أصول الليبرالية

أصول الليبرالية | مرابط

الكاتب: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

2280 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

الفكر الليبرالي فكر عائم يعتمد على حق الفرد الواحد في اختيار ما يريد؛ ﻷنه هو الخالق لأفعاله، ولهذا فهو لا يُقر بوجود مقدّس مشترك معيّن منضبط، لا رب ولا كتاب ولا نبي ولا غير ذلك، سواء كان مفكرًا أو غيره، ولا دستور لا يحتمل التغيير متى ما احتيج إلى تغييره، ولا يمكن ضبط هذا الفكر ضبطا دقيقًا حتى لدى الفرد الواحد إلا في لحظة واحدة؛ ﻷنه ربما بعد تلك اللحظة يتحول عن كل معتقداته، وله الحق في ذلك، فيتغير معه ضبط الفكر أصولا وفروعًا.

 

أصول الليبرالية ومآلاتها

 

والفكر الليبرالي يقرر أن الإنسان هو الذي يُحدث أفعاله ويختارها ابتداء، من غير أن تكون مقدّرة عليه قبل ذلك؛ أي: سابقة في علم الله، ويرفض الليبراليون تفسير أفعال الأفراد تفسيرًا سببيًا، ويعللون ذلك بأنه لو صح التفسير الحتمي للأفعال لانعدمت مسؤولية الفرد عن أفعاله، والعجب أنهم مع إيمانهم بقانون السببية الذي يضبط الطبيعة إلا أنهم يستثون الإنسان منه والمتأثرون بالفكر الليبرالي من الشرقيين لا يتحدثون عن هذا الأمر كثيرًا مع اقتناعهم به؛ لموافقته اعتقاد القدرية المعتزلة الذين ينفون القدر، وينفون علم الله بالحادثات المستقبلية من الإنسان إلا عند حدوثها.

 

والحق الذي يشهد به القرآن والسنة وتُجمع عليه الأمة أن أفعال العباد من خلق الله وإيجاده، وهي من العباد فعلا وكسبًا، وهم الفاعلون لها، وهذا لا ينفي تقدير الله وعلمه بها، قال تعالى "والله خلقكم وما تعملون" فالله أضاف العمل إليهم، وﻷن العمل حاصل بإرادة الله وتقديره وقدرته كان خالقًا له، ومن قال: إن الإنسان يخلق أفعاله من دون الخالق سبحانه، فقد جعل في الكون خالقين، وهي عقيدة المجوس.

 

وعادة الفكر الليبرالي عدم إثارة أمور الغيب الإلهي والاقتصار على المادة وما دونها، ولهذا لا يرغب أكثرهم في الحديث عن الخالق سبحانه، وأمور الآخرة والدين.

 

وبالرغم من تشعّب الفكر الليبرالي وتشتته إلا أن من مبادئه أن الأصل في السلوك والممارسات إمكان الانضباط، حتى في سلوك الحيوان البهيم، فلجميع أنواع الحيوان غير العاقل سلوك يمكن ضبطه، ويظهر هذا في مواضع كثيرة في القرآن؛ كما في قوله تعالى عن النمل "قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وجنوده وهم لا يشعرون" فثمة آمر ومأمور، وساكن ومسكون، ونطق ومنطوق، وحد للسمع والطاعة.

 

وقد صنف غير واحد من الفلاسفة والكتاب في سلوك الحيوان وانتظام عمله، وهذا يدركه من نظر في كتاب "الحيوان" لأبي عثمان الجاحظ (ت255 هـ)، و"حياة الحيوان الكبرى" لأبي البقاء الدّميري (ت808 هـ) "وسلوك الحيوان" لجون بول سكوت. والإنسان العاقل مهما كان منفلتًا يمكن ضبط سلوكه وتصرفاته، ولو في دائرة عامة عريضة الاتساع، كذلك الفكر الليبرالي لا يخرج عن هذا التأصيل، وبمجموع فلسفات العقل الليبرالي وممارساته فأصوله التي يُحاكم إليها أربع لا يخرج عنها بجميع تطبيقاته كما يأتي بيانها.

 

الليبرالية الشرقية

 

وكثير من الليبراليين الشرقيين لا يُحسن إرجاع شتات أفكاره وفروع أقواله وأفعاله ولوازمها إلى أصول صحيحة ثم يحاكمها إلى العقل الصحيح، والنقل الصريح، فيعرف حدوده التي له والحدود التي عليه، وبعضهم يدرك أصلا أو أصلين ولا يدرك الباقي، وبعضهم يدرك ممارسات قليلة يحتاجها من كل أصل، وعند الاصطلاح يأخذ المفهوم الليبرالي على النحو الغربي الذي يتعامل مع الليبرالية كأصل واحد مبدؤه العقل ومنتهاه العقل.

 

ومن البدهيات العقلية أن من لم يقم بالتحليل فإنه يشق أو يتعذر عليه التركيب، فتحليل الأفكار يُسهّل فهمها، وأعمق الناس معرفة في الماديات والمعارف من عرف الشيء بتحليل أجزائه ثم تركيبها، والفكر الليبرالي فكر فضفاض متحلل إلى جزئيات عريضة في أذهان معتنقيه، يتعاملون مع كل جزئية من تطبيقاته على انفراد، وإن أحسنوا إرجاعها إلى الأصل الليبرالي العام، ولهذا يقعون في تناقضات كبيرة جدا في تقرير الإيمان بالله والعبادة له وحده، وفي العلاقة مع الآخرين ومع أفعال الذات نفسها؛ لأن تلك الجزئيات غير مرتبطة ببعضها تحت أصل.

