الأسس الفكرية لليبرالية: الفردية ج2

الأسس الفكرية لليبرالية: الفردية ج2 | مرابط

الكاتب: د عبد الرحيم بن صمايل السلمي

2240 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ثانيًا: الفردية الجديدة:

جاءت الفردية لإعلاء استقلال الفرد بذاته، من خلال تعبير كل فرد عن رؤيته الخاصة، التي تمثلت في حرية الفكر والتعبير والملكية والانتخاب، وهذا الفرد هو الذي يعينه رالف إمرسون في مقالته "الاعتماد على النفس" حين يوجه إليه كلامه قائلًا "إن العبقرية هي أن تؤمن برأيك، وأن تعتقد أن ما هو يقيني في نفسك إنما هو يقيني للناس جميعهم" (1)

وقد أراد إمرسون أن الفرد معبّر عن الإنسانية، وهو أداة نجاح لنفسه وللمجتمع، وتقوم هذه الرؤية الجديدة للفردية على أساس غير الأساس الأناني النفعي، وهذا الأساس الذي تقوم عليه هو اعتقاد وحدة الوجود في الإنسان؛ ﻷن الله تعالى موجود في روح الإنسان، ولهذا فالفرد متعال على الطبيعة وهو فوقها ومرتفع عليها (2)

وهذه الفردية الجديدة المنطلقة من الإنسان والمتعالية على الطبيعة نشأت في الولايات المتحدة الأمريكية مرتبطة بالفكر المتعالي البراجماتي وهي مختلفة عن الفردية التقليدية اختلافا كبيرًا.

فالفردية الجديدة لا تعتقد بأن هناك حالة طبيعية للإنسان تستبطن الفردية، وأنها تظهر بشكل تلقائي عند انعدام الإكراه كما يتصوره الاتجاه التقليدي، ولكنها ترى أن الفردية تتكون من خلال العمل، وثقة الإنسان بقدراته، والتحرر من قيود العالم الطبيعي، والتعالي عليه، واستشعار القدرة على فعل أي شيء بثقة تامة. 

كيف ظهر المفوم الجديد للفردية؟

وهذا التغير من الفردية القديمة إلى الفردية الجديدة فرضته ظروف مادية جديدة، وهي تطور الصناعة المذهل، والسيطرة على وسائل التقنية، وقد أدى ذلك لطمس صورة الفردية السابقة، لتظهر صورة جديدة للفردية فرضتها المعطيات الجديدة، والهيمنة الرهيبة للمادية (3)

وقد ارتبط هذا المفهوم للفردية بالتطور الصناعي في أمريكا، وبسبب وجود الفردية المتعالية أصبح الأمريكيون يشعرون أنهم ليسوا أفرادا عاديين، فالنموذج الفردي الأمريكي يعد طفرة في تاريخ الحضارات، وقدرات الحضارة الأمريكية خاصة تفوق كل الحضارات السابقة.

"ولعل خير تعبير عن هذه الطفرة مقولة فان ويك ركي في كتابة نبيذ المتطهرين: لقد شبينا نحن الأمريكيون جميعًا عن الطوق، ونحن بغير شك أكبر أجناس العالم نموًا ولكن يبدو أن بلادنا أمريكا لم تتمتع مطلقًا بطفولتها؛ لأن الكفاح من أجل الحياة لم يدع لنا فرصة غرس المشاعر الحية التي تتفوق تفوقًا بهيجًا على مصاعب الحياة، التي تتمثل بالنسبة لمعظمنا في السعي من أجل مادة الحياة دون أن نفكر في معنى الحياة ذاتها، فنحن نسعى وراء ما تجلبه لنا الحياة لا وراء الحياة ذاتها" (4) 

الفردية الأمريكية

ويقرر جون ديوي أن الفردية الأمريكية الجديدة مختلفة عن الفردية الأوروبية التقليدية بأنها أطلقت غرائز الإنسان الحيوانية، بينما أبقتها تقاليد أوروبا القديمة مغلولة خاضعة خضوعًا نظاميا لشيء أسمى يدعى بكثير من الإبهام: الروحانية(5)

يريد ديوي بالروحانية: النظرة التقديسية للفرد وحقوقه في الفردية التقليدية، والتي حطمتها المادية الأمريكية عبر براجماتيتها الشرسة التي ألغت كل المثل العليا للحريات الفردية. والتطور الصناعي واكتشاف الآلة هو المبرر الوحيد للتغير في مفهوم الفردية؛ ﻷن الحرية هي القدرة على التغير ومواكبة التحديث مع القدرة على العمل، فالصناعة هي سبب الغرور الأمريكي وتعاليه، وبالتالي فهي سر تميزه وحضارته؛ ولهذا ينبذ ديوي مقولة القائلين بأن الآلة الصناعية هي مصدر المتاعب للفرد، فيرى أنها مغالاة صبيانية من الروحانية الأوروبية، إذ إن الآلة تمنح قوة دافعة للأمام، وعند البدء في تخطيط منظم لإيجاد توازن بين ما تحققه الآلة من تقدم تكنولوجي، وبين تحقيق القيم المماثلة لهذا التقدم التكنولوجي فإن إنسانا جديدًا أو فردًا جديدًا في حالة تصالح مع معطيات العصر المعاش سيبدأ في النمو والتكون (6)

ملامح الفردية الجديدة

وتشترك الفردية الجديدة مع التقليدية في مادية الحضارة الغربية، وخلوّها من القيم الأخلاقية الحقّة، ونبذ الدين، وبناء الروابط الاجتماعية على المصلحة الذاتية الخاصة وغيرها، ولكن الفردية الجديدة تزيد عليها بأمور متعددة منها:

- ربط القيم الإنسانية بالعمل، واعتباره القيمة الصحيحة، والأمر المميز بين الفضائل والرذائل، وهذا التصور المادي يعلي من قيمة الرأسمالية باعتبارها فئة ناجحة من الناحية العملية، واعتبار أخلاقها الناتجة عن العمل هي الأخلاق الفاضلة.

