لا تكن حبشرطيا

لا تكن حبشرطيا | مرابط

الكاتب: د إياد قنيبي

1651 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

الطائفة الحبشرطية

ما رأيك في الطائفة التالية:
 إنها طائفة من أبناء المسلمين اسمها (الطائفة الحبشرطية)..
 
ماذا تقول هذه الطائفة عن الله -عز وجل- في قاموسها؟
تقول

"الله -سبحانه وتعالى- هو الذي فرض علينا الوجود في هذه الحياة الدنيا، وفرض علينا واجبات، منعنا من محرمات، وبيده إسعادنا أو إشقاؤنا، ولكن نفوسنا تستثقل بعض الواجبات وتهوى بعض المحرمات، لذا فإن علينا أن نتعامل مع الله بموازنة، بحيث نفعل من الواجبات المقدار الذي يضمن استمرار نعم الله علينا مع أقل قدر من الثقل في نفوسنا، ونفعل -أيضًا- من المحرمات بالمقدار الذي يحقق رغباتنا لكن دون تعريضنا لقطع نِعم الله أو نزول عقابه"

 

تُرى، هل تعريف الطائفة الحبشرطية لعلاقة الإنسان بربه تعريف سليم؟
هل هكذا ينبغي أن يُسلم نفسه وعاطفته لله رب العالمين؟ هل عرفتم من هي الطائفة الحبشرطية؟
إنها في الواقع كثير من جموع العالم الإسلامي، لا يقولون ذلك بألسنتهم، لكن لسان الحال أبلغ من لسان المقال!
 
بل لعلك -وأنت تقرأ هذه الكلمات- ستجد نفسك منتسبًا ضمنيًا إلى هذه الطائفة!
 

النفسية الحبشرطية

إن هناك صفات في نفوسنا تبدو خطورتها عندما نشخصها ونعبر عنها بعبارات لا مجاملة ولا مداهنة فيها.. قد نستنكرها ونستغربها لكن الحقيقة المرة أنها موجودة في نفوسنا وبدرجات متباينة. لذا، دعونا نتعمق في تحليل النفسية الحبشرطية؛ لنرى إن كانت مختبئة في ثنايانا، ولأية درجة؟
 
إن الحبشرطي يتذاكى ويجري التجارب في تعامله مع ربه سبحانه وتعالى! ويحاول أن يصل إلى "نقطة الموازنة" التي يشبع فيها رغباته دون أن تُقطع عنه النعم الدنيوية.
 
إذا ضم إلى حياته وأدخل في "مُكتسباته" معصية وأمرًا مما حرم الله، فإنه يترقب: فإن استمرت نعم الله ولم ينزل العقاب فإنه يستنتج أنه ما زال ضمن الموازنة، ويعتبر هذا المحرم أحد المكتسبات! أشبع رغبته دون قطع النعمة.
 

يريد عودة النعم

وأما إذا أدت هذه المعصية إلى قطع نعمة من النعم أو نزول عقاب، فإنه يستنتج أنه قد تجاوز نقطة الموازنة، فيعود أدراجه ليتخلص من المحرم، ويعلن حالة الاستنفار القصوى: دعاء، بكاء، تضرع، اجتهاد، طاعات.. لماذا؟

لأنه يريد عودة النعم ودفع النقم..
 
"وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ" .. إذن: دعانا لجنبه أو قاعدًا أو قائمًا.. دعاء من يريد عودة النعم "وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ".. ذو دعاء عريض.. دعاء من يريد عودة النعم.
 
والمصيبة أن نفسية الحبشرطي "تتبرمج" مع مرور الزمن على هذه الموازنة، بحيث يستقر في حسه أن النعم التي هو فيها من حقه وأنه أهل لها "وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي" .. يعني أنا أستحق هذه الرحمة، أستحق هذه النعم.
 