 

والأصل يوازيه أصول، وتحت الأصول الأخرى جزئيات كبيرة، وقد تجد ليبراليا يجيز الانتحار (قتل النفس) وآخر لا يجيزه، وآخر يقر أنظمة الحكم الملكي، بل يعمل على سنّ أنظمتها، وآخر يحاربها، وآخر يجيز قمع المخالفين بالرأي له وسجنهم؛ ﻷن حريتهم تتقاطع مع حريته، وآخر يراها ديكتاتورية، وآخر يجيز الزنا، وآخر لا يجيزه، وغير ذلك كثير، وهذا من أكبر وجوه الخطأ في الليبرالية التي جعلتها غير منضبطة.

 


 

المصدر:

  1. العقلية الليبرالية في رصف العقل ووصف النقل، عبد العزيز بن مرزوق الطريفي، ص 143
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية
اقرأ أيضا
ضرر علم الكلام على العوام | مرابط
اقتباسات وقطوف

ضرر علم الكلام على العوام


ليس على العوام أضر من سماعهم علم الكلام وإنما ينبغي أن يحذر العوام من سماعه والخوض فيه كما يحذر الصبي من شاطئ النهر خوف الغرق وربما ظن العامي أن له قوة يدرك بها هذا وهو فاسد فإنه قد زل في هذا خلق من العلماء فكيف العوام؟! وما رأيت أحمق من جمهور قصاص زماننا فإنه يحضر عندهم العوام الغشم فلا ينهونهم عن خمر وزنا وغيبة ولا يعلمونهم أركان الصلاة ووظائف التعبد بل يملؤون الزمان بذكر الاستواء وتأويل الصفات وأن الكلام قائم بالذات فيتأذى بذلك من كان قلبه سليما.

بقلم: ابن الجوزي
402
الاشمئزاز الشافعي من شبهات المتكلمين | مرابط
مناظرات

الاشمئزاز الشافعي من شبهات المتكلمين


في ذيل مناقب الشافعي للبيهقي ذكر مناظرة الإمام الشافعي مع بشر المريسي وفيها أن بشر المريسي سأل الشافعي سؤالين فلما أجابه الشافعي جوابا شافيا عنهما قال بعدها: وإن قلب امرئ لا يشمئز من سؤاليك هذين: لقلب بعيد من بركات اليقين.

بقلم: د. تميم بن عبدالعزيز القاضي
619
إثبات الحجة لا يستلزم الإقرار | مرابط
اقتباسات وقطوف

إثبات الحجة لا يستلزم الإقرار


إن إلقاء الحجة مع بيان ووضوح يفهمها المجادل والسامع لو أرادا الفهم - كاف في قيام التكليف عليه لذا لما كان أعظم تكليف - وهو الإسلام - يكفي في ثبوته الإسماع على وجه ولغة يفهمها المخاطب قال - تعالى -: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله التوبة:6

بقلم: عبد العزيز الطريفي
906
ضعف العقل وإدراك الحكمة الإلهية | مرابط
تفريغات

ضعف العقل وإدراك الحكمة الإلهية


إن عقل الإنسان هو كحال الإناء منه ما يمكن أن يضعه في الإناء ويستوعبه ومنه ما لا يستوعبه الإنسان وما لا يستوعبه الإنسان ككثير من الحكم الإلهية في خلق الله سبحانه وتعالى للكون وكذلك العلل التي لا يدركها الإنسان فعقل الإنسان إذا أراد الإنسان أن يعرف قدره فلينظر إلى حجمه من الكون حتى يدرك مقدار العقل الذي يمكن للإنسان أن يستوعب الحكم الإلهية من خلق المخلوقات وإجراء المجرات وسير هذه الكواكب والأفلاك وما جعل الله عز وجل فيها من سنن إلهية قدرية تحير الألباب.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
337
لا تكن حبشرطيا | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

لا تكن حبشرطيا


إن الحبشرطي يحب الله تعالى طالما أنه يمكن استمرار نعمه ودفع نقمه -في نظره- بهذه الموازنة والمد والجزر لذلك سميناه الحبشرطي أي: أنه يحب الله -عز وجل- حبا مشروطا مشروطا باستمرار النعم مشروطا باستمرار المصالح الدنيوية خاصة فإن نفسية الحبشرطي قلما تتذكر الآخرة

بقلم: د إياد قنيبي
2297
الجهل بأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان | مرابط
أباطيل وشبهات اقتباسات وقطوف

الجهل بأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان


الابتلاء في هذه الحياة مثل الكأس وكل الناس شارب منه ولا بد لكنه يتفاوت من شخص إلى آخر حسب قوة إيمانه ويقينه وحقيقة نفسه التي يخرجها الله بهذه الامتحانات وهذا من ضمن أسباب إشكالية وجود الشر التي أثارها الكثير من الفلاسفة بين يديكم مقتطف يعالج فيه الكاتب هذه المسألة

بقلم: م أحمد حسن
669