بين المتقاعسين والسباقين

بين المتقاعسين والسباقين | مرابط

الكاتب: د عبد الكريم بكار

314 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

وحتى تنجلي صورة الذين يعيشون خارج العصر على الوجه المطلوب، فإني سأعرض لمقارنة بين أشخاص يعيشون عصرهم بوعيٍ وكفاءة، وسميتهم: السبَّاقين، وبين الذين يعيشون خارج العصر وسميتهم: بالمتقاعسين، وبعض هذه المعاني قد يتكرر في موضعٍ آخر، لكني سأذكرها في سياق هذه المقارنة حتى تترسخ في العقول والنفوس.

 

السباقون: يملكون روح الاستقلالية، فهم لا يعيشون تابعين لمن حولهم، ولا يقعون أسرى لمحيطهم الاجتماعي، ولا يتخذون من انحراف المجتمع ذريعةً لانحرافهم الشخصي؛ لأنهم يعرفون أن مسئولية المسلم أمام الله جل وعلا مسئولية فردية.

أما المتقاعسون فإنهم يحملون مشاعر طفولية، ويتصرفون وفق قول الشاعر:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت     غويت وإن ترشد غزية أرشد

 

هم يعتقدون أن مشكلاتهم ليست بسبب قصورهم الشخصي، وإنما بسبب سوء الحظ، أو التآمر عليهم، أو تدهور الزمان، وسوء الأحوال، وبالتالي فإنهم غير مسئولين عنها، ولا قادرين على معالجتها، فهم إلى جانب ذلك لا يتصرفون في هدي مبادئهم وقيمهم التي يؤمنون بها ويحملونها، وإنما يخضعون لمشاعرهم وأهوائهم وظروفهم ومصالحهم، مما يجعلهم معرَّضين دائمًا للتفلت والانحراف.

 

السباقون -أيها الإخوان!- يستغلون أوقاتهم على نحوٍ حسن، وهم واضحون جدًا في أخلاقهم، واتجاهاتهم، وطموحاتهم، وقراراتهم، وعلى الرغم من قلة الإمكانات التي بين أيديهم فإن ثمار جهودهم تبدو دائمًا كبيرةً وفيرة، إنهم لا يملكون الكثير من الأشياء، لكنهم يقومون بالكثير من الأعمال. الجوهر لديهم دائمًا أهم من المظهر، ونجاحاتهم هي ثمار جهودهم، وما يستخدمونه من إمكاناتهم.

 

أما المتقاعسون فأحلامهم متواضعة، وطموحاتهم محدودة، ونفوسهم مستكينة، وعقولهم خاملة، وحركتهم بطيئة، وهم حين يتحركون يدورون في حلقة مفرغة، وهم على استعداد لتحمل الآلام إلى ما لا نهاية.

 

المتقاعسون يجلسون أمام التلفاز ساعاتٍ طويلة كل يوم، حيث تخلو حياتهم من الأهداف والخطط، التي تستحق العمل والنصب، وهم يشترون الفرش الوثيرة، ويجلسون عليها أطول فترةٍ ممكنة، والاستلقاء أحب إليهم من الجلوس، وكأنهم يعملون بقول القائل: إذا لم تستطع أن تعمل شيئًا، فلا أقل من أن تستمتع بالنظر إلى من يعمل.

 

المتقاعسون يعانون من البطالة على الرغم من توفر فرص العمل؛ لأنهم غير قادرين على تأهيل أنفسهم للتكيف معها، وحين يتجه الناس إلى أعمالهم في الصباح، يتجهون هم إلى النوم؛ لأنهم لم يناموا في الليل، أو يتجهون إلى أماكن عملهم حيث البطالة المقنعة، وحيث تتضاءل الفروق بين من يعمل وبين من لا يعمل.

 

المتقاعسون لا يعتمدون على كفاءتهم الشخصية في الوصول إلى ما يريدون، وإنما ينجزون أعمالهم عن طريق الواسطة أو الرشوة، وعندما تحيط بهم مشكلة يؤثرون الدوران حولها عوضًا عن مواجهتها بصبرٍ وثبات، ولذلك فالتسويف وتأجيل أعمال اليوم إلى الغد من أبرز سماتهم.

