الشعر الجاهلي واللغة ج1

الشعر الجاهلي واللغة ج1 | مرابط

الكاتب: محمد الخضر حسين

732 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الشعر الجاهلي لا يمثل اللغة العربية

ذكر المؤلف في طالع هذا الفصل أن هناك شيئًا يمنعه من التسليم بصحة الكثرة المطلقة من الشعر الجاهلي، وأن هذا الشيء أبلغ في إثبات ما يذهب إليه. ثم قال: إن هذا الشعر الذي لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهليين بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه، وخرج إلى تعريف اللغة بمعناها المتردد على آذان المبتدئين من طلابها، ثم عاد فقال في ص٢٤: «إن هذا الشعر الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية، ولنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي، أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قيل فيه.»

لعلك تقرأ هذه الفقرة فيقع في ظنك أن المؤلف سيتعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي، وسيقف بك على جلية أمرها حتى تعرف ما إذا كانت في العصر الذي تزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه، حتى إذا قايستها باللغة الأدبية المستعملة في صدر الإسلام ظهرت لك مميزات هذه عن تلك. والواقع أنك تقرأ هذا الفصل الموضوع في نحو ست صفحات فتجده لم يتعرف اللغة الجاهلية، ولا يستطيع أن يتعرفها، وقصارى ما فعل أن قال لك ما سمع الناس يقولون من أن البحث الحديث أثبت خلافًا قويًّا بين لغة حمير ولغة عدنان، وحكى قول أبي عمرو بن العلاء: ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا. ثم نكث يده من البحث ومدها إلى «ذيل مقالة في الإسلام» وقبض قبضة من أقواله المصطنعة لدعاية غير إسلامية وبثها في هذا الفصل بزعم أن لها صلة بهذا النحو الجديد من البحث، وبعد أن صحا من نشوة الطعن والغمز تذكر أن الفصل معقود لبحث «الشعر الجاهلي واللغة» فألقى كلمة سلبية زعم أنها نتيجة البحث وهي أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحًا، ثم رجع إلى ما سمعه عن البحث الحديث وشهادة أبي عمرو بن العلاء وأعادهما عليك تارة أخرى.

فلم يتعرف المؤلف اللغة الجاهلية هذه ما هي كما زعم، ولا ماذا كانت في العصر الجاهلي، ولم يسمع طالب الآداب بالجامعة إلا أن أبا عمرو بن العلاء والبحث الجديد قالا: إن بين اللغتين اختلافًا، وكان الأليق بقوله: «ولنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي.» أن يعرف أمثلة من مميزاتها ويضرب تلك الأمثلة في هذا الفصل حتى يخلص طلاب الجامعة من تقليده، فإن طلاب الجامعات أرفع شأنًا من أن يعوَّدوا على سيرة التلميذ الذي يثق بكل ما ينطق به لسان محدثه ثقة عمياء.

ذكر المؤلف أن الرواة يذهبون إلى أن العرب ينقسمون إلى قحطانية وعدنانية ثم قال في ص٢٥: «وهم متفقون على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله فطروا على العربية فهم العاربة، وعلى أن العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتسابًا.»

لم يتفق الرواة على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله، فمن الرواة من يجعل شأنهم شأن العدنانية، وهم الذين يذهبون إلى أنهم من ولد إسماعيل عليه السلام، وممن ذكر الخلاف ابن حزم في كتاب الجمهرة فقال: «فعدنان من ولد إسماعيل بلا شك في ذلك إلا أن تسمية الآباء بينه وبين إسماعيل قد جهلت، وتكلم قوم بما لا يصح فلم نتعرض لما لا يقين فيه، وأما قحطان فمختلف فيه ولد من هو؟ فقوم قالوا: من ولد إسماعيل عليه السلام، وهذا باطل بلا شك … فصح بهذا أن من العرب من ليس من ولد إسماعيل.»

وقال عماد الدين بن كثير في تاريخه: «وقيل: إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل عليه السلام، والصحيح المشهور أن العرب العاربة قبل إسماعيل.»

