الشعر الجاهلي واللغة ج2

الشعر الجاهلي واللغة ج2 | مرابط

الكاتب: محمد الخضر حسين

654 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الصلة بين الإسلام والأديان

قال المؤلف في ص٢٦: «ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى، وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويبثون فيه المستعمرات.»

قلنا لكم: إن يد المؤلف تجول في بعض كتب شرقية فيقطف منها ما يلائم ذوقه ويضعه في كتابه على أنه وليد فكره ونتيجة بحثه، وهذا الحديث مما تعلق فيه المؤلف بذيل «مقالة في الإسلام» وإليك ما قال صاحب الذيل:(26) «وحقيقة الأمر في قصة إسماعيل أنها دسيسة لفقتها قدماء اليهود للعرب تزلفًا إليهم وتذرعًا منهم إلى دفع الروم عن بيت المقدس أو إلى تأسيس مملكة جديدة في بلاد العرب يلجأون إليها، فقالوا لهم: نحن وأنتم إخوة وذرية أب واحد.»

لم يأخذ المؤلف في البحث مأخذ ذي أناة ينظر إلى ما عنده من أدلة أو أمارات أو شبه مثيرة للشك ويفصل العبارة عن مقداره، فصاحب الذيل يقول وحقيقة الأمر في قصة إسماعيل أنها دسيسة لفقتها قدماء اليهود، والمؤلف يقول: ونحن مضطرون إلى أن في هذه القصة نوعًا من الحيلة، وأنت إذا قرأت ما كتبه وفحصته الكلمة بعد الأخرى لم تجد ما لديه ما يساعده على دعوى أنه مضطر إلى الاعتقاد بأن في القصة نوعًا من الحيلة، فهذه القصة تعرض لها القرآن وكان لها ذكر عند العرب قبل نزوله، فالذي يسهل عليه الحكم بكونها دسيسة أو حيلة ويدعي الاضطرار إلى أن يراها حيلة هو الذي يجد في التاريخ الموثوق بصحته، ما يصرح بأن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لم يهاجرا إلى مكة، أو يصرح بأن العرب لم يكونوا ذرية إسماعيل عليه السلام، أو يجد في سياق القصة ما يخالف حسًّا أو عقلًا أو سنة من سنن الله في الخليقة، وكل ذلك لم يكن، وغاية ما فعل المؤلف أنه اجتذب أصل البحث من كتاب الذيل ووقع اختياره على العلة الاستعمارية فتشبث بها وزاد عليها ملاحظة الحروب العنيفة التي شبت بين اليهود والعرب، وجعل أيام تلك الحروب أقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه فكرة وضع القصة. هذا مبلغ علمه من التاريخ، وهذا ما اكتفى به في دعوى اضطراره إلى الاعتقاد بأن في القصة نوعًا من الحيلة، وقد نظر جرجي زيدان في المسألة من وجهتها التاريخية البحتة وتعرض في كتاب العرب قبل الإسلام(27) لما جاء في التوراة والقرآن ثم قال: «وليس لدينا مصادر أخرى تنافي هذه الرواية أو تؤيدها.» وهذه الكلمة أقصى ما يقوله الباحث غير المسلم متى وقف على جانب من الإنصاف، ولكن المؤلف يقصد التشفي من غيظه على دين لا يرضى عن الإباحية المتهتكة.

زعم المؤلف أن اليهود اخترعوا هذه القصة لتأكيد الصلة بينهم وبين العرب ثم قال: إن فيها نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين الإسلام واليهودية، والقرآن والتوراة، ويعني بهذا أن محمدًا عليه الصلاة والسلام اتخذها أيضًا وسيلة إلى عقد الصلة بين الإسلام واليهودية وبين القرآن والتوراة ليأخذ الأمة اليهودية بزمام الاحتيال إلى اعتناق الدين الذي قام يدعو إليه، وهو الإسلام. وسنعرج على هذا الرأي في مناقشة الفقرات الآتية؛ لأن المؤلف أعجب به وطفق يعيده على قراء كتابه مرة بعد أخرى.

 

الحروب بين اليهود والعرب

قال المؤلف في ص٢٦: «فنحن نعلم أن حروبًا عنيفة شبت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد وانتهت إلى شيء من المسالمة والملاينة ونوع من المحالفة والمهادنة. فليس يبعد أن يكون هذا الصلح الذي استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهود أبناء أعمام.»

