بين المتقاعسين والسباقين

بين المتقاعسين والسباقين | مرابط

الكاتب: د عبد الكريم بكار

370 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

وحتى تنجلي صورة الذين يعيشون خارج العصر على الوجه المطلوب، فإني سأعرض لمقارنة بين أشخاص يعيشون عصرهم بوعيٍ وكفاءة، وسميتهم: السبَّاقين، وبين الذين يعيشون خارج العصر وسميتهم: بالمتقاعسين، وبعض هذه المعاني قد يتكرر في موضعٍ آخر، لكني سأذكرها في سياق هذه المقارنة حتى تترسخ في العقول والنفوس.

 

السباقون: يملكون روح الاستقلالية، فهم لا يعيشون تابعين لمن حولهم، ولا يقعون أسرى لمحيطهم الاجتماعي، ولا يتخذون من انحراف المجتمع ذريعةً لانحرافهم الشخصي؛ لأنهم يعرفون أن مسئولية المسلم أمام الله جل وعلا مسئولية فردية.

أما المتقاعسون فإنهم يحملون مشاعر طفولية، ويتصرفون وفق قول الشاعر:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت     غويت وإن ترشد غزية أرشد

 

هم يعتقدون أن مشكلاتهم ليست بسبب قصورهم الشخصي، وإنما بسبب سوء الحظ، أو التآمر عليهم، أو تدهور الزمان، وسوء الأحوال، وبالتالي فإنهم غير مسئولين عنها، ولا قادرين على معالجتها، فهم إلى جانب ذلك لا يتصرفون في هدي مبادئهم وقيمهم التي يؤمنون بها ويحملونها، وإنما يخضعون لمشاعرهم وأهوائهم وظروفهم ومصالحهم، مما يجعلهم معرَّضين دائمًا للتفلت والانحراف.

 

السباقون -أيها الإخوان!- يستغلون أوقاتهم على نحوٍ حسن، وهم واضحون جدًا في أخلاقهم، واتجاهاتهم، وطموحاتهم، وقراراتهم، وعلى الرغم من قلة الإمكانات التي بين أيديهم فإن ثمار جهودهم تبدو دائمًا كبيرةً وفيرة، إنهم لا يملكون الكثير من الأشياء، لكنهم يقومون بالكثير من الأعمال. الجوهر لديهم دائمًا أهم من المظهر، ونجاحاتهم هي ثمار جهودهم، وما يستخدمونه من إمكاناتهم.

 

أما المتقاعسون فأحلامهم متواضعة، وطموحاتهم محدودة، ونفوسهم مستكينة، وعقولهم خاملة، وحركتهم بطيئة، وهم حين يتحركون يدورون في حلقة مفرغة، وهم على استعداد لتحمل الآلام إلى ما لا نهاية.

 

المتقاعسون يجلسون أمام التلفاز ساعاتٍ طويلة كل يوم، حيث تخلو حياتهم من الأهداف والخطط، التي تستحق العمل والنصب، وهم يشترون الفرش الوثيرة، ويجلسون عليها أطول فترةٍ ممكنة، والاستلقاء أحب إليهم من الجلوس، وكأنهم يعملون بقول القائل: إذا لم تستطع أن تعمل شيئًا، فلا أقل من أن تستمتع بالنظر إلى من يعمل.

 

المتقاعسون يعانون من البطالة على الرغم من توفر فرص العمل؛ لأنهم غير قادرين على تأهيل أنفسهم للتكيف معها، وحين يتجه الناس إلى أعمالهم في الصباح، يتجهون هم إلى النوم؛ لأنهم لم يناموا في الليل، أو يتجهون إلى أماكن عملهم حيث البطالة المقنعة، وحيث تتضاءل الفروق بين من يعمل وبين من لا يعمل.

 

المتقاعسون لا يعتمدون على كفاءتهم الشخصية في الوصول إلى ما يريدون، وإنما ينجزون أعمالهم عن طريق الواسطة أو الرشوة، وعندما تحيط بهم مشكلة يؤثرون الدوران حولها عوضًا عن مواجهتها بصبرٍ وثبات، ولذلك فالتسويف وتأجيل أعمال اليوم إلى الغد من أبرز سماتهم.

