شبهة: هل نستجيب للنص أم لأقوال الفقهاء؟

شبهة: هل نستجيب للنص أم لأقوال الفقهاء؟ | مرابط

الكاتب: كريم حلمي

357 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد ..


• فمن قواعد الأصول المشهورة أنه (لا حاكم إلا الله)، [‌إِنِ ‌الْحُكْمُ ‌إِلَّا لِلَّهِ]، لا للفقهاء ولا للمحدثين ولا لغيرهم، والأصل في المسلم ألا يخضع إلا لله سبحانه، و(الأصل) في الحجة كلام الله لا كلام البشر، و(الأصل) في التحاكم أن يكون إلى كتاب الله سبحانه لا إلى كتب مصنّفة في فن معين، سميّناه فقهًا أو لا.


• لكن المؤمن الخاضع لله وكتابه يجده يقول سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ ‌وَأَطِيعُوا ‌الرَّسُولَ"، ويقول سبحانه: "فَإِنْ ‌تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"، ويقول سبحانه: "‌فَلْيَحْذَرِ ‌الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، ويقول سبحانه: "‌فَلَا ‌وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"، فيعلم المؤمن بذلك وبغيره من البراهين الشرعية والعقلية أنه يلزمه الخضوع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يلزمه التحاكم إليها والتفتيش عن حكمها في أفعاله وأقواله.


• لكن المؤمن الخاضع لله وكتابه يجد نفسه لا يعرف كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حق المعرفة، ويجد الله سبحانه يقول ..، هو بنفسه الذي يقول: "‌فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، ويقول: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ‌لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"، فأخبر سبحانه أن الدين يحتاج إلى تفقّه فيه ودراسة، لا مجرد نقل للنصوص، ويحتاج إلى تفرّغ لأجل ذلك، وأنّ وظيفة من انشغل بذلك أن يُنذر من انشغل عنه بغيره، ووظيفة من انشغل عنه بغيره أن يخضع لنذارة من انشغل بذلك عن غيره.


• الفقهاء ليسوا معصومين، ولا يلزم أن يصيب كل واحد منهم الحق، بل لا يلزم أن يصيبه أكثرهم، وإن كان لا يخرج عن مجموعهم، لكن المسلم غير المتفقه في الدين إذا اتبعهم فقد استجاب لأمر الله له وأبرأ ذمته وإن أخطأوا، أما من اتبع هواه واستحسن رأيه من غير تفقّه في الدين أو سؤال من انشغل بذلك فقد خالف أمر الله وإن أصاب الحق في نفس الأمر،  وعرّض نفسه بذلك للإثم والعقوبة.


• ومع ذلك، فالتفقه في الدين ليس شيئًا كهنوتيًا، وليس محظورًا على رجل أو امرأة، فمن أراد أن يأخذ من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أي واسطة فله ذلك، إن قدر أن يفعله بحقه، لكن مثلًا: ...


* الذي لا يفهم كتاب الله، ولا يستطيع أن يفسّر حتى غريب ألفاظه = كيف يُدرك ما الذي قاله الله في هذه المسألة أو تلك؟!
* والذي يرجع في فهم كتاب الله إلى كتب التفسير فقد رجع إلى أقوال العلماء وتقليدهم .. فما الذي فعله إذن؟!
* فإن رجع في تفسير الألفاظ إلى المعاجم مثلًا فقد رجع إلى آراء الرجال كذلك! .. فالمعاجم لم تنزل من السماء!
* وإن رجع في فهم الغريب إلى قصائد الجاهليين ونحوها (إن سلّمنا استطاعة ذلك) فكيف يميز بين الثابت المنقول والضعيف المنحول؟! .. فإن رجع إلى قول النقّاد فقد رجع إلى أقوال الرجال واتباعهم!


* ثم لا يمكن فهم نص من غير معرفة سياقه، فلابد من معرفة أسباب النزول، فإن رجع فيها إلى الكتب فقد رجع إلى آراء الرجال، وإن استقرأ الآثار المنقولة واستخرج آثار أسباب النزول ونظر في أسانيدها .. فإن رجع في التصحيح والتضعيف إلى الكتب المصنفة في ذلك فقد رجع إلى آراء الرجال! .. وإن درسها هو لكن رجع في الجرح والتعديل وأسباب العلل لكتب الرجال والطبقات والتاريخ والوفيات وغيرها فقد رجع إلى آراء الرجال!
* وقبل ذلك كله يحتاج إلى التفرقة بين القراءات المتواترة والشاذة ليعرف حدود كتاب الله أصلًا، فإن رجع في ذلك إلى غيره فقد رجع إلى آراء الرجال وإجماعهم في مواطن واختلافهم في أخرى، وإلا يجمع هو أسانيد القراءات المختلفة وينظر فيها وفي تواترها وموافقتها للغة والمصاحف العثمانية من غير رجوع في شيء من ذلك لحكم من أحكام الرجال، إجماعي أو خلافي!
* ... إلى آخر هذه الأوجه والاحتمالات التي لا تكاد تُحصى.


• الذي يُفتي ويتكلم في مسألة من دين الله سبحانه لأنه (حفظها هكذا)، أو لأنه (لا يعرف غير ذلك) فالأصل أنه آثم مجرم فاعلٌ لكبيرة من الكبائر، ولا يجوز أن يتكلم في دين الله سوى فقيه، يعلم لماذا يقول بما يقول، ولماذا لا يقول بما لا يقول، أما من (حفظها هكذا) فكلامه في دين الله إذا لم يوجد فقيه كأكل الميتة للمضطر، لأن نقل الجاهل قول عالمٍ ما إلى جاهل آخر خير من عمل الجاهل بهواه واستحسان رأيه.


