم أصول الإيمان وذلك إما جهل ينافي الحق وإما كتمان ينافي البيان..
ومنها: أنهم التزموا لذلك تجهيل السلف وأنهم كانوا أميين مقبلين على الزهد والعبادة والورع والتسبيح وقيام الليل ولم تكن الحقائق في شأنهم.
ومنها: أن ترك الناس من إنزال هذه النصوص كان أنفع لهم وأقرب إلى الصواب، فإنها ما استفادوا بنزولها غير التعرض للضلال ولم يستفيدوا منها يقينًا ولا علما بما يجب لله ويمتنع عليه" (8)

فمناهج التأويل هذه لا تقوم على قاعدة منهجية مطّردة تضبط فهم النص الشرعي، حتى ولو كانت القاعدة باطلة لكن اطرادها يجعل الانحراف محددًا في جهة معينة، لكنها تقوم على منهج باطل، وغير مطرد، فيفتح به من الشرور ما الله به عليم، ولهذا فالضابط الحقيقي لما يمكن تأويله وما لا يمكن تأويله لا يرجع إلى النص وإنما إلى ذات الشخص المتلقي "ولهذا لما لم يكن لهم قانون قويم وصراط مستقيم في النصوص، لم يوجد أحد منهم يمكنه التفريق بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل والتي لا تحتاج إليه، إلا بما يرجع إلى نفس المتأول المستمع للخطاب، لا بما يرجع إلى نفس المتكلم بالخطاب"(9)

وإذا كان التأويل مذمومًا لكونه يحرف الكلام عن حقيقته ويبحث عن مقصود المتأول لا مقصود النص، فكذلك الجمود الظاهري الذي لا ينظر للعلل ولا يتأمل في مقصاد وحكم التشريع ويكون مقتصرًا على اللفظ فقط هو قصور في التسليم، فكمال التسليم أن تتبع مراد الله، من خلال إدراك وفهم لكلامه وكلام نبيه، صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يكون بمناهج التأويل المبتدعة ولا بالجمود اللفظي الظاهري.

فالظاهرية لا تستحضر مقاصد الشريعة ولا عللها وحِكَمها فيعتريها نقص في فهم مراد الشارع يؤدي إلى خطأ في تنزيل أحكام الشريعة على الواقع مما يجعل الحكم في الواقع لا يكون حسب مراد الله.


الإشارات المرجعية:

  1. انظر: مجموع الفتاوى 653/2 و750/2 و276/13، وانظر مختصر الصواعق المرسلة ص20
  2. انظر كلام شيخ الإسلام عن هذه الجزئية في مجموع الفتاوى 274/13
  3. مختصر الصواعق المرسلة ص32
  4. درء التعارض 73/1
  5. البحر المحيط 460/1
  6. انظر: مختصر الصواعق المرسلة ص46
  7. انظر موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة لسليمان الغصن 798/2
  8. مختصر الصواعق المرسلة ص52
  9. درء التعارض 657/2

المصدر:

  1. فهد بن صالح العجلان، التسليم للنص الشرعي والمعاضرات الفكرية المعاصرة، ص80
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#التأويل
اقرأ أيضا
ليس مثل الصحابة أحد | مرابط
اقتباسات وقطوف

ليس مثل الصحابة أحد


مقتطف بديع للإمام ابن قيم الجوزية من كتابه إعلام الموقعين يتحدث فيه عن مكانة الصحابة وكيف أن الواحد منهم كان يرى الرأي فينزل القرآن مؤيدا له في أكثر من حادثة ويضرب الكثير من الأمثلة على ذلك ثم يسأل بعد ذلك كيف لأحد منا أن يساويهم أو يدانيهم إنهم سادتنا وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيرا من رأينالأنفسنا

بقلم: ابن القيم
1100
هل نهى النبي عن تدوين السنة مطلقا؟ | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات أبحاث

هل نهى النبي عن تدوين السنة مطلقا؟


نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تدوين السنة ليس نهيا مطلقا ولكنه متعلق بعلة علم ذلك من النصوص الصحيحة الأخرى التي أباح فيها النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة وكذلك نهى بعض الصحابة عن التدوين كان لنفس العلة علم ذلك من سماح بعض الناهين عن التدوين بالتدوين في بعض الأحيان التي أمنوا فيها وقوع العلة بل وقيامهم هم أنفسهم بذلك وكذلك من مواقف الصحابة الآخرين الذي كانوا يبيحون التدوين ويحثون عليه.

بقلم: معتز عبد الرحمن
288
بين مسالك الحق والباطل | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين مسالك الحق والباطل


ويوجد من الناس من يؤمن بالحق ظاهرا ﻷنه أول شيء معلوم وارد إليه أو ﻷنه أقوى ظهورا وصوتا من الباطل فإذا أصبح الباطل أقوى صولة وظهورا ينقلب وينتكس إلى الباطل فيظن أنه انتقل من باطل باطن إلى حق باطن والصواب أنه اغتر بالصور المحسنة والمقبحة فانتقل من ظاهر ضعيف إلى ظاهر قوي ولم يهتم بالحقائق ويدقق فيها

بقلم: عبد العزيز الطريفي
280
أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الثاني ج3 | مرابط
تفريغات

أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الثاني ج3


والفتن هي أكثر أشراط الساعة ورودا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق سواء على وجه الإفراد أو على سبيل الإجمال وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان أشراط الساعة على سبيل الإجمال فمنها ما جاء في حديث عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم فتنة لا تدع بيتا من بيوت العرب إلا دخلته يعني: أنها جاوزت الطرقات إلى بيوت الناس وتخصيص العرب بمعنى أنها اقتحمت العرب مع شدة احترازهم وانتقلت من غيرهم إليهم

بقلم: عبد العزيز الطريفي
697
دلالة آيات العتاب على مصدرية القرآن | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

دلالة آيات العتاب على مصدرية القرآن


آيات العتاب الواردة في القرآن الكريم وتحليلها يثبت بشكل قاطع أن القرآن الكريم ليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم كما ادعى أولياء الشيطان وإنما هو وحي من عند الله وفي هذا المقال المقتطف للأستاذ محمد عبد الله دراز تحليل وتفصيل لآيات العتاب ودلالتها على مصدرية القرآن

بقلم: محمد عبد الله دراز
2342
مصدر تفسير القرآن | مرابط
تعزيز اليقين

مصدر تفسير القرآن


وكل ما استقر عليه فهم الصدر الأول من القرآن فهو مراد الله فيه لأن الله أنزله بلسانهم ليفهموه ولا يسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- معنى باطل استقر في نفوسهم فهذا يخالف مقتضى الرسالة والله مطلع على ما في نفوسهم من فهم.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
253