قد عرفت أن هذا الرأي غنمه المؤلف حين غزا «ذيل مقالة في الإسلام» غير أن صاحب الذيل يقول: إن اليهود قالوا للعرب نحن وأنتم إخوة وذرية أب واحد، وكأن المؤلف لم ترقه هذه العبارة فحولها إلى زعم أنهم قالوا لهم: نحن وأنتم أبناء أعمام.

دخل اليهود البلاد العربية محاربين مستعمرين، وبعد أن ألقت الحرب أوزارها وانعقدت بينهم وبين العرب مسالمة ومحالفة ومهادنة، اصطنعوا هذه القصة التي تجعل العرب واليهود إخوة كما يقول صاحب الذيل، أو أبناء أعمام على ما يقول المؤلف!

يخطر هذا التعليل على قلب من لم يدرس طبائع الأمم عامة وطبيعة الأمة العربية خاصة، أو درسها ولكنه يتغابى عنها في كل حين يدعوه ذوقه وهواه إلى أن يصطنع له حديثًا ولا يجد مندوحة في التغابي عنها أو الانسلاخ منها.

لم يكن العرب في زعم المؤلف أو صاحب الذيل يعرفون الأصل الذي ينتمون إليه حتى حاربهم اليهود أو طمعوا في نجدتهم فاصطنعوا لهم أصلًا ربطوا به قبائلهم وهو إسماعيل أخو إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.

لنقل: إن العرب كانوا يجهلون الأصل الذي ينتمون إليه، وإنهم بلغوا في الغباوة أن تصنع لهم الجالية اليهودية نسبًا فيقبلوه على اختلاف قبائلهم، ولنا أن نتسائل: هل كان هؤلاء العرب يؤمنون بنبوة إبراهيم وإسماعيل قبل اتصالهم بهذه الجالية؟ أم كانوا يسمعون بها ولا يؤمنون؟ أم كانوا لا يسمعون بها ولا يؤمنون.

فإن كانوا يؤمنون بها فالإيمان إنما يكون عن علم شيء من تاريخ حياتهما وأقل واجب في هذا السبيل معرفتهم أين بعثا وأين كان مقامهما، وإذا كانوا يتلقون عن آبائهم حديث إبراهيم وإسماعيل عليها السلام وفرضنا أن إسماعيل لم يكن نزل بمكة ولا عاش بها طول حياته أو أكثرها، فمن الصعب على تلك الجالية أن تعبث بعقول أمة كاملة وتحولها إلى الاعتقاد بغير ما عرفته خلفًا عن سلف دون أن تأتيهم بسلطان مبين.

وإن كانوا يسمعون بنبوتهما ولا يؤمنون، أو لا يسمعون بها ولا يؤمنون، فمن الجلي الواضح أن شرف إبراهيم وإسماعيل وسمعتهما الفاخرة إنما اكتسباها من النبوة، وإذا كان العرب لا يؤمنون بنبوتهما فهم لا يسلمون لهما هذا الشرف حتى يسرعوا إلى قبول ما تزوره لهم الطائفة المستعمرة، فلا بد من أن يضاف إلى حديث الاحتيال أن الجالية اليهودية أقنعتهم بصحة نبوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حتى وثقا بما لهما من شرف المنزلة وسمو القدر، ورأوا أن ربط نسبهم بإسماعيل يزيد في فخرهم ورفعة شأنهم.

وإذا كان في إمكان الجالية اليهودية أن تقنعهم بنبوة إبراهيم وإسماعيل فلماذا لم تقنعهم بما هي أحرص على إقناعهم به وهو نبوة موسى عليه السلام، فتكون بينها وبينهم قرابة دينية وهي أشد صلة وأدعى إلى التآلف والسكينة.

ولا ندري لماذا لم يعد المؤلف هذه الحروب العنيفة أسطورة مع قيام رواية بجانبها تقول: «إن السريانيين واليونان طردوا اليهود من بلادهم فقابلهم بنو إسماعيل بالترحيب، وتهود منهم كثير لما رأوه في كتب اليهود القديمة من التعظيم للإله الذي اهتدى إليه الخليل — عليه السلام — لعبادته.»(1)
 

الخصومة بين الإسلام والوثنية

قال المؤلف في ص٢٧: «ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن ظهور الإسلام وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى أن تثبت الصلة الوثيقة المتينة بين الدين الجديد وبين الديانتين القديمتين: ديانة النصارى واليهود، فأما الصلة الدينية فثابتة واضحة، فبين القرآن والتوراة والأناجيل اشتراك في الموضوع والصورة والغرض، كلها ترمي إلى التوحيد، وتعتمد على أساس واحد هو الذي يشترك فيه الديانات السماوية السامية. لكن هذه الصلة الدينية معنوية عقلية يحسن أن تؤيدها صلة أخرى مادية ملموسة أو كالملموسة بين العرب وأهل الكتاب، فما الذي يمنع أن تستغل هذه القصة قصة القرابة المادية بين العرب العدنانية واليهود.»