ومن الرواة القائلين بأن قحطان من ولد إسماعيل الزبير بن بكار، ففي فتح الباري للحافظ ابن حجر:(1) «وزعم الزبير بن بكار أن قحطان من ذرية إسماعيل.»
ومن هؤلاء الرواة ابن الكلبي قال المبرد في كتاب نسب عدنان وقحطان: «ونسب ابن الكلبي قحطان إلى إسماعيل عليه السلام.»

ومن الرواة من يجعل يعرب بن قحطان كإسماعيل عليه السلام، انتقل لسانه من السريانية إلى العربية، ففي مادة «برع» من كتاب الجمهرة لابن دريد: «وسمي يعرب بن قحطان؛ لأنه أول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية.»

وقال ابن خلدون في تاريخه:(2) «وليس بين الناس خلاف في أن قحطان أبو اليمن كلهم، ويقال: إنه أول من تكلم بالعربية، ومعناه من أهل هذا الجيل الذين هم العرب المستعربة، اليمنية، وإلا فقد كان للعرب جيل آخر وهم العرب العاربة، ومنهم تعلم قحطان تلك اللغة العربية ضرورة، ولا يمكن أن يتكلم بها من ذات نفسه.»
وإذا كان من الرواة من يذهب إلى أن القحطانية كالعدنانية من ولد إسماعيل ومنهم من يقول: إن يعرب بن قحطان أول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية، ومنهم من يقول: إن أول من تكلم بالعربية قحطان نفسه، فأين اتفاقهم على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله؟!

 

لغة إسماعيل بن إبراهيم

قال المؤلف في ص٢٥: «وهم يروون حديثًا يتخذونه أساسًا لكل هذه النظرية، خلاصته: أن أول من تكلم بالعربية ونسي لغة أبيه إسماعيل بن إبراهيم.»

هذا الخبر رواه ابن سلام الجمحي في طبقات الشعراء مع التردد في أن راويه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم لا. وأول ما يخطر بالبال أن مراد المؤلف من النظرية التي اتخذوا هذا الخبر أساسًا لها، قوله فيما يعزوه إلى الرواة: «إن العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتسابًا، كانوا يتكلمون لغة أخرى هي العبرانية أو الكلدانية، ثم تعلموا لغة العرب فمحيت لغتهم الأولى من صدورهم، وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة.»

وأنت قد قرأت هذا الخبر المروي في طبقات الشعراء وهو لا يدل إلا على أن إسماعيل نسي لغة أبيه إبراهيم، ومقتضاه أن العدنانية الذين هم من ذريته قد خلقوا ينطقون بالعربية وليسوا هم الذين «محيت لغتهم الأولى من صدورهم وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة».

فإن قال المؤلف في تأويل حديثه: إن هذا من قبيل وصف القبائل بما جرى لآبائهم، قلنا له: أنت إذن تريد من النظرية التي جعلت هذا الخبر أساسًا لها، أن إسماعيل عليه السلام عرف من لغة العرب ما لم يكن يعرف، فنشأ أبناؤه العدنانيون على النطق باللغة العربية، ولكونهم نبتوا من أصل غير عربي سموا مستعربة.

وتنحل هذه النظرية إلى أن نسب العدنانية متصل بإسماعيل، وأن إسماعيل أول من تكلم بالعربية من آبائهم، والشطر الأول من النظرية قائم على أساس أوثق من هذا الخبر الذي لا يعرفه المحدثون، وهو مجموع الآيات والأحاديث أو ما استفاض على ألسنة العرب قبل الإسلام. أما الشطر الثاني منها وهو أن إسماعيل أول من تكلم بالعربية فهو جارٍ على طبيعة اتصاله بقبيلة عربية وإقامته بين ظهرانيهم، ومن الأحاديث الواردة في هذا المعنى(3) حديث: «أول من فتق لسانه بالعربية المُبينة إسماعيل.» والمراد بالعربية المبينة هذه اللهجة الفصحى التي نزل بها القرآن لا اللغة العربية. ومتى صح الحديث لم يمانع من أن تكون هذه اللغة المبينة تمشت بعد عهد إسماعيل على سنة الرقي واتسعت حسب تجدد المعاني واختلاف الأذواق فيما تستحسنه من صوغ الجمل وابتداع الأساليب.
 

