الأسس الفكرية لليبرالية: العقلانية

الأسس الفكرية لليبرالية: العقلانية | مرابط

الكاتب: د عبد الرحيم بن صمايل السلمي

1920 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

دور العقل الليبرالي

تعني العقلانية: استقلال العقل البشري بإدراك المصالح والمنافع دون الحاجة إلى قوى خارجية، وقد تم استقلاله نتيجة تحريره من الاعتماد على السلطة اللاهوتية الطاغية.

وهذا التصور العلماني لدور العقل جعله في مقابل الدين، يقول بيكون "كما أن الماء ينزل بعضه من السماء، وينبع بعضه من الأرض، كذلك علم الإنسان، يستفاد بعضه بالعقل والبعض الآخر بالوحي الإلهي" (1)، ويقول ديكارت "إن مبدأ العلم الطبيعة، وموضوعه استغلال قوى الطبيعة، وأدواته الرياضة والتجربة، ويخص الدين بمصائر النفس في العالم الآخر، ويعتمد على الاعتقاد والتسليم فلا مضايقة بين العلم والدين، ولا سلطان لأحدهما على الآخر" (2)

بداية التحرر الفكري

ويعتبر الفكر الديكارتي البداية الأولى للتحرر الفكري من الدين، والبحث عن مصادر أخرى للمعرفة غير المصدر الديني، يقول جون لويس "إن ديكارت أحل البحث الحر محل الخضوع للسلطة، والبرهنة العقلية محل الإيمان، وهو بذلك مؤسس فلسفة التنوير"(3)

وتعتبر العقلانية من مكونات الليبرالية بالمفهوم المتقدم، ويؤكد ذلك قول جون لوك "من استبعد العقل ليفسح للوحي مجالا فقد أطفأ نور كليهما، وكان مثله كمثل من يقنع إنسانا بأن يفقأ عينه، ويستعفي عنهما بنور خافت، ويتلقاه بواسطة المرقب من نجم سحيق" (4)

ونلاحظ أن الاعتماد على العقل وتحييد الدين جاء بصورة متدرجة، ولكنه استحكم في عصر التنوير، وزاد ترسيخه كمصدر وحيد للمعرفة في القرن التاسع عشر الذي هو قمة الهرم الليبرالي.

وقد أصبح الاعتماد على العقل المجرد وإقصاء الدين والقيم والأخلاق سمة من أبرز سمات الفكر الأوروبي المعاصر.

وتبدو العقلانية في الفكر الليبرالي من خلال ما يلي:

أولًا: أن الحقوق الأساسية للفرد تستند إلى القانون الطبيعي، وهو قانون مادي يرى فيه الليبراليون الأساس الفلسفي لهذه الحقوق، فالناس في حالة الطبيعة الأولى لهم حقوق طبيعية كحق الحرية الشخصية، وحق الملكية الخاصة وغيرها.

وقد ربط الليبراليون السياسة والاقتصاد بهذا الأساس الفلسفي، فالدولة تتكون بالعقد الاجتماعي المنظم لهذه الحقوق والمحافظ عليها، والحرية الملكية الفردية تقوم الطبيعة بجعلها مصلحة المجتمع مع أن الفرد لم يقصد ذلك، ولا يعرف كيفية حصوله.

والمقصود أن الحريات هي حقوق مستندها الشرعي الطبيعة، وليس أمرًا خارجيًا عن الطبيعة المادية المشاهدة، وطريق معرفة الطبيعة بالعقل وأدواته كالحس والتجربة. 

يقول جورج سول "وصار لزامًا على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك، ووجدوه في الطبيعة، أما الذين ظلوا على استمساكهم بالدين، ولو باللسان وإن لم يكن في الواقع كما فعل أغلبهم، فقد اعتقدوا أن الله يعبّر عن إرادته عن طريق الطبيعة وقوانينها، وليس بوسيلة مباشرة، وبهذا لم تعد الطبيعة مجرد شيء له وجود فحسب، وإنما هي شيء ينبغي أن يطاع، وصارت مخالفتها دليلا على نقص في التقوى والأخلاق، ومازلنا حتى اليوم نستعمل عبارة السلوك غير الطبيعي في هذا المعنى" (5) 

ثانيًا: أن الدولة محايدة فيما يتعلق بالاعتقاد الديني؛ ﻷن الحرية تقتضي عدم القطع واليقين؛ ﻷنه لا يمكن الوصول للحقيقة إلا بواسطة العقل من خلال التجربة، فالإنسان قبل التجربة يجهل الكليات العامة والمطلقات المجردة، وهذا ما يجعله غير قادر على القطع، ويسمى هذا المبدأ "مبدأ التسامح" (6)، وحقيقته إلغاء الالتزام الديني؛ ﻷنه أعطى الإنسان الحق في اعتقاد ما شاء وإعلانه، وعدم تكفيره ولو كان إلحادًا، ويجب على الدولة أن تكفل هذا الحق لمواطنيها؛ ﻷن الدولة تكوّنت للمحافظة على الحقوق الطبيعية للأفراد، وهذا يقتضي أن تكون محايدة من كافة الأديان والمذاهب (7)

ولا شك أن الأساس الذي بنى عليه ما تقدم هو العقل المجرد، وهو عقل مادي لا يؤمن بغير المحسوسات، ويرى أن الدين مبني بناء غير علمي؛ فلا يصح جعله مصدرًا للمعرفة.

