بدا من كتابات هوليوك، وقبله من استقراء الدواعي التي أدت إلى سبك هذا المصطلح، وصياغته دلاليا، وبثّه معرفيا، وتأسيسه واقعيًا، وتقديسه قيميًا، أنه متصل اتصالا وطيدًا برفض الوصاية المتجاوزة (للعالم) على المفاهيم المؤسسة لمعرفة الإنسان وحركته ضمن سعيه إلى الحقيقة والمنفعة. إن أفكار الإنسان وعمله، في الدائرة الصغرى (السياسة) أو الكبرى (الحياة بمعناها الأوسع) يجب أن تنطلق من حقيقة حق وصاية الإنسان على نفسه. وهي تزعم أن جوهرها دعوة للإنسان أن يعود إلى نفسه وألا يغترب عنها بالخضوع لما وراء الكون.
جوهر العالمانية
لهوليوك عبارات صريحة ومحكمة في بيان هذا التصور المبدئي الذي يُشكل الماهية الثابتة للعالمانية، فقد قرر أن العالمانية هي دراسة سبل تحقيق الرفاهة البشرية فحسب، باستعمال الوسائل المادية، وأنها مرتبطة بحاضر الإنسان، وتعمل ضمن أدوات من الممكن اختبارها ماديا في هذه الحياة. تشجع العالمانية -كما يقول- الإنسان على ألا يثق إلا في العقل وألا يثق في ما لا يدعمه العقل. ويقرر في عبارة مُركّزة تختصر العالمانية إبستمولوجيا:
لا تقبل العالمانية سلطانا غير سلطان الطبيعة، ولا مناهج غير مناهج العلم والفلسفة، ولا تحترم في التطبيق قانونا غير قانون الضمير كما تكشفه البداهة البشرية
ووافق غرايم سميث جوهر تعريف هوليوك بقوله: "العالمانية طريقة نظر إلى العالم والحياة لا تحيل إلى المعتقدات فوق-الطبيعية"
فالعالمانية تلزم العقل أن يحصر آلة الوعي والتدبير فيه ضمن حدود الأسباب المادية لعالمنا المادي.
وعرف شلدون -في موسوعته السياسية- العالمانية بأنها:
فلسفة أو نظرة عالمية تُشدّد على المنظورين الأرضي والإنساني في مقابل الروحي أو الديني، لتفسير المجتمع والسياسات. وكثيرًا ما يشار إليها على أنها الأنسنة والتي هي مقاربة عالمانية تلغي الإله والإلهي وفوق الطبيعي والرؤى الدينية الأخرى أو تتجاهلها عند مناقشة السياسة أو مباشرتها
وذهب الفيلسوف الوجودي بولس تلش إلى أن "السيكولاري هو ميدان الاهتمامات المبدئية. وأنه يفتقد اهتماما نهائيًا؛ إنه يفتقد المقدس..، يبدو أن المقدس والسيكولاري يلغي كل منهما الآخر".
وجاء في الموسوعة الأمريكية:
العلمانية نظام أخلاقي مستقل مؤسس على مبادئ من الأخلاق الطبيعية، مستقل عن المظهر الديني أو فوق الطبيعي... إنها تؤكد القوى المادية في هذه الحياة التي لا يمكن إهمالها دون الوقوع في حماقة أو مضرة، ومن الحكمة والرحمة والواجب الاعتناء بها. إنها لا تصارع المعتقدات المسيحية، كما أنها لا تقول: إنه لا يوجد هاد أو منقذ إلا في هذه الطبيعة. إنها تؤكد بالأحرى أن هناك نورا وهدى في الحقيقة العالمانية التي توجد شروطها وقوانينها بطريقة مستقلة، وتعمل بطريقة مستقلة وإلى الأبد
ولعل أفضل تعريفات علماء الاجتماع للعالمانية قول ن. ت. مدان إن العلمنة (وهي آلية تحويل الواقع إلى حال العالمانية) تحيل دلاليًّا عادة إلى العمليات الاجتماعية-الثقافية التي توسع مجالات الحياة (المادية والمؤسسية والفكرية) التي يضيق فيها طرديا دور المقدس.
يستخلص من التعريفات السابقة أن جوهر العلمانية يتمثل في النقاط الآتية:
-الحقيقة النفعية موجودة داخل العالم: يجب أن يتوجه الإنسان إلى العالم وأشيائه في سعيه إلى اكتشاف الحقيقة النفعية التي تتحقق الرفاهة البشرية عند العلم بها؛ وكل انصراف إلى ما وراء العالم لتحقيق السعادة العاجلة هو انحراف عن مجال العمل البشري الجاد لتحقيق السعادة الحقيقة.
-وجوب السعي إلى تحصيل المنافع الدنيوية: بيّن هوليوك جوهرية هذا المبدأ بقوله: إنه سواء أكانت هناك منفعة خارج هذا العالم أم لا؛ فإن الإنسان ملزم بتحصيل المنفعة الموجودة في العالم الدنيوي فالجهد الإنساني يجب ألا يتوجه إلى البحث عن غايات وراء العالم.
-السبيل إلى المعرفة داخليا ضمن العالم: وهو مبدأ معرفي عبر عنه هوليوك بقوله: دراسة الطبيعة كاشفة لقوانين الطبيعة. وقوانين الطبيعة تقدم التوجه الآمن للبشرية. واحتكار العلم بذلك للرؤية الكونية علامة على تعلمن الواقع.
-نزع سلطان المقدس عن الوعي الإنساني، باعتبار أن وجود المقدس المتعالي على العقل والتجربة مصادم للمبدأ العالماني الذي ينزع إلى فك السحر عن العالم
-جوهر العالمانية كامن في إدراك القوانين المادية للكون واستخراج الأخلاق النفعية في الوجود البشري: يقول هوليوك "تتمثل أهداف العالمانية في تنظيم الشؤون البشرية باعتبارات بشرية بحتة تقوم مبادئها على الطبيعة وهدفها صناعة إنسان مثالي قدر الإمكان في هذه الحياة"
-العقل الإنساني هو الوسيلة الوحيدة لإدراك حقيقة العالم وسبيل المنفعة: الملكات الإنسانية البحتة هي الأداة القصرية لإدراك الحقيقة، فلا ينافسها في ذلك دين أو تراث. وقد كانت العالمانية الوريث الشرعي لعصر التنوير المسمى أيضًا بعصر العقل. ليحل العقل مكان الكنيسة، والفيلسوف مكان رجل الدين، والتجربة مكان الدعاء. وقد عبر إمانويل كانط عن هذا التنوير بأنه "تحريرنا من الوصاية التي فرضناها على أنفسنا والتي هي حال العجز عن استعمال إدراكنا الخاص من غير توجيه من شخص آخر" كما استعمل عالم الاجتماع ماكس فيبر كلمة عقلنة تقريبًا دائمًا مرادفًا للعلمنة؛ إذ هما عنده وجهان لمبدأ واحد.
-لا خلاص إلا بالعلم: عبر هوليوك عن هذا المعنى بعبارة تكشف استبطانا لتراث نصراني مرفوض "ولّى زمن الصلاة من أجل الخلاص الدنيوي.. من الواضح أن العون الوحيد المتاح للإنسان والسند الوحيد الذي من الممكن الاعتماد عليه هو العلم"
المصدر:
- العالمانية طاعون العصر، د. سامي عامري، ص95