العرب المستعربة

قال المؤلف في ص٢٥: «على هذا كله يتفق الرواة، ولكنهم يتفقون على شيء آخر أيضًا أثبته البحث الحديث، وهو أن هناك خلافًا قويًّا بين لغة حمير (وهي العرب العاربة) ولغة عدنان (وهي العرب المستعربة) وقد رُوي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا.»

أخذ المؤلف يذكر الشاهد الأقوى على اصطناع الشعر الجاهلي، وهو أن اللغة القحطانية غير اللغة العدنانية، والشعر المنسوب إلى بعض شعراء اليمن لا يختلف عن شعر العدنانية، وهذا مما استشهد به مرغليوث قبله، وأكاد أثق بأن المؤلف استعاره منه، قال مرغليوث في مقاله المنشور في مجلة الجامعة الآسيوية: «هنا دليل لغوي واضح من هذه الأشعار وهو أنها كلها مكتوبة بلهجة القرآن.» وقال: «إذا فرضنا أن الإسلام أرغم قبائل جزيرة العرب على توحيد لغتهم بتقديمه مثالًا أدبيًّا لا يقبل الجدل في جودته وعلو شأنه وهو القرآن، فمن الصعب اعتقاد أن يوجد قبل هذا العامل الحيوي لغة عامة لقبائل الجزيرة تختلف عن لغات المخطوطات الأثرية، إن لهجة كل قبيلة تمتاز بمفرداتها ونحوها، وإننا لنجد جميع المخطوطات في هذه الأنحاء مرسومة بلغة أخرى غير لغة القرآن.»

لا ننازع فيما دلت عليه الآثار المخطوطة من أن اللغة القحطانية كانت كلغة أجنبية عن العدنانية، كما أن مرغليوث والمؤلف لا ينازعان في أن اللغتين اشتد الاتصال بينهما بعد ظهور الإسلام وأصبحتا كلغة واحدة. والذي نراه قابلًا لأن يكون موضع جدال بيننا وبين مرغليوث والمؤلف هو حال الاختلاف بين اللغتين في عهد يتقدم ظهور الإسلام بعشرات من السنين، فنحن لا نرى ما يقف أمامنا إذا قلنا: إن الاختلاف بين اللغتين قد خف لذلك العهد وزال منه جانب من الفوارق ولم تبق القحطانية من العدنانية بمكان بعيد.

والذي جعل اعتقادنا يدنو من هذه النظرية وهي خافضة جناحها أن قبول اللغة القحطانية لأن تتحد مع اللغة العدنانية بعد ظهور الإسلام لا يكون إلا عن تقارب وتشابه هيأهما لأن يكونا لغة واحدة، فإن انقلاب لغة إلى أخرى تخالفها في مفرداتها وقواعد نحوها وصرفها ليس بالأمر الميسور حتى يمكن حصوله في عشرات قليلة من السنين.

يقولون: إن بعض هذه المخطوطات كان من آثار المائة الخامسة بعد المسيح، وهذا لا يخدش فيما نراه قريبًا، بل لا يقف في سبيلنا أن يكون هؤلاء المنقبون قد عثروا على أثر مخطوط في أواسط المائة السادسة بعد المسيح، فاللغتان كانتا في تباعد، والشواهد قائمة على أنهما قد أخذتا في التقارب من قبل أن يطلع في أفقهما كوكب الإسلام. ومن السهل علينا أن نفهم أن تقرب اللغة القحطانية من اللغة العدنانية لم تبتدئ به قبائلها في عهد واحد، بل سبقت إليه القبائل المجاورة للعدنانية ثم أخذ يتدرج فيما وراءها من القبائل رويدًا رويدًا إلى أن أدركها الإسلام فخطا بها تلك الخطوة الكبرى، فالوقوف على أثر مخطوط قبل الإسلام بنحو مائة سنة أو ما دونها إنما يدل على أن سكان الناحية التي انطوت على هذا الأثر لم يزالوا على لسان حمير القديم، وهذا لا ينفي أن يكون غيرها من القبائل القحطانية قد ارتاضت ألسنتهم بلغة تشبه اللغة العدنانية في نحوها وصرفها وتختلف عنها في قسم من الألفاظ المفردة أسماء أو أفعالًا.