ثالثًا: أن القانون الذي يضبط الحرية من الانفلات -عند كل الاتجاهات الليبرالية- هو قانون وضعي يعتمد على العقل المجرد في التشريع، فالمصدر الوثيق في القانون وفي المجال الخاص للفرد هو العقلانية، يقول فولتير "إن التوحيد بين الدين والدولة لهو أبشع نظام؛ لذلك يجب إلغاؤه وإقامة نظام آخر يخضع فيه رجل الدين لنظم الدولة، ويخضع فيه الراهب للقاضي" (8)، ويقول "إنه لا يمكن طاعة البشر باسم طاعة الله، لا بد من طاعة البشر باسم قوانين الدولة" (9)

وهو لا يعني بذلك دينًا محرفًا يعتبر الأشخاص مكان الله تعالى، بل يريد عموما الأديان ولهذا يقول في موضع آخر "من الواضح أن الله لم يكن قويًا جغرافيًا" (10)، ويقول عن العبادات الدينية "إن الطقوس والشعائر والعبادات والاحتفالات الدينية جرائم محلية يعاقب عليها كل من يزاولها لأنها ضارة بالمجتمع خاصة إذا تمت بصورة أضاح وقرابين" (11) 

وهذا النص يدل على عدم التزام الليبراليين بحرية الآخر، وهي صورة ومثال متكرر عند دعاة الحرية المزعومة، وموقف معروف ضد من يخالفهم..

وقد تكوّن عند الليبراليين دين جديد سموه "الدين الطبيعي" وهو دين عقلي، يقدس العقل ويضعه موضع التعبد، وفي ذلك يقول فولتير "إن الدين الوحيد الصحيح الناتج من استعمال العقل هو التنزيه المطلق الذي يظهر في الأخلاق العملية"(12)

وقد تكونت علاقة الليبرالية بالعقلانية عبر ثلاث مراحل هي:

1- مرحلة التحديث، واتسمت بسيطرة الفكر النفعي على جوانب الحياة، من خلال الزيادة المطّردة في الإنتاج، ودعم الحرية الفردية المادية كفكرة عملية تزيد في الإنتاج المادي، ولذلك ظهرت الدولة القومية العلمانية في داهل أوروبا والاستعمار في الخارج لضمان هذا الهدف، وانعكس ذلك على الأخلاق والأسرة.

2- مرحلة الحداثة، وهي استمرار للمرحلة السابقة، مع تعميق آثار الفردية النفعية، وفي هذه المرحلة واجهت الدولة القومية تحديات من جراء حركة السوق غير المنضبط والخالي من القيم، وتبدل الاستعمار المباشر باستعمار سياسي واقتصادي وثقافي، واتجه السلوك العام نحو الاستهلاك.

3- مرحلة ما بعد الحداثة "حيث الاستهلاك هو الهدف النهائي من الوجود ومحركة اللذة الخاصة، واتسعت معدلات العولمة (13) لتتضخم مؤسسات الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية الدولية وتتحول القضايا العالمية من الاستعمار والتحرر إلى قضايا البيئة والإيدز وثورة المعلومات، وتضعف المؤسسات الاجتماعية الوسيطة مثل الأسرة، لتحل محلها تعريفات جديدة للأسرة: رجلان وأطفال، امرأة وطفل، امرأتان وأطفال...، كل ذلك مستندا على خلفية من غياب الثوابت والمعايير الحاكمة لأخلاقيات المجتمع والتطور التكنولوجي الذي ينتج بدائل لم تكن موجودة من قبل في مجال الهندسة الوراثية" (14)

وبعد ذلك أصبحت الليبرالية العقلانية "رؤية شاملة للواقع تحاول بكل صرامة تحييد علاقة الدين والقيم المطلقة والغيبيات بكل مجالات الحياة، ويتفرع عن هذه الرؤية نظريات ترتكز على البعد المادي للكون، وأن المعرفة المادية: المصدر الوحيد للأخلاق، وأن الإنسان يغلب عليه الطابع المادي لا الروحي"(15) ومما يؤكد هذه الرؤية الارتباط القوي بين الليبرالية والرأسمالية.