يقول المؤلف فيما سلف: إن في القصة نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة، ويقول هنا: إن الخصومة بين الإسلام والوثنية قد اقتضت إثبات صلة بين الدين الجديد والديانتين القديمتين، ثم جعل القصة مستغلة لعقد صلة مادية بين العرب وأهل الكتاب. فالقصة جاءت في القرآن على وجه الحيلة في إثبات الصلة بين الإسلام واليهودية، وجاءت في القرآن لإثبات الصلة بين الدين الجديد وهو الإسلام والديانتين اليهودية والنصرانية، وجاءت في القرآن لإثبات صلة مادية بين العرب وأهل الكتاب.

هكذا يقول المؤلف! ويقول صاحب ذيل مقالة في الإسلام: «ولما ظهر محمد رأى المصلحة في إقرارها فأقرها، وقال العرب: إنه إنما يدعوهم إلى ملة جدهم هذا الذي يعظمونه من غير أن يعرفوه.»

تابع المؤلف صاحب الذيل في زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد أمامه هذه القصة المزورة دائرة على ألسن العرب فابتغاها وسيلة في بث الدعوة إلى هذا الدين الجديد، غير أنهما اختلفا في تصوير الغاية من تقريره لهذه القصة، فصاحب الذيل يزعم أنه أقرها لاستمالة العرب بإراءتهم أنه يدعوهم إلى ملة جدهم الذي يعظمونه بقلوب لم تعرفه، والمؤلف أراد التظاهر بأنه لا يمشي خلف صاحب الذيل في كل رأي فأخذ يتحسس لعله يلمس وجهًا غير وجه صاحب الذيل حتى وقع خاطره على تخيل أن النبي عليه الصلاة والسلام أتى بالقصة في القرآن لاستمالة أهل الكتاب من اليهود والنصارى حيث اشتدت الخصومة بينه وبين الوثنيين.

لا يهمنا كثيرًا التنقيب عن مصادر الآراء، والخوض في أن المؤلف اعتصرها بفكره أو تناولها على حين غفلة أو موت من أهلها، والذي يعنينا كثيرًا إنما هو نقد الآراء نفسها حتى ينجلي أمرها ويمتاز حقها من باطلها.

تعرضت التوراة لذكر إسماعيل عليه السلام ولم تأت على أبوته للعرب بصراحة، وإنما جاء فيها خطابًا لإبراهيم عليه السلام: «وأما إسماعيل فإني أجعله أمة؛ لأنه نسلك.» وجاء في حديثها عنه: «وسكن في برية فاران.» وفاران جبال بالحجاز، قال المرتضى في شرح القاموس: وإليها ينسب أبو الفضل بكر بن قاسم الفاراني المتوفى سنة ٢٧٧ وفرج بن سهل الفاراني المتوفى سنة ٢٣٨. وغير العرب يقولون إنها برية أو جبل عند العقبة في جزيرة سيناء. وقد سلك جرجي زيدان مسلك التوفيق بين القولين فقال في تاريخ العرب قبل الإسلام: «ويسهل تطبيق الروايتين متى علمنا أن جبال مكة أو جبال الحجاز تسمى أيضًا «فاران»، فيكون المراد أن البرية التي أقام فيها إسماعيل برية الحجاز أو أنه أقام حينًا في سينا ثم خرج إلى الحجاز وسكن هناك وتزوج.»(2)

وذكرت التوراة أن إسماعيل حضر لدفن أبيه إبراهيم عليه السلام فقالت: «ودفنه إسحاق وإسماعيل ابناه في مغارة المكفيلة.» وليس في هذا ما يعترض قصة هجرته ونزوله بمكة؛ لأن التوراة كما قال جرجي زيدان: «لم تذكر إسماعيل بعد خروجه من بيت أبيه إلا عند حضوره دفنه على عادتها من الاختصار فيما يخرج عن تاريخ أمة اليهود أو ديانتها.»(3)

وإذا لم يوجد في المنقول ما ينفي هجرة إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز تبيَّنَّا أن المؤلف إنما دخل لإنكار القصة عن طريق العاطفة المضادة للإسلام وحدها، ولم يزد على أن غمرها بالإنكار وادعاء أن اليهود اصطنعتها للعرب، ولم يزد على أن اتهم صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم باستغلالها واتخاذها حيلة لتأليف أهل الكتاب.