ومن الممكن القريب أيضًا أن يكون أهل المكان الذي عثر فيه على هذه المخطوطات الأثرية ينطقون باللغة القريبة من اللغة العدنانية، ولكنهم استمروا في الكتابة على لغتهم التي كانت اللسان الرسمي لسياستهم أو ديانتهم، وقد حكى التاريخ لهذا الوجه نظائر تسمو به إلى درجة القبول. فاللغة البابلية تفرعت إلى عدة لغات من بينها اللغة الآرامية، وبقيت مع هذا الاختلاف لغة الكتابة إلى أن قامت اللغة الآرامية مقامها في السياسة والتجارة. وكذلك يقول جرجي زيدان في الحديث عن الأنباط: «أما لسانهم الذي كانوا يتفاهمون به فإنه عربي مثل أسمائهم، ولا عبرة بما وجدوه منقوشًا على آثارهم باللغة الآرامية فإنها لغة الكتابة في ذلك العهد مثل اللغة الفصحى في أيامنا، وذلك كان شأن الدول القديمة بالشرق ولا سيما فيما يتعلق بالآثار الدينية أو السياسية.»(4)
ومما يلائم هذا البحث أنك تجد في السيرة النبوية أمثلة من أقوال زعماء اليمانيين الوافدين على النبي صلى الله عليه وسلم فتراها قريبة من اللغة العدنانية أو مماثلة لها من جهة قواعد الصرف والنحو، ولا أريد بأقوال هؤلاء الزعماء ما يحكيه المؤرخ بقصد إفادة معانيه كما يحكي لك كلامًا أعجميًّا بلفظ عربي مبين، بل أريد بها ما يحكيه الرواة قصدًا إلى بيان لهجتهم وأسلوب حديثهم.

ومن هذه الأمثلة خطبة طهفة بن أبي زهير(5) النهدي حين وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وقال يشكو إليه الجدب: «يا رسول الله أتيناك من غوري تهامة بأكوار الميس،(6) ترتمي بنا العيس، نستحلب الصبير،(7) ونستخلب الخبير،(8) ونستعضد البرير،(9) ونستخيل الرهام،(10) ونستحيل(11) الجهام من أرض غائلة النطاء،(12) غليظة الوطاء، قد نشف المدهن،(13) ويبس الجعثن،(14) وسقط الأملوج،(15) ومات العسلوج،(16) وهلك الهدي،(17) ومات الودي،(18) برئنا إليك يا رسول الله من الوثن والعنن(19) وما يحدث الزمن، لنا دعوة الإسلام وشرائع الإسلام ما طما البحر وقام تعار،(20) ولنا نعم همل أغفال ما تبل ببلال، ووقير(21) كثير الرَّسل(22) قليل الرِّسْل،(23) أصابتها سنة حمراء مؤزلة(24) ليس لها علل ولا نهل.»
وتجد خطاب مالك بن نمط الهمداني يجري على هذا النحو، ويروي أصحاب الحديث والسيرة أيضًا بعض كتب كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث بها إلى نواحي اليمن مصوغة في مثال كلامهم، وهي لا تكاد تخرج عن نمط هذه الخطبة المضروبة مثلًا. وقد يسوق علماء اللغة شذرًا من هذه الأحاديث، كما حكى الأزهري في كتاب التهذيب عن وائل بن حجر أنه قال: كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا جلب ولا جنب ولا وراط، ومن أجبى فقد أربى.»

ومما يلفت نظرك أن لغة القبائل اليمانية أخذت تتصل باللغة العدنانية قبل عامل الإسلام أنك تطالع تاريخ العهد المتصل بالإسلام أو الأيام التي جعلت القبائل اليمنية تفد على مقام النبوة، فتفهم من روح التاريخ على اختلاف مصادره وتباين طرقه أن العدنانيين والقحطانيين لم يكونوا في حاجة عندما يتحاورون إلى مترجم ينقل حديث أحدهما إلى الآخر، ولو كانت اللغتان مختلفتين في المفردات وقواعد النحو والصرف لم يسهل على العدناني أو القحطاني فهم لغة الآخر إلا أن يأخذها بتعلم أو مخالطة غير قليلة.

