وحتى تنجلي صورة الذين يعيشون خارج العصر على الوجه المطلوب، فإني سأعرض لمقارنة بين أشخاص يعيشون عصرهم بوعيٍ وكفاءة، وسميتهم: السبَّاقين، وبين الذين يعيشون خارج العصر وسميتهم: بالمتقاعسين، وبعض هذه المعاني قد يتكرر في موضعٍ آخر، لكني سأذكرها في سياق هذه المقارنة حتى تترسخ في العقول والنفوس.
السباقون: يملكون روح الاستقلالية، فهم لا يعيشون تابعين لمن حولهم، ولا يقعون أسرى لمحيطهم الاجتماعي، ولا يتخذون من انحراف المجتمع ذريعةً لانحرافهم الشخصي؛ لأنهم يعرفون أن مسئولية المسلم أمام الله جل وعلا مسئولية فردية.
أما المتقاعسون فإنهم يحملون مشاعر طفولية، ويتصرفون وفق قول الشاعر:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
هم يعتقدون أن مشكلاتهم ليست بسبب قصورهم الشخصي، وإنما بسبب سوء الحظ، أو التآمر عليهم، أو تدهور الزمان، وسوء الأحوال، وبالتالي فإنهم غير مسئولين عنها، ولا قادرين على معالجتها، فهم إلى جانب ذلك لا يتصرفون في هدي مبادئهم وقيمهم التي يؤمنون بها ويحملونها، وإنما يخضعون لمشاعرهم وأهوائهم وظروفهم ومصالحهم، مما يجعلهم معرَّضين دائمًا للتفلت والانحراف.
السباقون -أيها الإخوان!- يستغلون أوقاتهم على نحوٍ حسن، وهم واضحون جدًا في أخلاقهم، واتجاهاتهم، وطموحاتهم، وقراراتهم، وعلى الرغم من قلة الإمكانات التي بين أيديهم فإن ثمار جهودهم تبدو دائمًا كبيرةً وفيرة، إنهم لا يملكون الكثير من الأشياء، لكنهم يقومون بالكثير من الأعمال. الجوهر لديهم دائمًا أهم من المظهر، ونجاحاتهم هي ثمار جهودهم، وما يستخدمونه من إمكاناتهم.
أما المتقاعسون فأحلامهم متواضعة، وطموحاتهم محدودة، ونفوسهم مستكينة، وعقولهم خاملة، وحركتهم بطيئة، وهم حين يتحركون يدورون في حلقة مفرغة، وهم على استعداد لتحمل الآلام إلى ما لا نهاية.
المتقاعسون يجلسون أمام التلفاز ساعاتٍ طويلة كل يوم، حيث تخلو حياتهم من الأهداف والخطط، التي تستحق العمل والنصب، وهم يشترون الفرش الوثيرة، ويجلسون عليها أطول فترةٍ ممكنة، والاستلقاء أحب إليهم من الجلوس، وكأنهم يعملون بقول القائل: إذا لم تستطع أن تعمل شيئًا، فلا أقل من أن تستمتع بالنظر إلى من يعمل.
المتقاعسون يعانون من البطالة على الرغم من توفر فرص العمل؛ لأنهم غير قادرين على تأهيل أنفسهم للتكيف معها، وحين يتجه الناس إلى أعمالهم في الصباح، يتجهون هم إلى النوم؛ لأنهم لم يناموا في الليل، أو يتجهون إلى أماكن عملهم حيث البطالة المقنعة، وحيث تتضاءل الفروق بين من يعمل وبين من لا يعمل.
المتقاعسون لا يعتمدون على كفاءتهم الشخصية في الوصول إلى ما يريدون، وإنما ينجزون أعمالهم عن طريق الواسطة أو الرشوة، وعندما تحيط بهم مشكلة يؤثرون الدوران حولها عوضًا عن مواجهتها بصبرٍ وثبات، ولذلك فالتسويف وتأجيل أعمال اليوم إلى الغد من أبرز سماتهم.
لا يملك المتقاعسون روح الاستمرار في العمل، ويبحثون دائمًا عن خبطة العمر التي ستعوضهم عن كل ما فات على حد قول من يقول: فرصةٌ واحدةٌ تكفي.