لا يملك المتقاعسون روح الاستمرار في العمل، ويبحثون دائمًا عن خبطة العمر التي ستعوضهم عن كل ما فات على حد قول من يقول: فرصةٌ واحدةٌ تكفي.

 

يعيش المتقاعسون دائمًا في منطقةٍ رمادية، يحدها من الشمال الحيرة والتردد، ومن اليمين العجز، ومن الشرق البكاء على الأطلال، ومن الغرب الرؤية الضبابية، وإن من يعيش في مثل تلك المنطقة لا يستطيع إلا أن يكون محبطًا مفلسًا وضعيفًا.

 

إن السبَّاق والمتقاعس قد يعيشان تحت سقفٍ واحد، وقد يحملان شهادتين متماثلتين، ويقومان بأعمال تبدو للناظر العجل متشابهة، لكن كل ذلك عبارةٌ عن تشابهٍ شكلي؛ لأنهما ينتميان إلى عالمين مختلفين، ولا يجمع بينهما سوى عبقرية المكان.

 

يقول أحد الموظفين: لما كنت طالبًا في المرحلة المتوسطة كان ابن جيراننا مصطفى متفوقًا في دراسته، وكنت أغار منه وأغبطه؛ لأننا حين كنا ندرس سويًا كان متقدمًا عليَّ في الحفظ والفهم، وكانت درجات اختباراته دائمًا أفضل من درجاتي، وحين انتقلنا إلى المرحلة الثانوية بدأت أحوال جاري وزميلي بالتغير، حيث تعرف على أبناء أصدقاء والده الذي كان يعمل في التجارة، وقد تمكن بعض أولئك الأبناء أن يقنعوه من أنه لا جدوى من إكماله لتعليمه، وأنه إذا ساعد والده في أعماله؛ فإنه سيحصل على كل ما يريده في هذه الحياة، على حين أنه إذا درس في الجامعة فلن يكون أكثر من مدرس أو موظفٍ صغير.

 

هذا التوجه الجديد لديه صاغ رؤيته من جديد للحياة وللدراسة، فقد صار يتضايق من مكوثنا للمذاكرة أكثر من ساعتين يوميًا، مع أننا كنا في الصف الثالث المتوسط نذاكر أربع ساعاتٍ يوميًا، وصار يقول باستمرار: هذا الجهد في المذاكرة، وكتابة الواجبات، لو بذلته في عملٍ حر لوجدت ثماره مباشرة، وأما ما أفعله الآن فلا أدري ما الذي أستفيد منه.

 

زميلي هذا صار يتأخر في السهر، مما جعله موضع سخرية من بعض أساتذته؛ لكثرة نومه في الفصل، وهو مع ذلك يدعي بأن المعلمين لا يشرحون على نحوٍ جيد، وقد صار بالإضافة إلى ذلك مشغولًا بالدوران بسيارته في شوارع المدينة، كما صار خبيرًا بالمطاعم الفاخرة في البلد، وأخذ يعيب على فلانٍ وفلان من زملائنا بأنهم يشترون حاجاتهم من الأسواق الشعبية.

 

انتهينا من دراسة الثانوية وحصل زميلي على درجاتٍ متدنية جدًا، فلم يقبل في أي قسمٍ جامعي، وهذا في الحقيقة ما كان يسعى إليه، وقد منحه والده مبلغًا جيدًا؛ ليبدأ به بعض الأعمال التجارية، وقد أخذ يستورد بعض السلع من خارج البلاد، وقد حقق بعض النجاح في البداية، ثم أخذ يستعجل الثراء، ويغامر مغامراتٍ غير محسوبة، وحدث بعض الركود في الأسواق، فتكدست لديه البضائع، وتراكمت عليه الديون، ولولا مساعدة أبيه له مرةً أخرى لسجنه الغرماء، وانتهت رحلته في عالم الأعمال الحرة بعد ست سنوات، وقد عثر على وظيفةٍ متواضعة على أساس الثانوية ليقضي فيها باقي عمره.

 

إن هذا الشاب قد توفر له كل ما يجعل منه إنسانًا جيدًا متفوقًا، ولكن تغير القيم والمفاهيم والمبادئ والأفكار التي كان يحملها، حوَّله إلى الوضعية التي صار إليها.