وأما ما حكاه المؤلف عن أبي عمرو بن العلاء فقد مسه بالتحريف مسًّا رفيقًا، وعبارة أبي عمرو الواردة في كتاب الطبقات للجمحي: «ما لسان حمير وأقاصي اليمن لساننا ولا عربيتهم بعربيتنا.» فالمؤلف حول قوله: «ولا عربيتهم بعربيتنا.» إلى قوله: «وما لغتهم بلغتنا.» لقصد المبالغة في الفصل بين اللغتين وليصرف ذهن القارئ عن أن يفهم من قول أبي عمرو: «ولا عربيتهم بعربيتنا.» أن تلك اللغة عربية وإنما تختلف عن العدنانية اختلافًا يسوغ له أن يقول: «وما لسان حمير وأقاصي اليمن لساننا.» ومس المؤلف عبارة أبي عمرو بالتحريف مرة أخرى، فقد حذف قوله: «أقاصي اليمن.» حتى لا يأخذ منها القراء أن لغة غير الأقاصي وهي القبائل المجاورة للقبائل المضرية ليس بين عربيتها وعربية مضر هذا الاختلاف.

وصفوة المقال في هذا البحث أن اللغة القحطانية تقربت من اللغة العدنانية في عهد قبل الإسلام وصارت تحاذيها في أكثر مفرداتها وقواعد نحوها وصرفها، ولنا في شعر القحطانيين نظرة أخرى سنلقيها إليك في أمد قريب.

 

لغتان متمايزتان؟

قال المؤلف في ص٢٥: «إذا كان أبناء إسماعيل قد تعلموا العربية من أولئك العرب الذين نسميهم العاربة، فكيف بعد ما بين اللغة التي كان يصطنعها العرب العاربة واللغة التي كان يصطنعها العرب المستعربة، حتى استطاع أبو عمرو بن العلاء أن يقول: إنهما لغتان متمايزتان، واستطاع العلماء المحدثون أن يثبتوا هذا التمايز بالأدلة التي لا تقبل شكًّا ولا جدلًا.»

انقاد المؤلف إلى هذه الشبهة بما ادعاه سابقًا من اتفاق الرواة على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله، ثم بتخيله أن اللغة العربية ذات لون واحد لا يمكنها أن تخرج في هيئات متقاربة أو متباعدة، وهو في كلا الأمرين بعيد عن التحقيق. أما الأول فإن كثيرًا من الرواة يذهبون إلى أن القحطانية تنتمي إلى أصل غير عربي، ومن هؤلاء من يسميهم المتعربة، ومنهم من يسميهم المستعربة. ويعلل هذه التسمية بأنهم صاروا إلى حال لم يكن عليه أهل نسبهم وهي اللغة العربية.(25)
وأما الثاني فإنا لا ندعي أن طور اللغة العربية لأوائل عهد القحطانية هو طورها الذي تعرف به ألسنة العدنانية، فقد تكون هذه اللغة لعهد العرب البائدة وللعهد الأول للقحطانية لا تزال في طورها الذي يمكن أن تتشعب به إلى لغتين ذات فوارق في نحوها وصرفها، وإلى لهجات لا تختلف إلا بمفرداتها وكيفية النطق ببعض حروفها، وليس في البحث الحديث ما يمنع أن تكون اللغة القحطانية شعبة من شعب العربية الأولى، وليس في البحث الحديث ما يمنع من أن تأخذ اللغة العربية في ألسنة العدنانية شأنًا أرقى وأبين من شأنها في ألسنة القحطانية، فمن الممكن الميسور أن يتلقن إسماعيل عليه السلام من قبيلة قحطانية اللغة العربية التي لا تزال قابلة للتشعب إلى لغات ولهجات ثم تأخذ في ألسنة أبنائه العدنانيين هيئة غير هيئتها القحطانية.

 

اتصال نسب العدنانية بإسماعيل بن إبراهيم

قال المؤلف في ص٢٦: «والأمر لا يقف عند هذا الحد فواضح جدًّا لكل من له إلمام بالبحث التاريخي عامة وبدرس الأساطير والأقاصيص خاصة أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية.»

