جوهر المبدأ العالماني

جوهر المبدأ العالماني | مرابط

الكاتب: د سامي عامري

2147 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

بدا من كتابات هوليوك، وقبله من استقراء الدواعي التي أدت إلى سبك هذا المصطلح، وصياغته دلاليا، وبثّه معرفيا، وتأسيسه واقعيًا، وتقديسه قيميًا، أنه متصل اتصالا وطيدًا برفض الوصاية المتجاوزة (للعالم) على المفاهيم المؤسسة لمعرفة الإنسان وحركته ضمن سعيه إلى الحقيقة والمنفعة. إن أفكار الإنسان وعمله، في الدائرة الصغرى (السياسة) أو الكبرى (الحياة بمعناها الأوسع) يجب أن تنطلق من حقيقة حق وصاية الإنسان على نفسه. وهي تزعم أن جوهرها دعوة للإنسان أن يعود إلى نفسه وألا يغترب عنها بالخضوع لما وراء الكون.

 

جوهر العالمانية

 

لهوليوك عبارات صريحة ومحكمة في بيان هذا التصور المبدئي الذي يُشكل الماهية الثابتة للعالمانية، فقد قرر أن العالمانية هي دراسة سبل تحقيق الرفاهة البشرية فحسب، باستعمال الوسائل المادية، وأنها مرتبطة بحاضر الإنسان، وتعمل ضمن أدوات من الممكن اختبارها ماديا في هذه الحياة. تشجع العالمانية -كما يقول- الإنسان على ألا يثق إلا في العقل وألا يثق في ما لا يدعمه العقل. ويقرر في عبارة مُركّزة تختصر العالمانية إبستمولوجيا:

 

لا تقبل العالمانية سلطانا غير سلطان الطبيعة، ولا مناهج غير مناهج العلم والفلسفة، ولا تحترم في التطبيق قانونا غير قانون الضمير كما تكشفه البداهة البشرية

 

 
ووافق غرايم سميث جوهر تعريف هوليوك بقوله: "العالمانية طريقة نظر إلى العالم والحياة لا تحيل إلى المعتقدات فوق-الطبيعية"

 

فالعالمانية تلزم العقل أن يحصر آلة الوعي والتدبير فيه ضمن حدود الأسباب المادية لعالمنا المادي.

 

وعرف شلدون -في موسوعته السياسية- العالمانية بأنها:

 

فلسفة أو نظرة عالمية تُشدّد على المنظورين الأرضي والإنساني في مقابل الروحي أو الديني، لتفسير المجتمع والسياسات. وكثيرًا ما يشار إليها على أنها الأنسنة والتي هي مقاربة عالمانية تلغي الإله والإلهي وفوق الطبيعي والرؤى الدينية الأخرى أو تتجاهلها عند مناقشة السياسة أو مباشرتها

 


وذهب الفيلسوف الوجودي بولس تلش إلى أن "السيكولاري هو ميدان الاهتمامات المبدئية. وأنه يفتقد اهتماما نهائيًا؛ إنه يفتقد المقدس..، يبدو أن المقدس والسيكولاري يلغي كل منهما الآخر".

 

وجاء في الموسوعة الأمريكية:

 

العلمانية نظام أخلاقي مستقل مؤسس على مبادئ من الأخلاق الطبيعية، مستقل عن المظهر الديني أو فوق الطبيعي... إنها تؤكد القوى المادية في هذه الحياة التي لا يمكن إهمالها دون الوقوع في حماقة أو مضرة، ومن الحكمة والرحمة والواجب الاعتناء بها. إنها لا تصارع المعتقدات المسيحية، كما أنها لا تقول: إنه لا يوجد هاد أو منقذ إلا في هذه الطبيعة. إنها تؤكد بالأحرى أن هناك نورا وهدى في الحقيقة العالمانية التي توجد شروطها وقوانينها بطريقة مستقلة، وتعمل بطريقة مستقلة وإلى الأبد

 

ولعل أفضل تعريفات علماء الاجتماع للعالمانية قول ن. ت. مدان إن العلمنة (وهي آلية تحويل الواقع إلى حال العالمانية) تحيل دلاليًّا عادة إلى العمليات الاجتماعية-الثقافية التي توسع مجالات الحياة (المادية والمؤسسية والفكرية) التي يضيق فيها طرديا دور المقدس.