لا يملك المتقاعسون روح الاستمرار في العمل، ويبحثون دائمًا عن خبطة العمر التي ستعوضهم عن كل ما فات على حد قول من يقول: فرصةٌ واحدةٌ تكفي.

 

يعيش المتقاعسون دائمًا في منطقةٍ رمادية، يحدها من الشمال الحيرة والتردد، ومن اليمين العجز، ومن الشرق البكاء على الأطلال، ومن الغرب الرؤية الضبابية، وإن من يعيش في مثل تلك المنطقة لا يستطيع إلا أن يكون محبطًا مفلسًا وضعيفًا.

 

إن السبَّاق والمتقاعس قد يعيشان تحت سقفٍ واحد، وقد يحملان شهادتين متماثلتين، ويقومان بأعمال تبدو للناظر العجل متشابهة، لكن كل ذلك عبارةٌ عن تشابهٍ شكلي؛ لأنهما ينتميان إلى عالمين مختلفين، ولا يجمع بينهما سوى عبقرية المكان.

 

يقول أحد الموظفين: لما كنت طالبًا في المرحلة المتوسطة كان ابن جيراننا مصطفى متفوقًا في دراسته، وكنت أغار منه وأغبطه؛ لأننا حين كنا ندرس سويًا كان متقدمًا عليَّ في الحفظ والفهم، وكانت درجات اختباراته دائمًا أفضل من درجاتي، وحين انتقلنا إلى المرحلة الثانوية بدأت أحوال جاري وزميلي بالتغير، حيث تعرف على أبناء أصدقاء والده الذي كان يعمل في التجارة، وقد تمكن بعض أولئك الأبناء أن يقنعوه من أنه لا جدوى من إكماله لتعليمه، وأنه إذا ساعد والده في أعماله؛ فإنه سيحصل على كل ما يريده في هذه الحياة، على حين أنه إذا درس في الجامعة فلن يكون أكثر من مدرس أو موظفٍ صغير.

 

هذا التوجه الجديد لديه صاغ رؤيته من جديد للحياة وللدراسة، فقد صار يتضايق من مكوثنا للمذاكرة أكثر من ساعتين يوميًا، مع أننا كنا في الصف الثالث المتوسط نذاكر أربع ساعاتٍ يوميًا، وصار يقول باستمرار: هذا الجهد في المذاكرة، وكتابة الواجبات، لو بذلته في عملٍ حر لوجدت ثماره مباشرة، وأما ما أفعله الآن فلا أدري ما الذي أستفيد منه.

 

زميلي هذا صار يتأخر في السهر، مما جعله موضع سخرية من بعض أساتذته؛ لكثرة نومه في الفصل، وهو مع ذلك يدعي بأن المعلمين لا يشرحون على نحوٍ جيد، وقد صار بالإضافة إلى ذلك مشغولًا بالدوران بسيارته في شوارع المدينة، كما صار خبيرًا بالمطاعم الفاخرة في البلد، وأخذ يعيب على فلانٍ وفلان من زملائنا بأنهم يشترون حاجاتهم من الأسواق الشعبية.

 

انتهينا من دراسة الثانوية وحصل زميلي على درجاتٍ متدنية جدًا، فلم يقبل في أي قسمٍ جامعي، وهذا في الحقيقة ما كان يسعى إليه، وقد منحه والده مبلغًا جيدًا؛ ليبدأ به بعض الأعمال التجارية، وقد أخذ يستورد بعض السلع من خارج البلاد، وقد حقق بعض النجاح في البداية، ثم أخذ يستعجل الثراء، ويغامر مغامراتٍ غير محسوبة، وحدث بعض الركود في الأسواق، فتكدست لديه البضائع، وتراكمت عليه الديون، ولولا مساعدة أبيه له مرةً أخرى لسجنه الغرماء، وانتهت رحلته في عالم الأعمال الحرة بعد ست سنوات، وقد عثر على وظيفةٍ متواضعة على أساس الثانوية ليقضي فيها باقي عمره.