فحديث المؤلف عن هذه القصة يرجع إلى معنى أن اليهود اصطنعوها احتيالًا على العرب، وأن الرسول الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أتى بها في القرآن احتيالًا على اليهود، وإذا بُلي المؤلف بإخراج القصة في ألوان من الحيل أفلا يعذر آخر إن قال: إن صبغ المؤلف للقصة بألوان الاحتيال نوع من الاحتيال على عقائد السذج من قراء كتابه أو طلاب دروسه في الجامعة!

أيحتال أطيب البرِيَّة سريرة وأبهرهم حجة على اليهود بقصة خرجت من مصنع تزويرهم! كلَّا، إن القرآن ليدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، وليست القصة المزورة من الحكمة في شيء، وليس في القصة المزورة موعظة حسنة، ومن يتلو القرآن بتدبر وينظر السيرة النبوية في مرآتها الصادقة، يعلم أن الإسلام بريء من هذا السخف والهزل، وما كان لمثل المؤلف أن يجعل سيرته أو سريرته قياسًا لرسل الله الأكرمين.

نحن نعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد وجد من قومه الذين يشاركونه في آبائه الأقربين صدورًا مطوية على عداء، وألسنة مبسوطة بالكيد والأذى، ووجد من قوم لا يصل نسبهم بإسماعيل ولا بإبراهيم إيمانًا وطاعة وتأييدًا، فلا نستطيع أن نفهم كيف يخطر على باله أن يأتي في القرآن بقصة القرابة بين العرب واليهود احتيالًا على أهل الكتاب، وهي قرابة قديمة العهد بعيدة الأثر، تكاد تشبه القرابة بين العرب وأكثر من في الأرض حيث يتفقان في جد أعلى هو نوح عليه السلام، وليس ببعيد من صاحب هذه الفلسفة الغريبة أن يقول: إن قصة آدم الواردة في القرآن مستغلة لعقد الصلة الوثيقة المتينة بين الدين الجديد والديانات وغير الديانات الكائنة على وجه البسيطة؛ لأن في القصة صلة ملموسة أو كالملموسة وهي القرابة بين العرب وسائر البشر!

 

قريش تقبل الأسطورة؟

قال المؤلف في ص٢٧: «وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح. فقد كانت في أول هذا القرن قد انتهت إلى حظ من النهضة السياسية والاقتصادية ضمن لها السعادة في مكة وما حولها وبسط سلطانها المعنوي على جزء غير قليل من البلاد العربية الوثنية، وكان مصدر هذه النهضة وهذا السلطان أمرين: التجارة من جهة، والدين من جهة أخرى.»

رأى المؤلف فيما سلف أن القصة مصنوعة بيد اليهود تأليفًا للعرب يوم عقدوا معهم صلحًا بعد حروب عنيفة، ورأى هنا أن قريشًا مستعدة لقبول هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح، حيث إن نهضتها السياسية الاقتصادية تدعوها إلى البحث عن أصل تاريخي قديم متصل بالأصول التاريخية الماجدة، وزعم أنها لم تجد مانعًا من قبول هذه الأسطورة واستنبط من هذا أن القصة حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام.

فالقصة صنعها اليهود للعرب يوم حروبهم العنيفة تأليفًا لهم! والقصة صنعت قبيل الإسلام يوم قام العرب يبحثون عن أصل تاريخي قديم!

ولم يصرح المؤلف في حديث هذا الرأي بمن لقنها قريشًا فلا ندري هل اصطنعها قريش بأنفسهم أم اصطنعها لهم اليهود المستعمرون مساعدة لأهل دين «يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية!»