 

يستخلص من التعريفات السابقة أن جوهر العلمانية يتمثل في النقاط الآتية:

 

-الحقيقة النفعية موجودة داخل العالم: يجب أن يتوجه الإنسان إلى العالم وأشيائه في سعيه إلى اكتشاف الحقيقة النفعية التي تتحقق الرفاهة البشرية عند العلم بها؛ وكل انصراف إلى ما وراء العالم لتحقيق السعادة العاجلة هو انحراف عن مجال العمل البشري الجاد لتحقيق السعادة الحقيقة.

 

-وجوب السعي إلى تحصيل المنافع الدنيوية: بيّن هوليوك جوهرية هذا المبدأ بقوله: إنه سواء أكانت هناك منفعة خارج هذا العالم أم لا؛ فإن الإنسان ملزم بتحصيل المنفعة الموجودة في العالم الدنيوي فالجهد الإنساني يجب ألا يتوجه إلى البحث عن غايات وراء العالم.

 

-السبيل إلى المعرفة داخليا ضمن العالم: وهو مبدأ معرفي عبر عنه هوليوك بقوله: دراسة الطبيعة كاشفة لقوانين الطبيعة. وقوانين الطبيعة تقدم التوجه الآمن للبشرية. واحتكار العلم بذلك للرؤية الكونية علامة على تعلمن الواقع.

 

-نزع سلطان المقدس عن الوعي الإنساني، باعتبار أن وجود المقدس المتعالي على العقل والتجربة مصادم للمبدأ العالماني الذي ينزع إلى فك السحر عن العالم

 

-جوهر العالمانية كامن في إدراك القوانين المادية للكون واستخراج الأخلاق النفعية في الوجود البشري: يقول هوليوك "تتمثل أهداف العالمانية في تنظيم الشؤون البشرية باعتبارات بشرية بحتة تقوم مبادئها على الطبيعة وهدفها صناعة إنسان مثالي قدر الإمكان في هذه الحياة"

 

-العقل الإنساني هو الوسيلة الوحيدة لإدراك حقيقة العالم وسبيل المنفعة: الملكات الإنسانية البحتة هي الأداة القصرية لإدراك الحقيقة، فلا ينافسها في ذلك دين أو تراث. وقد كانت العالمانية الوريث الشرعي لعصر التنوير المسمى أيضًا بعصر العقل. ليحل العقل مكان الكنيسة، والفيلسوف مكان رجل الدين، والتجربة مكان الدعاء. وقد عبر إمانويل كانط عن هذا التنوير بأنه "تحريرنا من الوصاية التي فرضناها على أنفسنا والتي هي حال العجز عن استعمال إدراكنا الخاص من غير توجيه من شخص آخر" كما استعمل عالم الاجتماع ماكس فيبر كلمة عقلنة تقريبًا دائمًا مرادفًا للعلمنة؛ إذ هما عنده وجهان لمبدأ واحد.

 

-لا خلاص إلا بالعلم: عبر هوليوك عن هذا المعنى بعبارة تكشف استبطانا لتراث نصراني مرفوض "ولّى زمن الصلاة من أجل الخلاص الدنيوي.. من الواضح أن العون الوحيد المتاح للإنسان والسند الوحيد الذي من الممكن الاعتماد عليه هو العلم"

 


 

المصدر:

  1. العالمانية طاعون العصر، د. سامي عامري، ص95
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
ضرر علم الكلام على العوام | مرابط
اقتباسات وقطوف

ضرر علم الكلام على العوام


ليس على العوام أضر من سماعهم علم الكلام وإنما ينبغي أن يحذر العوام من سماعه والخوض فيه كما يحذر الصبي من شاطئ النهر خوف الغرق وربما ظن العامي أن له قوة يدرك بها هذا وهو فاسد فإنه قد زل في هذا خلق من العلماء فكيف العوام؟! وما رأيت أحمق من جمهور قصاص زماننا فإنه يحضر عندهم العوام الغشم فلا ينهونهم عن خمر وزنا وغيبة ولا يعلمونهم أركان الصلاة ووظائف التعبد بل يملؤون الزمان بذكر الاستواء وتأويل الصفات وأن الكلام قائم بالذات فيتأذى بذلك من كان قلبه سليما.