 

المصدر:

محاضرة العيش في الزمن الصعب

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#المتقاعسين #السباقين
اقرأ أيضا
النشوز ما هو؟ | مرابط
المرأة

النشوز ما هو؟


النشوز ما هو؟ يقول صاحب أضواء البيان: النشوز في اصطلاح الفقهاء الخروج عن طاعة الزوج. يقول الطبري: نشوزهن: استعلاءهن على أزواجهن وارتفاعهن عن فرشهم بالمعصية منهن والخلاف عليهم فيما لزمهن طاعتهم فيه بغضا منهن وإعراضا عنهم

بقلم: باسم بشينية
284
الفوائد والثمرات الحاصلة بالصلاة على النبي | مرابط
مقالات

الفوائد والثمرات الحاصلة بالصلاة على النبي


ومن فضائل الصلاة على النبي أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه فإنه كلما أكثر الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وذكره واستولت محبته على قلبه حتى لا يبقى في قلبه معارضة لشيء من أوامره ولا شك في شيء مما جاء به بل يصير ما جاء به مكتوبا مسطورا في قلبه لا يزال يقرؤه على تعاقب أحواله ويقتبس الهدى والفلاح وأنواع العلوم منه وكلما ازداد في ذلك بصيرة وقوة ومعرفة ازدادت صلاته عليه صلى الله عليه وسلم

بقلم: ابن القيم
427
كيف أبدأ ..؟ | مرابط
ثقافة

كيف أبدأ ..؟


والله لا أستطيع إحصاء الرسائل التي تأتيني يوميا:كيف أبدأ في حفظ القرآن ولماذا ومتى وأين ومع من؟كيف أبدأ في طلب العلم؟ ما المراحل والخطط والكتب والطبعات وكيف أدرس وأحفظ وأراجع؟كيف أبدأ في الرياضة.. كيف أنقص وزني؟كيف أربي أولادي ومتى وأين؟.. إليكم الجواب.

بقلم: حسين عبد الرازق
358
متى يكون الرد على المخالف | مرابط
فكر

متى يكون الرد على المخالف


كثير ممن يطيل الجدل والمناظرة لا يفرق بين بيان إثبات الحجة وبين الإقرار بها فيجعل لازم إثبات الحجة أن يقر المحجوج بها وهذا ليس من العلم والنظر ولا من مقاصد التشريع في شيء وذلك أن محل الإقرار في القلب واللسان ناقل لما في القلب والصدق في هذا شاق جدا حتى ربما ظهر الحق لجميع السامعين ويبقى المحاجج في سكرة نفي ثبوت الحجج والتهوين منها والتعلق بالإقرار تعلق بباطن لا يمكن الوصول إلى حقيقته

بقلم: عبد العزيز الطريفي
887
الذنوب عدو لدود | مرابط
اقتباسات وقطوف

الذنوب عدو لدود


ومن عقوبات الذنوب: أنها مدد من الإنسان يمد به عدوه عليه وجيش يقويه به على حربه. وذلك أن الله سبحانه ابتلى هذا الإنسان بعدو لا يفارقه طرفة عين.. ينام ولا ينام عنه.. ويغفل ولا يغفل عنه.. يراه هو وقبيله من حيث لا يراه. يبذل جهده في معاداته في كل حال ولا يدع أمرا يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله ويستعين عليه ببني أبيه من شياطين الجن وغيرهم من شياطين الإنس. قد نصب له الحبائل وبغاه الغوائل ومد حوله الأشراك ونصب له الفخاخ والشباك.

بقلم: ابن القيم
414
لكم دينكم ولي دين | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

لكم دينكم ولي دين


يزعم البعض أن سورة الكافرون جاءت تقر الكافرين على دينهم وتقر المسلمين على دينهم أي أنها بمثابة الرضى بما عليه أهل الأديان الأخرى ولهذا قال البعض في تفسيرها أنها منسوخة وحاول آخرون أن يجدوا مخارج أخرى ولكن هنا ستعرف حقيقة هذه السورة وكيف أنها جاءت بالمفاصلة التامة بين الإسلام والكفر

بقلم: محمد سعيد القحطاني
4174