عرف المؤلف أن التاريخ طافح بالشواهد على أن لمكة بين بلاد العرب ميزة ظاهرة، ولها في قلوب العرب حرمة بالغة، والناس يرون أن هذه المنزلة المحترمة قد أحرزتها مكة من عهد إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام، فبدا له أن يضع لقصة إسماعيل وإبراهيم عهدًا قريبًا، ورأى نفسه مضطرًا إلى وضع يده على شيء يزعم أنه السبب في اصطناعها، فمكث غير بعيد وجاءك يقول: إن قريشًا كانت في أول القرن السابع للمسيح على حظ من النهضة السياسية الاقتصادية، وزعم أن قصة إسماعيل وإبراهيم وليدة هذه النهضة، ثم انطلق يتحدث عن مصدر نهضة قريش، وانظر ماذا ترى!

 

تجارة قريش

قال المؤلف في ص٢٨: «فأما التجارة فنحن نعلم أن قريشًا كانت تصطنعها في الشام ومصر وبلاد الفرس واليمن وبلاد الحبشة. وأما الدين فهذه الكعبة التي كانت تجتمع حولها قريش ويحج إليها العرب المشركون في كل عام، والتي أخذت تبسط على نفوس هؤلاء المشركين نوعًا من السلطان قويًّا، والتي أخذ هؤلاء العرب المشركون يجعلون منها رمزًا لدين قوي كأنه كان يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية من ناحية والمسيحية من ناحية أخرى.»

ندع المؤلف يسمي ذلك النوع من التجارة كيف يشاء، وننظر فيما يذهب إليه بعدُ من أن الكعبة كانت موضع احترام العرب الوثنيين من قبل أن تصطنع لهم قصة إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام؛ لأنه يجعل سيادة قريش الدينية من مصادر هذه النهضة السياسية، ويجعل النهضة السياسية باعثًا على تلفيق هذه القصة.

فإذا كان العرب المشركون يحجون إلى الكعبة في كل عام، وليس لديهم شعور بقصة إسماعيل وإبراهيم، فما هو الأمر الذي بعث قلوبهم على احترام هذه البنية؟ وما هو السائق لهم إلى أن يؤمُّوا مكة في كل عام رجالًا وركبانًا؟ فسنة الله في الخليقة تقتضي ألَّا يتفق قبائل شتى على احترام بقعة وحط الرحال إليها في كل عام إلا لعامل خطير يكون له هذا الأثر الكبير، ولا بد أن يكون هذا العامل مذكورًا على ألسنة تلك القبائل تتناقله أجيالهم طبقة بعد أخرى.

وإذا أطلقنا البحث في الروايات المحكمة أو الأساطير الملفقة لم نجد بها سوى أن تلك الحرمة التي يحملها العرب لمكة تتصل بعهد إسماعيل وإبراهيم. فمن يدعي أن لتلك الحرمة سببًا آخر فعليه بيانه، وعلينا حسابه. والمؤلف على الرغم من كونه يهاجم بهذا البحث دينًا تفل السيوف القاطعات ولا تُفَلّ حججه، لم يتعرض لسبب إقبال العرب على مكة بالاحترام والتعظيم، ولم يزد على أن ذكر أن قريشًا تجتمع حولها، والعرب المشركون يحجون إليها.

وإذا سلمنا أن الباعث للعرب في القديم على احترام مكة والحج إليها غير قصة إسماعيل وإبراهيم، فما هو العامل القوي الذي استطاع التأثير على عقول تلك القبائل بأسرها حتى تحولت عما كانت تتصور من وجه احترام الكعبة إلى اعتقاد أنها من بناء إسماعيل وإبراهيم؟ فانقلاب قبائل من عقيدة إلى أخرى واقعة خطيرة، وشأنها أن تتلمح ولو في الأساطير والأسمار.

 

نهضة قريش

قال المؤلف في ص٢٨: «فقريش إذن كانت في هذا العصر ناهضة نهضة مادية تجارية ونهضة دينية وثنية، وبحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجه في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلة تقاوم تدخل الروم والفرس والحبشة ودياناتهم في البلاد العربية.»

قال سيديو في تاريخ العرب:(4) «كان بين الإسماعيلية والقحطانية تنافس المعاصرة المؤدي إلى اختلاف الكلمة، ثم مالوا إلى الوحدة السياسية لتوفر أسبابها من إغارة الحبشة عليهم بمكة واتحادهم في الأخلاق والعوائد.» ولعلك تطالب المؤلف بأثر تاريخي يشهد بأن قريشًا حاولت توجيه وحدة سياسية وثنية تقاوم تدخل الأمم المجاورة لها وديانتها، فلا تجد لديه وثيقة على هذه النهضة سوى هذه الكلمة التي رماها سيديو في تاريخه. أما نحن فنتيقن أن العرب على اختلاف قبائلها تمقت السلطة الأجنبية وتطمح إلى أبعد غاية في الحرية، ولكنا لم نجد في تاريخ الجاهلية ما يدل على أن قريشًا أو زعماء قريش سعوا في وحدة عربية تقف في وجه السياسة الأجنبية. نعم، قرأنا في ذلك التاريخ أن حروبًا شبت بين قريش وهوازن قبل البعثة المحمدية بنيف وعشرين سنة وهي المسماة بأيام الفِجار، ولعلها كانت في سبيل هذه النهضة العاملة على وحدة السياسة العربية!