• لأجل ما بدأنا به الكلام، وأنه (لا حاكم إلا الله) = لا يجوز لأي إنسان أن يستحسن في الشرع ويستقبح بميول نفسه وأوهام عقله، ولا أن يخترع بهواه صورة للرحمة أو العدل أو الحكمة يوجبها على الله سبحانه، ولا يكاد يوجد قانون جنائي أو إداري أو غيرهما إلا يراه أقوام ما في أحوال ما - على الأقل - ظلمًا وقهرًا وزورًا، بحسب الهوى والمصلحة الشخصية، وكم من مستبشع لحكم الإعدام صار يستقله لما اغتصب إنسان ابنته وعذبها وقتلها، وأشباه هذا كثير، لكن الإنسان لا يريد أن يكون هواه تبعًا للحق، بل يريد أن يكون الحق تبعًا لهواه، بل تبعًا لأهوائه من حين لآخر بحسب اختلاف الأحوال، وصدق الله سبحانه: [بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ . وَلَوِ ‌اتَّبَعَ ‌الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ]!


ختامًا: هذا بيان وتذكرة، ولن ينتفع صاحب الهوى من ذلك بشيء، إذ هو لا يريد كتاب الله أو غير كتاب الله، سوى ما أُشرب من هواه، فهو إلهه الذي يعبده، [‌أَفَرَأَيْتَ ‌مَنِ ‌اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ]، فهذا إن لم يجد الحكم منصوصًا في القرآن قال: لا أتحاكم إلا إلى كتاب الله، فإن وجده منصوصًا فيه قال: هذا إنما روعي فيه زمن الصحابة ولكل زمان أحكامه فلا يلزم أهل زماننا ذلك، وقد يحيل في ذلك إلى أحد دجاجلة المفكرين، فالمشكلة ليست إذن في استفتاء الرجال والشيوخ، المهم أن يكون مستنيرًا! .. وما ضابط المستنير؟! .. الذي يقنن الأهواء ويُلبس الشريعة الليبرالية العلمانية ثوب الشريعة الإسلامية!


[‌يُخَادِعُونَ ‌اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ]


صدق الله! .. ما تخلّفوا عن حرفٍ من ذلك الوصف .. [‌قَدْ ‌نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ]

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أصول-الدين #الفقهاء
اقرأ أيضا
مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن ج3 | مرابط
مناقشات

مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن ج3


تعتبر مقالات محمد الخضر حسين من أهم ما قدم في الرد على كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي وهذه المقالات تفند جميع مزاعمه وترد عليها وتبين الخطأ أو ربما الأخطاء والمغالطات التي انطوت عليها نظريته التي قدمها فيما يخص الشعر الجاهلي وكيف أن هذه الأخطاء تفضي إلى ما بعدها وبين يديكم أحد أهم مقالاته في الرد على كتاب طه حسين حول موضوع الحياة الجاهلية وهل نلتمس ملامحها من القرآن أم من الشعر

بقلم: محمد الخضر حسين
752
ذكر الربا وآكله في السنة | مرابط
تفريغات

ذكر الربا وآكله في السنة


الربا من السبع الموبقات ودليل ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين والحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتنبوا السبع الموبقات قيل: وما هي يا رسول الله؟! قال: الشرك بالله والسحر

بقلم: سعيد بن مسفر
323
علاقة علم النحو بعلوم الشريعة | مرابط
لسانيات

علاقة علم النحو بعلوم الشريعة


ولو سقط علم النحو لسقط فهم القرآن وفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولو سقط لسقط الإسلام فمن طلب النحو واللغة على نية إقامة الشريعة بذلك وليفهم بهما كلام الله تعالى وكلام نبيه وليفهمه غيره فهذا له أجر عظيم ومرتبة عالية لا يجب التقصير عنها لأحد.

بقلم: ابن حزم
225
نماذج التسليم للأمر الشرعي | مرابط
تعزيز اليقين

نماذج التسليم للأمر الشرعي


التسليم للأمر الشرعي من أعلى مقامات العبودية فلا يستقيم إسلام المسلم إلا على جسر الاستسلام لله والتسليم لأمره ولا يتوقف ذلك على معرفة الحكمة من الأمر والنهي ونذكر هنا مجموعة من النماذج والمشاهدات والأحداث التي ظهر فيها مقام التسليم بصورة ناصعة تشف عما يعتمل في قلوب الرعيل الأول من الإيمان واليقين والإذعان لرب العالمين

بقلم: محمود خطاب
2181
فصل في خدمة المرأة لزوجها | مرابط
مقالات

فصل في خدمة المرأة لزوجها


وأما ترفيه المرأة وخدمة الزوج وكنسه وطحنه وعجنه وغسيله وفرشه وقيامه بخدمة البيت فمن المنكر والله تعالى يقول: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف. وقال تعالى: الرجال قوامون على النساء. وإذا لم تخدمه المرأة بل يكون هو الخادم لها فهي القوامة عليه.

بقلم: ابن القيم
409
الوقاية بالغض من البصر | مرابط
تفريغات

الوقاية بالغض من البصر


إن الشارع قد منع إتيان أماكن الفساد والمحرمات بالإضافة إلى ذلك وأمر بغض البصر عند دخول الأسواق وغيرها من المجامع التي فيها مظنة النظر إلى ما حرم الله أو شيء من انكشاف العورات. ونحن اليوم ما أحوجنا إلى غض البصر أمام هذا الكم الهائل من الأجساد التي تعرت عما أوجب الله ستره والتي كشفت بقصير أو ضيق أو شفاف أو برقع فاتن أو نقاب واسع أو عيون قد غشاها الكحل ونحو ذلك من وسائل الفتنة!

بقلم: محمد صالح المنجد
291