في استطاعة كل أحد أن يأتي إلى أي واقعة يقصها التاريخ ويتلو عليها هذه الكلمات لا ينقص منها حرفًا، فيدعي أنه ملم بالبحث التاريخي عامة وبالأساطير خاصة، ثم يشير إلى الواقعة بأنها نظرية متكلفة مصطنعة، ويذهب في تعليل تكلفها واصطناعها ما شاء، ولكن باحثًا غير المؤلف يقدر واجبات البحث العلمي ونتائجه، فلا تجده يمس واقعة بتهمة الاصطناع إلا بعد أن يملأ يده بالدليل الطاعن في صحتها.

يريد المؤلف من النظرية المتكلفة المصطنعة مسألة اتصال نسب العدنانية بإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقد أخذ من هنا يتحفز ليعلن الطعن في القرآن بكلام استرق سمعه من «ذيل مقالة في الإسلام».

 

التوراة والقرآن

قال المؤلف في ص٢٦: «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلًا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة.»

ورود اسمي إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في القرآن يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، وإخباره عنهما بأمر يكفي للدلالة على وقوعه، وهو بالطبيعة يكفي هذه الأمم التي خالط قلوبها الإيمان بأن الرسول المؤيد بالآيات البينات لا يقول على الله إلا الحق، أما الذين لم يبصروا بدلائل نبوته، ولم يقلبوا وجوههم في سيرته، فليس من شأنهم الاكتفاء بخبر القرآن ولا أن يدلهم ورود اسم شخص فيه على وجوده التاريخي، فلم يكن لهذه الكلمة المستعارة من «ذيل مقالة في الإسلام» وجه يشفع لورودها في هذا النسق، فإن المسلمين حقًّا يزدرونها، وغير المسلمين لا ينتفعون بها، ولا نرى لها من شأن غير إغواء النفوس التي لم تبلغ في إدراك الحقائق أشدها.

قصة إسماعيل وإبراهيم كانت تدور بين العرب أيام جاهليتهم، ثم ساقها القرآن على وجه محكم وبيان ساطع، ومن حاول الجهر بإنكار ما تتداول نقله أمة ويقرره كتاب تدين بصدقه أمم، كان حقًّا عليه أن يسلك مسلك ناقدي التاريخ فيبين للناس كيف كان نبأ الواقعة مخالفًا للمعقول أو المحسوس أو التاريخ الثابت الصحيح، ولكن المؤلف لم يسلك في إنكار هذه القصة طريقة نقد التاريخ، فيحدثنا لماذا لم يسعها عقله أو كيف وقع حسه على ما يبطلها، أو من أين سمع أن مؤرخًا قبل صاحب «ذيل مقالة في الإسلام» قال ما يناقضها. إذن لم يكن مع المؤلف سوى عاطفة غير إسلامية تزوجت تقليدًا لا يرى فحملت بهذا البحث وولدته على غير مثال.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. ج٦، ص٣٤٦.
  2. ج٢، ص٤٦.
  3. أخرجه الطبراني، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن.
  4. العرب قبل الإسلام ص٧٩.
  5. منسوب إلى نهد قبيلة باليمن.
  6. شجر صلب يعمل منه رحال الإبل.
  7. السحاب.
  8. العشب، واستخلابه احتشاشه بالمخلب؛ أي: المنجل.
  9. ثمر الأراك.
  10. الأمطار الضعيفة؛ أي: نتخيل الماء في السحاب القليل.
  11. السحاب الذي فرغ ماؤه، والمعنى لا ننظر إلى السحاب في حال إلا إلى جهام.
  12. البعد.
  13. الغدير.
  14. أصل النبات.
  15. ورق الشجر.
  16. الغصن.
  17. ما يُهدَى إلى الحرم من النعم ثم أطلق على الإبل وإن لم تكن هديًا.
  18. فسيل النحل.
  19. الباطل.
  20. اسم جبل.
  21. القطيع من الغنم.
  22. التفرق.
  23. اللبن.
  24. آتية بالأزل؛ أي: القحط.
  25. تاريخ ابن خلدون ج٢، ص٤٦.
  26. ص٨.
  27. ص١٦٤.