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. خلاصة تاريخ العرب لسيديو، ص٣٨، طبعة مصر ١٣٠٩.
  2. تاريخ العرب قبل الإسلام، ص١٦٤.
  3. تاريخ العرب قبل الإسلام، ص١٦٤.
  4. ص٣٥.

المصدر:

محمد الخضر حسين، نقض كتاب في الشعر الجاهلي، ص61

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#طه-حسين #في-الشعر-الجاهلي
اقرأ أيضا
البيت المسلم | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

البيت المسلم


لقد شعرت أن أغلب ما يكون بين الأولاد من عقد وتناكر يرجع إلى اعتلال العلاقة الزوجية وفساد ذات البين فهل المعنويات تغنى عن الماديات إن هناك عناصر أخرى تحف بالبيت أو تخرج منه لها أثر فى سعادته ولننظر إلى هذا الحديث النبوى عن سعد بن أبى وقاص قال رسول الله

بقلم: محمد الغزالي
648
قصور العقول عن إدراك مسألة القدر | مرابط
مقالات

قصور العقول عن إدراك مسألة القدر


وقصور عقول البشر سبب لإنكار كثير مما لا تدركه من أحكام الله وأداره فالله خلق عقل الإنسان وجعله كالوعاء يحوي به وجعل الأوعية مختلفة لم يجعل للأوعية طاقة باستيعاب كل شيء فإن منها ما لا يصلح لها ومنها ما يمكن أن يحتوي منه بقدر وما زاد فاض. وأصل الضلال: اغترار الإنسان بعقله وطلبه أن يحوي كل شيء به وبعض المعلومات بالنسبة للعقل كالمحيطات بالنسبة للأواني لو سكبت عليه طوته وضاع فيها وتحير.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
234
النسبوية وما بعد الحداثة الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات الجندرية

النسبوية وما بعد الحداثة الجزء الأول


النسبوية وإن كانت فلسفة قائمة بذاتها إلا أنها أيضا عماد نظريات ما بعد الحداثة وأثرها عارم في مئات الأفكار الغربية والعالمية وفي اليسار الليبرالي خاصة وسنتخير الحديث عما يوضحها لنا كموثر على المسار الفلسفي اللوطي موضحين كيف كانت تلك الفلسفة أحد أسس التكوين

بقلم: عمرو عبد العزيز
2238
كيف نعلم الطقس غدا وهو من الغيب؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

كيف نعلم الطقس غدا وهو من الغيب؟


قد يقول قائل: إن من أمور الغيب التي استأثر الله بها إنزال الغيث والعلم بما في الأرحام فكيف تخبر النشرة الجوية عن جو الغد أصحو أم ماطر؟ ويكشف العلم عما في بطن الحامل: هل هو ذكر أم أنثى؟

بقلم: علي الطنطاوي
240
مكانة المرأة في الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات المرأة

مكانة المرأة في الإسلام


روى الترمذي في سننه من حديث أم عمارة - رضي الله عنها - أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما الأحزاب: 35

بقلم: د أمين بن عبدالله الشقاوي
1621
تشوش دور المرأة | مرابط
المرأة

تشوش دور المرأة


قبل فترة وجدت نفسي في مجموعة على الفيس بوك للنساء فكلما دخلت واحدة لتعرف عن نفسها تسرد إنجازاتها في دراستها وعملها إلى أن دخلت واحدة على استحياء لتقول أنها خجلة لكونها لا تملك ما تحدثنا عنه سوى أنها أم وربة منزل! لقد تحول دور المرأة تحولا شوه دورها وشوه تلك المخرجات التي بتنا نراها أولادا بلا تربية وبيوتا بلا ترتيب وطناجر فخمة دون استعمال وصارت إحداهن تطبخ للكاميرة لا لأولادها.

بقلم: د. مؤمنة العظم
274