شبهة: هل نستجيب للنص أم لأقوال الفقهاء؟

شبهة: هل نستجيب للنص أم لأقوال الفقهاء؟ | مرابط

الكاتب: كريم حلمي

406 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد ..


• فمن قواعد الأصول المشهورة أنه (لا حاكم إلا الله)، [‌إِنِ ‌الْحُكْمُ ‌إِلَّا لِلَّهِ]، لا للفقهاء ولا للمحدثين ولا لغيرهم، والأصل في المسلم ألا يخضع إلا لله سبحانه، و(الأصل) في الحجة كلام الله لا كلام البشر، و(الأصل) في التحاكم أن يكون إلى كتاب الله سبحانه لا إلى كتب مصنّفة في فن معين، سميّناه فقهًا أو لا.


• لكن المؤمن الخاضع لله وكتابه يجده يقول سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ ‌وَأَطِيعُوا ‌الرَّسُولَ"، ويقول سبحانه: "فَإِنْ ‌تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"، ويقول سبحانه: "‌فَلْيَحْذَرِ ‌الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، ويقول سبحانه: "‌فَلَا ‌وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"، فيعلم المؤمن بذلك وبغيره من البراهين الشرعية والعقلية أنه يلزمه الخضوع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يلزمه التحاكم إليها والتفتيش عن حكمها في أفعاله وأقواله.


• لكن المؤمن الخاضع لله وكتابه يجد نفسه لا يعرف كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حق المعرفة، ويجد الله سبحانه يقول ..، هو بنفسه الذي يقول: "‌فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، ويقول: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ‌لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"، فأخبر سبحانه أن الدين يحتاج إلى تفقّه فيه ودراسة، لا مجرد نقل للنصوص، ويحتاج إلى تفرّغ لأجل ذلك، وأنّ وظيفة من انشغل بذلك أن يُنذر من انشغل عنه بغيره، ووظيفة من انشغل عنه بغيره أن يخضع لنذارة من انشغل بذلك عن غيره.


• الفقهاء ليسوا معصومين، ولا يلزم أن يصيب كل واحد منهم الحق، بل لا يلزم أن يصيبه أكثرهم، وإن كان لا يخرج عن مجموعهم، لكن المسلم غير المتفقه في الدين إذا اتبعهم فقد استجاب لأمر الله له وأبرأ ذمته وإن أخطأوا، أما من اتبع هواه واستحسن رأيه من غير تفقّه في الدين أو سؤال من انشغل بذلك فقد خالف أمر الله وإن أصاب الحق في نفس الأمر،  وعرّض نفسه بذلك للإثم والعقوبة.


• ومع ذلك، فالتفقه في الدين ليس شيئًا كهنوتيًا، وليس محظورًا على رجل أو امرأة، فمن أراد أن يأخذ من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أي واسطة فله ذلك، إن قدر أن يفعله بحقه، لكن مثلًا: ...


* الذي لا يفهم كتاب الله، ولا يستطيع أن يفسّر حتى غريب ألفاظه = كيف يُدرك ما الذي قاله الله في هذه المسألة أو تلك؟!
* والذي يرجع في فهم كتاب الله إلى كتب التفسير فقد رجع إلى أقوال العلماء وتقليدهم .. فما الذي فعله إذن؟!
* فإن رجع في تفسير الألفاظ إلى المعاجم مثلًا فقد رجع إلى آراء الرجال كذلك! .. فالمعاجم لم تنزل من السماء!
* وإن رجع في فهم الغريب إلى قصائد الجاهليين ونحوها (إن سلّمنا استطاعة ذلك) فكيف يميز بين الثابت المنقول والضعيف المنحول؟! .. فإن رجع إلى قول النقّاد فقد رجع إلى أقوال الرجال واتباعهم!