 

إن هذا الشاب قد توفر له كل ما يجعل منه إنسانًا جيدًا متفوقًا، ولكن تغير القيم والمفاهيم والمبادئ والأفكار التي كان يحملها، حوَّله إلى الوضعية التي صار إليها.


 

المصدر:

محاضرة العيش في الزمن الصعب

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#المتقاعسين #السباقين
اقرأ أيضا
حقيقة التعبد في الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين

حقيقة التعبد في الإسلام


إن إدراك محاسن الإسلام لا يتم إلا بفهم حقيقة التعبد لله سبحانه وتعالى ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بالإدراك العميق لنصوص الكتاب والسنة الواردة في ذلك أو بالنظر في كلام علماء المسلمين الذين اعتنوا بإبراز تلك الحقيقة بعد تتبعهم لنصوص الوحيين ثم بالعمل على ضوء هذه الحقيقة دون الاكتفاء بالفهم النظري

بقلم: أحمد يوسف السيد
1956
غربة الدين | مرابط
اقتباسات وقطوف

غربة الدين


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ففي الحديث يكشف لنا الرسول الله صلى الله عليه وسلم عن واقعنا الذي نعيش فيه الآن فكما كان أهل مكة والعرب بصفة عامة والعالم أجمع يستغرب الرسالة الإسلامية عند نزولها ويستنكر تعاليمها ويحشد كل الجنود لحرب هذه الدعوة عادت الأيام كما كانت الآن وأصبح عموم الناس الآن يستغرب التعاليم الإسلامية

بقلم: د راغب السرجاني
779
حول حديث: كمل من الرجال كثير.. | مرابط
المرأة

حول حديث: كمل من الرجال كثير..


حديث: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء: إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. هل هذا يعني أن من أتى بعدهم لا يمكن أن يكون كاملا كمالا بشريا سواء الرجال أو النساء واقتصر الكمال على السابقين؟ إليكم الجواب.

بقلم: قاسم اكحيلات
466
علمنة العلاج النفسي | مرابط
فكر العالمانية

علمنة العلاج النفسي


حتى المعالج المحب لدينه قد يذكر للمريض آيات وأحاديث لرفع معنوياته وإزالة كآبته لكن المعنى المسيطر عنده وعند المريض هو تسخير ذلك كله لدنيا المريض فحسب. بينما النظرة المتوازنة تتطلب أن يجعل هذا البلاء مسخرا لنفع المريض في دينه وآخرته مع الأخذ في الوقت نفسه بأسباب تخليصه من مرضه.

بقلم: د. إياد قنيبي
522
أعمال الاستعمار | مرابط
تاريخ مقالات

أعمال الاستعمار


وخلال تاريخ الحركة الاستعمارية الغربية للعالم الإسلامي وبقية المستعمرات أظهر المستعمر الغربي صورا قاتمة كالحة ملؤها الظلم والقهر والاستغلال فعلى الصعيد الإنساني ارتكب المستعمرون مجازر بحق الشعوب التي قامت تدافع عن دينها وخيراتها فقد بلغت أعداد قتلى المسلمين في الهند حتى عام 1880م مليون مسلم سقطوا على يد الإنجليز ومثله كانت الجزائر بلد المليون شهيد

بقلم: منقذ السقار
640
النص مقدس والفهم غير مقدس | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

النص مقدس والفهم غير مقدس


هذه المقولة تتخذ في الواقع أشكالا متعددة من التعبير لكنها تتحد في المضمون كقولهم مثلا النص مقدس ولكن فهمه غير مقدس أو يجب المحافظة على مسافة بين النص وبين قارئ النص أو فهمك للنص ليس هو النص أو غير ذلك من التعبيرات وهي إطلاقات تسعى للمحافظة على نوع قدسية للنص يمكن من خلال إطلاقها المجمل تسريب بعض المضامين ولذا فإن هذه المقولة تمثل واحدة من أشهر الشبهات حضورا في الخطاب العلماني العربي بل يمكن عدها الشبهة المركزية التي يدور عليها هذا الخطاب

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2489