من مقتضيات ومعاني التفضيل لهذه العشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فيها محترزات ومنهيات في بعض الأعمال, فالزمن والمكان الذي يقع فيه نهي بفعل من الأفعال آكد من غيره؛ لأن هذا تعظيم له, ومكة أعظم من غيرها؛ لأنها حرم, فيحرم أن ينفر الصيد, وكذلك أن يعضد الشوك ونحو ذلك.
وكذلك أيضًا أن يلحد الإنسان فيها بشيء من الذنوب, وكلما عظم ذنبه في الحرم عظم جرمه عند الله عز وجل؛ ولهذا فالمعنى الصحيح في معنى الإلحاد في الحرم أنه يشمل جميع الذنوب, وكلما عظمت عظمت عند الله جل وعلا العقوبة, والله جل وعلا يجعل العقوبة مساوية لذلك العمل.
ولا يقال: إن الإنسان إذا أذنب ذنبًا يسيرًا في الحرم, أن الله عز وجل يعاقبه بعقاب كمن ارتكب جريرة عظيمة, ولكن الله عز وجل يزيده عقابًا عن غيره مما لو كان في غير الحرم, وإنما قلنا في هذه العشر: إنها آكد وأفضل من غيرها؛ لأن الله عز وجل حث فيها على العمل بذاتها, ونهى عن أعمال فيها, فإذا اجتمعت في زمن معين أو في مكان معين دل على عظمته.
والمنهيات في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من أراد أن يضحي -فرأى هلال ذي الحجة- فعليه ألا يأخذ شيئًا من شعره وظفره؛ حتى يضحي، وهذا دليل على فضل هذه الأيام العشر.
كذلك أيضًا فإنه يستحب للإنسان في هذه الأيام العشر الإكثار من الصلاة, وما يفعله الإنسان معتادًا من عبادة في غيرها فإنها فيها آكد وأعظم, فالإنسان مثلًا الذي يؤدي النوافل المطلقة, أو يؤدي مثلًا تحية المسجد, أو السنن الرواتب وغير ذلك, فإنها أعظم أجرًا من غيرها, فهذا هو المقتضى, فإن الفضل إذا جاء للنوافل المطلقة وهي أعظم من غيرها, فإنه يكون في المقيدة من باب أولى.
وهل يقال: إنها تضاعف أو تعظم؟
لا يثبت في ذلك نص عن النبي عليه الصلاة والسلام في مضاعفتها, وإنما نصه في تعظيمها, والدليل على هذا ما جاء في حديث عبد الله بن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما من أيام العمل فيهن أحب), جاء في لفظ: (أعظم), إذًا المعنى في ذلك التعظيم وليس المضاعفة.
ولهذا نقول: إن الفريضة على ما هي عليه مما شرعه الله جل وعلا، والأمر في ذلك على التعظيم ولا يكون ذلك تضعيفًا, جاء في ذلك جملة من الأخبار في تضعيف العبادة في العشر, جاء في حديث عبد الله بن عباس، وجاء في حديث أنس بن مالك، وجاء أيضًا في حديث رجل من بني مخزوم وهذه كلها معلولة.
وقد جاء في حديث سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر, فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير وذكر الله والصلاة والصيام؛ فإن صيام يوم فيها أعظم من صيام سنة, أو كصيام سنة), وهذا الحديث منكر، وقد جاء عند البيهقي من حديث أنس بن مالك، ورواه البيهقي من حديث الأوزاعي عن رجل من بني مخزوم, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكنه قد جعل عمل اليوم بألف, ويوم عرفة بعشرة آلاف، وهذا خبرٌ منكر؛ فإنه رواه الأوزاعي قال: أخبرني به رجل من بني مخزوم, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإسناده فيه مجهول.
ولهذا نقول: إن التضعيف للعمل في عشر ذي الحجة لا يثبت فيه عن النبي عليه الصلاة والسلام خبر, والثابت في ذلك التعظيم؛ وذلك أنه مقتضى المحبة في قوله: (أحب), وكذلك مقتضى التعظيم أو هو ظاهر التعظيم في قوله: (أعظم عند الله من هذه الأيام العشر).
وكذلك أيضًا من وجوه التعظيم: أن الزمن أو المكان إذا جاء فيه حث أو حظ على أعمال تعبدية, دل على فضل هذا الزمن أو فضل هذا المكان، وقد جاء الفضل عمومًا عن النبي عليه الصلاة والسلام بالأعمال في قوله: (العمل فيهن), و(أل) في قوله: (العمل) للاستغراق شامل لجميع أنواع الأعمال الظاهرة والباطنة, وجاء مفصلًا ذلك في معنى الذكر, والصدقة من النحر, والصيام وغير ذلك.