* ثم لا يمكن فهم نص من غير معرفة سياقه، فلابد من معرفة أسباب النزول، فإن رجع فيها إلى الكتب فقد رجع إلى آراء الرجال، وإن استقرأ الآثار المنقولة واستخرج آثار أسباب النزول ونظر في أسانيدها .. فإن رجع في التصحيح والتضعيف إلى الكتب المصنفة في ذلك فقد رجع إلى آراء الرجال! .. وإن درسها هو لكن رجع في الجرح والتعديل وأسباب العلل لكتب الرجال والطبقات والتاريخ والوفيات وغيرها فقد رجع إلى آراء الرجال!
* وقبل ذلك كله يحتاج إلى التفرقة بين القراءات المتواترة والشاذة ليعرف حدود كتاب الله أصلًا، فإن رجع في ذلك إلى غيره فقد رجع إلى آراء الرجال وإجماعهم في مواطن واختلافهم في أخرى، وإلا يجمع هو أسانيد القراءات المختلفة وينظر فيها وفي تواترها وموافقتها للغة والمصاحف العثمانية من غير رجوع في شيء من ذلك لحكم من أحكام الرجال، إجماعي أو خلافي!
* ... إلى آخر هذه الأوجه والاحتمالات التي لا تكاد تُحصى.


• الذي يُفتي ويتكلم في مسألة من دين الله سبحانه لأنه (حفظها هكذا)، أو لأنه (لا يعرف غير ذلك) فالأصل أنه آثم مجرم فاعلٌ لكبيرة من الكبائر، ولا يجوز أن يتكلم في دين الله سوى فقيه، يعلم لماذا يقول بما يقول، ولماذا لا يقول بما لا يقول، أما من (حفظها هكذا) فكلامه في دين الله إذا لم يوجد فقيه كأكل الميتة للمضطر، لأن نقل الجاهل قول عالمٍ ما إلى جاهل آخر خير من عمل الجاهل بهواه واستحسان رأيه.


• لأجل ما بدأنا به الكلام، وأنه (لا حاكم إلا الله) = لا يجوز لأي إنسان أن يستحسن في الشرع ويستقبح بميول نفسه وأوهام عقله، ولا أن يخترع بهواه صورة للرحمة أو العدل أو الحكمة يوجبها على الله سبحانه، ولا يكاد يوجد قانون جنائي أو إداري أو غيرهما إلا يراه أقوام ما في أحوال ما - على الأقل - ظلمًا وقهرًا وزورًا، بحسب الهوى والمصلحة الشخصية، وكم من مستبشع لحكم الإعدام صار يستقله لما اغتصب إنسان ابنته وعذبها وقتلها، وأشباه هذا كثير، لكن الإنسان لا يريد أن يكون هواه تبعًا للحق، بل يريد أن يكون الحق تبعًا لهواه، بل تبعًا لأهوائه من حين لآخر بحسب اختلاف الأحوال، وصدق الله سبحانه: [بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ . وَلَوِ ‌اتَّبَعَ ‌الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ]!


ختامًا: هذا بيان وتذكرة، ولن ينتفع صاحب الهوى من ذلك بشيء، إذ هو لا يريد كتاب الله أو غير كتاب الله، سوى ما أُشرب من هواه، فهو إلهه الذي يعبده، [‌أَفَرَأَيْتَ ‌مَنِ ‌اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ]، فهذا إن لم يجد الحكم منصوصًا في القرآن قال: لا أتحاكم إلا إلى كتاب الله، فإن وجده منصوصًا فيه قال: هذا إنما روعي فيه زمن الصحابة ولكل زمان أحكامه فلا يلزم أهل زماننا ذلك، وقد يحيل في ذلك إلى أحد دجاجلة المفكرين، فالمشكلة ليست إذن في استفتاء الرجال والشيوخ، المهم أن يكون مستنيرًا! .. وما ضابط المستنير؟! .. الذي يقنن الأهواء ويُلبس الشريعة الليبرالية العلمانية ثوب الشريعة الإسلامية!