- تبرير التغير الفكري بالآلة الصناعية، وأن التحديث الصناعي يقتضي تحديثًا فكريًا مطردًا، وأن مواكبة المتغيرات تقتضي تغيّرًا في الفكر، وهذا يدل على أنه لا يوجد ثبات في الفكر لأنه مقرون بأمر متغير.

- تعالى وغرور من يملك تطورًا تقنيًا على أساس أنه فرد متطور، ولهذا فإن محافظته على تعاليه وغروره يستلزم استعمال كافة أوجه القوة لبقائه على تميّزه.

وهذه الصفات موجودة في الحياة الأمريكية، وهي التي تمثّل الفردية الجديدة، وهي تجمع أنانية الفردية التقليدية وتزيد عليها البُعد العملي المادي.


الإشارات المرجعية:

  1. نقولا عن مفهوم الليبرالية عند جون ديوي ص165
  2. المرجع السابق ص167، ومن هذا المنطلق تكوّن الفكر الليبرالي المتعالي في الليبرالية الأمريكية المعاصرة
  3. انظر: الفردية قديمًا وحديثًا ص18
  4. تطور الفكر الأدبي الأمريكي في القرن العشرين ص108، نقلًا عن مفهوم الليبرالية عند جون ديوي ص169
  5. انظر: الفردية قديمًا وحديثًا ص27
  6. الفردية قديمًا وحديثًا ص92. وانظر مفهوم الليبرالية عند جون ديوي ص 170

المصدر:

  1. د. عبد الرحيم بن صمايل السلمي، حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها، ص146
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية #الفردية
اقرأ أيضا
قاعدة الخمس ثواني ج1 | مرابط
ثقافة

قاعدة الخمس ثواني ج1


كتاب اليوم اسمه قاعدة الخمس ثوان the 5 second rule مؤلفة الكتاب هي ميل روبينز والكتاب تحدث عن تكنيك أو خدعة نفسية بسيطة تسميها المؤلفة قاعدة الخمس ثوان والمؤلفة ابتكرت هذه القاعدة أو التكنيك خلال مرحلة سيئة في حياتها حيث سقطت من قمة النجاح إلى قاع الفشل وباستخدام هذا التكنيك عادت الأمور إلى مسارها من جديد وحققت نجاحا أكبر من السابق

بقلم: علي محمد علي
504
إثبات الحجة لا يستلزم الإقرار | مرابط
اقتباسات وقطوف

إثبات الحجة لا يستلزم الإقرار


إن إلقاء الحجة مع بيان ووضوح يفهمها المجادل والسامع لو أرادا الفهم - كاف في قيام التكليف عليه لذا لما كان أعظم تكليف - وهو الإسلام - يكفي في ثبوته الإسماع على وجه ولغة يفهمها المخاطب قال - تعالى -: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله التوبة:6

بقلم: عبد العزيز الطريفي
904
صيد الخاطر | مرابط
مناقشات

صيد الخاطر


أعدت قراءة صيد الخاطر في الأسابيع الماضية بشكل متقطع. ولكن بتمعن أو بالأحرى بعين أخرى غير تلك التي قرأت الكتاب قبل سنوات عين جديدة نسبيا وبأسئلة جديدة أكثر راهنية وأقل تجريدا. وصيد الخاطر لابن الجوزي من الكتب التي تستحق التكرار في مراحل عمرية مختلفة. وهو يقدم للقارئ خلاصات علمية وحصيلة تجارب وتأملات وخبرات حياتية شديدة الأهمية.

بقلم: عبد الله الوهيبي
260
الجندرة: مطية الشذوذ الجنسي | مرابط
الجندرية

الجندرة: مطية الشذوذ الجنسي


شاع استعمال مصطلح الجندر أو الجندرة في أدبيات العديد من الأقلام -خاصة النسائية وتم تداوله على نطاق كبير بمعنى مخالف لمعناه الحقيقي والغريب في الأمر أن غالب هذه الأقلام لا يعوزها سعة الإطلاع ولا حسن الفهم الشيء الذي يجعل تغليب حسن الظن أمرا متكلفا فما الدافع ترى لهذا التزييف أهو تمرير أجندة مشبوهة تحت ستار تقدمي مقبول أم هو استجابة لشهوة حب الظهور في المقاعد الأمامية لقطار النظام العالمي الجديد والانشغال بالتلويح باليدين -للجمهور المتفرج- عن النظر لما بداخل القطار

بقلم: نزار محمد عثمان
3084
الزهد المشروع | مرابط
مقالات

الزهد المشروع


سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عن رجل تفقه وعلم ما أمر الله به وما نهى عنه ثم تزهد وترك الدنيا والمال والأهل والأولاد خائفا من كسب الحرام والشبهات وبعث الآخرة وطلب رضا الله ورسوله وساح في أرض الله والبلدان فهل يجوز له أن يقطع الرحم ويسيح كما ذكر أم لا؟

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
343
الضباب العقلي | مرابط
ثقافة

الضباب العقلي


إن قضاء الكثير من الوقت أمام شاشة التلفزيون يصيب العقل بنوع من الخمول فالشخص الذي يكثر من مشاهدة التلفزيون تجده ثقيلا بطيء الحركة ويميل بشدة إلى أحلام اليقظة ويتعب من إعماله لعقله وسرعان ما يفقد التركيز

بقلم: محمد علي فرح
605