يعيش المتقاعسون دائمًا في منطقةٍ رمادية، يحدها من الشمال الحيرة والتردد، ومن اليمين العجز، ومن الشرق البكاء على الأطلال، ومن الغرب الرؤية الضبابية، وإن من يعيش في مثل تلك المنطقة لا يستطيع إلا أن يكون محبطًا مفلسًا وضعيفًا.
إن السبَّاق والمتقاعس قد يعيشان تحت سقفٍ واحد، وقد يحملان شهادتين متماثلتين، ويقومان بأعمال تبدو للناظر العجل متشابهة، لكن كل ذلك عبارةٌ عن تشابهٍ شكلي؛ لأنهما ينتميان إلى عالمين مختلفين، ولا يجمع بينهما سوى عبقرية المكان.
يقول أحد الموظفين: لما كنت طالبًا في المرحلة المتوسطة كان ابن جيراننا مصطفى متفوقًا في دراسته، وكنت أغار منه وأغبطه؛ لأننا حين كنا ندرس سويًا كان متقدمًا عليَّ في الحفظ والفهم، وكانت درجات اختباراته دائمًا أفضل من درجاتي، وحين انتقلنا إلى المرحلة الثانوية بدأت أحوال جاري وزميلي بالتغير، حيث تعرف على أبناء أصدقاء والده الذي كان يعمل في التجارة، وقد تمكن بعض أولئك الأبناء أن يقنعوه من أنه لا جدوى من إكماله لتعليمه، وأنه إذا ساعد والده في أعماله؛ فإنه سيحصل على كل ما يريده في هذه الحياة، على حين أنه إذا درس في الجامعة فلن يكون أكثر من مدرس أو موظفٍ صغير.
هذا التوجه الجديد لديه صاغ رؤيته من جديد للحياة وللدراسة، فقد صار يتضايق من مكوثنا للمذاكرة أكثر من ساعتين يوميًا، مع أننا كنا في الصف الثالث المتوسط نذاكر أربع ساعاتٍ يوميًا، وصار يقول باستمرار: هذا الجهد في المذاكرة، وكتابة الواجبات، لو بذلته في عملٍ حر لوجدت ثماره مباشرة، وأما ما أفعله الآن فلا أدري ما الذي أستفيد منه.
زميلي هذا صار يتأخر في السهر، مما جعله موضع سخرية من بعض أساتذته؛ لكثرة نومه في الفصل، وهو مع ذلك يدعي بأن المعلمين لا يشرحون على نحوٍ جيد، وقد صار بالإضافة إلى ذلك مشغولًا بالدوران بسيارته في شوارع المدينة، كما صار خبيرًا بالمطاعم الفاخرة في البلد، وأخذ يعيب على فلانٍ وفلان من زملائنا بأنهم يشترون حاجاتهم من الأسواق الشعبية.
انتهينا من دراسة الثانوية وحصل زميلي على درجاتٍ متدنية جدًا، فلم يقبل في أي قسمٍ جامعي، وهذا في الحقيقة ما كان يسعى إليه، وقد منحه والده مبلغًا جيدًا؛ ليبدأ به بعض الأعمال التجارية، وقد أخذ يستورد بعض السلع من خارج البلاد، وقد حقق بعض النجاح في البداية، ثم أخذ يستعجل الثراء، ويغامر مغامراتٍ غير محسوبة، وحدث بعض الركود في الأسواق، فتكدست لديه البضائع، وتراكمت عليه الديون، ولولا مساعدة أبيه له مرةً أخرى لسجنه الغرماء، وانتهت رحلته في عالم الأعمال الحرة بعد ست سنوات، وقد عثر على وظيفةٍ متواضعة على أساس الثانوية ليقضي فيها باقي عمره.
إن هذا الشاب قد توفر له كل ما يجعل منه إنسانًا جيدًا متفوقًا، ولكن تغير القيم والمفاهيم والمبادئ والأفكار التي كان يحملها، حوَّله إلى الوضعية التي صار إليها.
المصدر:
محاضرة العيش في الزمن الصعب