[‌يُخَادِعُونَ ‌اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ]


صدق الله! .. ما تخلّفوا عن حرفٍ من ذلك الوصف .. [‌قَدْ ‌نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ]

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أصول-الدين #الفقهاء
اقرأ أيضا
خلاصة في المجاز | مرابط
فكر مقالات لسانيات

خلاصة في المجاز


مسألة المجاز في العربية والقرآن مسألة تشعب الخلاف فيها وقد جرت مباحثتها مع بعض الأفاضل وفي هذا المقال يعرض لنا الكاتب إبراهيم السكران رؤيته الخاصة في هذا الموضوع ويقف على بعض جوانب الاختلاف بين العلماء بين المؤيدين أو المانعين للمجاز

بقلم: إبراهيم السكران
1753
الرد على المنكرين للإسراء والمعراج | مرابط
أباطيل وشبهات

الرد على المنكرين للإسراء والمعراج


في رحلة الإسراء والمعراج أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الآيات الكبرى توطئة للهجرة ولأعظم مواجهة على مدى التاريخ للكفر والضلال والفسوق والآيات التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة منها: الذهاب إلى بيت المقدس والعروج إلى السماء ورؤية الأنبياء والمرسلين والملائكة والسماوات والجنة والنار ونماذج من النعيم والعذاب إلخ

بقلم: علي محمد الصلابي
461
لماذا لا يثق الليبراليون بالليبراليات: الجزء الثالث | مرابط
فكر مقالات الليبرالية

لماذا لا يثق الليبراليون بالليبراليات: الجزء الثالث


يستطيع الليبرالي أن يعيش ازدواجية عنيفة بين شخصيته التي يظهر بها أمام أضواء الإعلام وفي سطور مؤلفاته أو مقالاته وشخصيته الحقيقية التي تظهر عندما تنطفئ هذه الأضواء وعندما يعم الظلام ويجف مداد القلم هنا تظهر هذه الازدواجية لترى الانحلال الأخلاقي والنظرة الشهوانية الجنسية للمرأة التي تقبع داخله بينما ينادي ليل نهار بحرية المرأة والتعامل معها على أنها إنسان له حقوق وكرامة قبل كل شيء وفي هذا المقال سترى الكثير من الشهادات بألسنة الليبراليين أنفسهم لتدرك وهم الليبرالية

بقلم: إبراهيم السكران
2648
الدعاء والشكر | مرابط
تعزيز اليقين

الدعاء والشكر


من متع الحياة الدنيا: أن تكون عبدا مكروبا بكرب دنيوي أو محتاجا لشيء من لعاعة الدنيا فتلح بالدعاء والطلب من الله. ربنا العظيم الكبير الجليل المالك ذي الجلال والجبروت والملكوت.. فتدعوه مع التذلل له ويرزقك الخضوع والانصياع التام والفقر التام ولو بعد حين من الدعاء.

بقلم: خالد بهاء الدين
434
هل الفكر الإسلامي يتقدم أم يتأخر؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

هل الفكر الإسلامي يتقدم أم يتأخر؟


وقد اختلفت الأنظار في الجواب على سؤال: هل الفكر الإسلامي يتقدم أم يتأخر؟ وطرحت في الجواب عليه أطاريح متعددة فمنهم من يقرر بأنه يتأخر وأصحاب هذه الأطروحة اختلفوا في تحديد وجه التقدم وزمنه ورموزه ومنهم من يقرر بأنه يتقدم ويتصاعد وأصحاب هذا الطرح اختلفوا في عدد من تفاصيله

بقلم: سلطان العميري
437
الهروب عن النص إليه | مرابط
فكر مقالات

الهروب عن النص إليه


إن أردت الظفر بالمعنى والحجة الأكثر حضورا لدى خصوم النص الشرعي في كافة قضاياهم التي يصادمون بها النصوص والأحكام الشرعية فهي - بجدارة - الحجة والبيان القائل: هي مخالفة لفهم معين للنص الشرعي وليست مخالفة لذات النص الشرعي وقد تصاغ بأشكال فنية مختلفة لكن مفعولها إنما يتحرك حين يستشعر أن ثمة تخطيا أو تعديا لنص شرعي ما

بقلم: فهد بن صالح العجلان
780