بقلم: ابن الجوزي
400
وسائل التلاعب بالجماهير | مرابط
اقتباسات وقطوف

وسائل التلاعب بالجماهير


إن ما يسمى بوسائل الإعلام الجماهيرية كالصحافة والراديو والتلفزيون هي في الحقيقة وسائل للتلاعب بالجماهير وبين يديكم مقتطف من كتاب الإسلام بين الشرق والغرب لعلي عزت بيجوفيتش يدور حول هذه النقطة وكيف يمكن السيطرة على الشعوب بأساليب لا تميل إلى العنف وإنما إلى شل الإرادة والتحكم في العقول

بقلم: على عزت بيجوفيتش
730
لا تقترح .. بل انطرح | مرابط
مقالات

لا تقترح .. بل انطرح


نعم من نظر إلى الكون من حوله فرآه مملكة صاغرة خاضعة في قبضة ملك عظيم مهيمن يدبر أمره بحكمة وإحكام لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء كل من فيه له عبيد ولا يكون في ملكه وسلطانه إلا ما يريد سكنت نفسه واطمأن قلبه وهنأ عيشه واستعذب مرارة الحياة وتذوق الحياة بمذاق عجيب لا يعرفه إلا من جربه!!

بقلم: د. جمال الباشا
1410
كلام محرج للاختلاطيين | مرابط
مقالات المرأة

كلام محرج للاختلاطيين


هل مجرد وجود الرجال والنساء في مكان واحد بغير تقارب لا يدخل في الاختلاط المحرم؟ هل المقصود بالاختلاط المحرم في كلام العلماء هو الامتزاج والتلاصق وتقارب الرجال بالنساء وذلك مثل ما يوجد في عامة الأفراح أو ما يوجد في الجامعات المختلطة من التقارب والتلاصق أو ما يوجد في الموالد؟ هل مجرد وجود النساء والرجال تحت سقف واحد بغير تقارب بأن يكون هؤلاء في جانب وهؤلاء في جانب ليس هو الاختلاط المنهي عنه في كلام العلماء أصلا؟ يجيبكم الشيخ قاسم اكحيلات.

بقلم: قاسم اكحيلات
564
الإنسان في تصوير الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين فكر اقتباسات وقطوف

الإنسان في تصوير الإسلام


الإنسان في تصوير الإسلام هو ذلك الكائن المزدوج الطبيعة المكون من قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله ممتزجتين مترابطتين غير منفصلتين ومن ثم لا يكون قبضة طين خالصة فيهبط كالجماد أو الحيوان ولا نفخة روح خالصة فيؤله أو يتأله

بقلم: محمد قطب
2490
اليمين الغربي واليسار الليبرالي | مرابط
فكر

اليمين الغربي واليسار الليبرالي


وكما أن الليبرالية كانت وثن الإسلاميين الحركيين والحداثيين قبلا سيكون اليمين وثن الإسلاميين التراثيين عما قريب والإسلام لا إلى ذلك ولا إلى ذاك وعلى المسلم إبصار سبيله ومعرفة الحق من الضلال وامتلاك زمام المبادرة بالفهم على أن يقرأ للنقد من كان له أهل لا كل محب يتقافز شوقا لنصرة الدين ولا يعرف ما هو الدين أصلا ولا يضبط أدنى إشكالات الموضوع الذي ينوي القراءة فيه لهذا الطرف أو ذاك

بقلم: عمرو عبد العزيز
758