الإشارات المرجعية:

  1. عن الفلسفة الحديثة ص94
  2. العلم والدين في الفلسفة المعاصرة، ص19
  3. عن الفلسفة الحديثة ص154
  4. عن قضية النزاع بين العلم والدين ص214
  5. المذاهب الاقتصادية الكبرى ص51
  6. قرر هذا المبدأ جون لوك في كتابه "رسالة في التسامح"
  7. انظر: مشكلة الحرية ص233
  8. تراث الإنسانية 75/8
  9. المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة
  10. المرجع السابق 78/8
  11. المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة
  12. تراث الإنسانية 75/8
  13. العولمة نتيجة لليبرالية الكلاسيكية وانعكاس لها
  14. العلمانية، د. عبد الوهاب المسيري
  15. المرجع السابق

المصدر:

  1. د. عبد الرحيم بن صمايل السلمي، حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها، ص153
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية #العقلانية
اقرأ أيضا
الاجتماع بالأصحاب | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاجتماع بالأصحاب


وبالجملة فالاجتماع والخلطة لقاح إما للنفس الأمارة وإما للقلب والنفس المطمئنة والنتيجة مستفادة من اللقاح فمن طاب لقاحه طابت ثمرته وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من الملك والخبيثة لقاحها من الشيطان وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين للطيبات وعكس ذلك

بقلم: ابن القيم
182
تعلمت من أوقات الفراغ | مرابط
فكر مقالات

تعلمت من أوقات الفراغ


أوقات العمل تملكنا ولكننا نحن الذين نملك أوقات الفراغ ونتصرف فيها كما نريد فهي من أجل هذا ميزان قدرتنا على التصرف وميزان معرفتنا بقيمة الوقت كله وليست قيمة الوقت إلا قيمة الحياة فالذي يعرف وقته يعرف قيمة حياته ويستحق أن يحيا وأن يملك هذه الثروة التي لا تساويها ثروة الذهب لأن مالك وقته يملك كل شيء ويصبح في حياته سيد الأحرار

بقلم: عباس محمود العقاد
3627
لا يقبله العقل | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

لا يقبله العقل


تعد معارضة نصوص الوحي بالعقل واحدة من أعظم أبواب الانحراف وأحد مسببات الضلال الكبرى فإذا ما أورد نص شرعي على بعض الناس ولم يستوعبه عقله بادر قائلا: هذا الكلام لا يقبله العقل قاصدا رد دلالة ذلك النص والطعن فيه وفي المقال رد على هذه الشبهة وتفصيل لأصلها بأسلوب علمي دقيق

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
1640
تعدد طرق الضلال | مرابط
اقتباسات وقطوف

تعدد طرق الضلال


الشبهات هي شبهات عظيمة في ذاتها وشبهات هي يسيرة في ذاتها ولكنها عظيمة في قلب الإنسان لقلة معرفته بالحق فالله سبحانه وتعالى جعل للإنسان طريقا مختصرا بينا يميز به الإنسان الخير من الشر ويجعل هذا الطريق هو طريق الفيصل بين الطرق كلها وقد ذكر الله عز وجل في هذه الآية أن الصراط صراط واحد وأما السبل فهي متعددة لأن طريق الحق هو طريق واحد كحال العافية فالعافية واحدة وأما الأمراض فمتعددة

بقلم: عبد العزيز الطريفي
141
القرآن والعلم | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر مقالات

القرآن والعلم


تتجدد العلوم الإنسانية مع الزمن على سنة التقدم فلا تزال بين ناقص يتم وغامض يتضح وموزع يتجمع وخطأ يقترب من الصواب فلا يطلب من كتب العقيدة أن تطابق مسائل العلم كلما ظهرت مسألة منها لجيل من أجيال البشر ولا يطلب من معتقديها أن يستخرجوا من كتبهم تفصيلات تلك العلوم كما تعرض عليهم في معامل التجربة والدراسة

بقلم: عباس محمود العقاد
1960
إبطال شبهات الدارونية | مرابط
فكر مقالات

إبطال شبهات الدارونية


للناس في كيفية نشأة الحياة مذهبان مذهب يرى ويؤمن بالخلق المباشر بمعنى أن الله خلق الكون وسائر الحيوان بقوله: كن فكان ما أراد سبحانه وعلى هذا المذهب علماء الأديان وأكثر علماء الطبيعة وذهب آخرون إلى أن نشوء الحياة في سائر الحيوان كان عن طريق النشوء البطيء وتحول أنواع وظهور أنواع جديدة وكان من أشهر القائلين بهذا الرأي العالم الفرنسي لامارك وظل هذا المذهب ضعيفا لا يقوى على الوقوف أمام مذهب أهل الأديان إلى أن جاء دارون فدفع مذهب التحول دفعة قوية للأمام عندما وضع سنة 1859م كتابه في أصل الأنواع بط...

بقلم: إسلام ويب
858