 

المصدر:

محمد الخضر حسين، نقض كتاب في الشعر الجاهلي، ص61

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#طه-حسين #في-الشعر-الجاهلي
اقرأ أيضا
تحرير العقول من التفكير الخاطئ | مرابط
تفريغات

تحرير العقول من التفكير الخاطئ


يعطيك صاحب الفكر المتصلب انطباعا بأن لديه جوابا لكل سؤال والسبب في ذلك أن ممارسته للمشاركة في التحدث قائمة على عدد قليل من المبادئ والمفاهيم الجاهزة والمحددة فهو يحفظها عن ظهر قلب ويسارع إلى استخدامها في محاوراته وليس عنده أي مشكلة نحو الآثار التي تترتب على عدم صوابها إنه موقن بها وليس بحاجة إلى سماع رأي الآخرين فيها

بقلم: د عبد الكريم بكار
543
كيف تتعامل مع الفتور في رمضان؟ | مرابط
مقالات

كيف تتعامل مع الفتور في رمضان؟


لا تسمح للشيطان أن يحايلك أو لنفسك أن تحايلك وتتحاور معك في ترتيب المعصية.. لا تسمح لهما بذلك أبدا. وطريقك لذلك: بأن تضع قاعدة سلوكية يقينية فتعاهد عليها نفسك وتقول: هذا مبدئي وخلقي. والقاعدة هي: لن أعصي الله أبدا حدث نفسك بهذا. وأما الحوار والمحايلة فهو أن يكون في قلبك وخاطرك أخذ ورد تمهيدا وترتيبا للعصيان.

بقلم: خالد بهاء الدين
879
الهيومانية كبديل عن الدين | مرابط
أبحاث

الهيومانية كبديل عن الدين


هل يمكن أن تحل الهيومانية humanism الإنسانية بديلا عن الدين؟ هل يمكن أن يحيا الجنس البشري بلا دين؟ هل يمكن التأسيس للقيمة والمعرفة والغاية والأخلاق في غياب الإله؟ لقد عاش الجنس البشري آلاف السنين تحت تأثير الدين واستطاع الدين أن يوفر جميع أوجه الحياة الأخلاقية والقانونية والعقائدية وحتى اللغة ومن ثم فمن حقنا أن نتساءل عما إذا كان من الممكن إنتاج جيل ملحد إلحادا كاملا؟

بقلم: د. هيثم طلعت
263
الفائدة في خلق ما يؤذي | مرابط
اقتباسات وقطوف

الفائدة في خلق ما يؤذي


إن قال قائل: أي فائدة في خلق ما يؤذي؟! فالجواب: أنه قد ثبتت حكمة الخالق فإذا خفيت في بعض الأمور وجب التسليم ثم إن المستحسنات في الجملة أنموذج ما أعد من الثواب والمؤذيات أنموذج ما أعد من العقاب وما خلق شيء يضر إلا وفيه منفعة.

بقلم: ابن الجوزي
203
مجتمع ما بعد التحضر | مرابط
اقتباسات وقطوف

مجتمع ما بعد التحضر


يبدو أن بريق كلمة التحضر أو التقدم قد أسر قلوب عامة الناس حتى ظنها الكثيرون من أسمى الأهداف التي من الممكن السعي إليها في الحياة ولكن الحقيقة أن الذي حدث هو العكس وباتت المجتمعات المتحضرة تتراجع إلى الوراء خصوصا في المجال الأخلاقي والإنساني وهذا مقتطف ماتع لمالك بن نبي يشير إلى هذه الإشكالية

بقلم: مالك بن نبي
2170
فن أصول التفسير ج8 | مرابط
تفريغات

فن أصول التفسير ج8


مهما جلسنا نستنبط من آيات الله سبحانه وتعالى ونذكر الفوائد والمسائل المتعلقة بالآيات فإننا يمكن أن نجلس من صلاة العشاء إلى الفجر في سورة واحدة ونحن نستخرج هذه الفوائد والنفائس ولا شك أن هذا مما يدل على عظمة القرآن ومجده لأن الله سبحانه وتعالى وصفه بالمجد فهو مجيد في ألفاظه ومجيد أيضا في معانيه ومجد المعاني أي: أن معانيه متسعة

بقلم: مساعد الطيار
647