الحب المشروط

وفقًا لهذه الموازنة، فإن الحبشرطي يحب الله تعالى طالما أنه يمكن استمرار نعمه ودفع نقمه -في نظره- بهذه الموازنة، والمد والجزر، لذلك سميناه (الحبشرطي)، أي: أنه يحب الله -عز وجل- حبًا مشروطًا، مشروطًا باستمرار النعم، مشروطًا باستمرار المصالح الدنيوية خاصة؛ فإن نفسية الحبشرطي قلما تتذكر الآخرة!
 
تصور معي الآن ماذا يحصل إن أذنب الحبشرطي ذنبًا فابتلاه الله تعالى بما يكره، فتخلص الحبشرطي من هذا الذنب كالعادة وأعلن حالة الاستنفار القصوى: تضرع، دعاء، استغار، طاعات.. لكن الله عز وجل شاء أن يستمر البلاء ويشتد!
 
سوف يعتمل في نفسية الحبشرطي تساؤل (لقد أديت ما علي أن أفعله، فلماذا لم يفعل الله تعالى المتوقع منه؟)
 
وفقًا لعادة الموازنة التي تكرست في نفسية الحبشرطي فإن من حقه عندما يتخلص من المعصية ويجتهد في الطاعات أن يُرفع البلاء ويعود المصروف اليومي الذي يأخذه من الله -عز وجل- فإذا حصل خلاف المتوقع فإن محبته المشروط لله -عز وجل- سوف تنهار! ولا عجب أن تنهار لأنها أسست على شفا جرف هار، وانبنت على فهم متشوه لعلاقة الإنسان بربه سبحانه وتعالى.
 
إذا على أي شيء نبني حبنا لله عز وجل حتى لا نهار هذا الحب في أية لحظة من لحظات حياتنا؟!
 
هذا ما نناقشه في المقال القادم "ابن حبك لله على أسس سليمة".
 
 
خلاصة هذه المحطة:
 

انظر في نفسك إن كنت حبشرطيًا
تشرط محبتك لله باستمرار النعم الدنيوية

 


 

المصدر:

د. إياد قنيبي، حسن الظن بالله، ص20

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إياد-قنيبي #حسن-الظن-بالله
اقرأ أيضا
الافتتان بالآخرين وصد الحق | مرابط
اقتباسات وقطوف

الافتتان بالآخرين وصد الحق


قد يكون اتباع أحدهم للباطل ليس إلا افتتانا بمن رآهم يتبعون هذا الباطل إذ يقول في نفسه: كيف لهؤلاء العظام والعقول الراجحة أن تتبع باطلا لا بد أنه الحق وأنهم رأوا من آياته ما حملهم على اتباعه إذن أتبعه مثلهم حتى لو بدى لي خلاف ذلك

بقلم: الشاطبي
1883
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج1 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج1


من الكلمات الجميلة جدا يقول صلى الله عليه وسلم: وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع يعني: عندما تأتي لطلب العلم تقابلك الملائكة في الطريق -وأنت لا تراها لكن هي تراك- فتضع أجنحتها لك تواضعا لك وتعظيما لك وتكريما وتبجيلا لك تقف لك الملائكة في الطريق هكذا لأنك تذهب إلى مجلس علم تلتمس علما انظر إلى عظم الأمر تغيرات كونية هائلة تنزل الملائكة وتضع أجنحتها لا تحرسك فقط بل تتواضع لك وتبجلك وتعظمك

بقلم: د راغب السرجاني
353
المجتمعات الاستهلاكية | مرابط
اقتباسات وقطوف

المجتمعات الاستهلاكية


مقتطف من كتاب العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة للدكتور عبد الوهاب المسيري يتحدث عن طبيعة المجتمعات الاستهلاكية وكيف تسود فيها المؤسسات الرأسمالية بل هي التي تهيمن على كل شيء وتصل بالإنسان في النهاية إلى حالة يصبح فيها أحادي البعد بشكل كامل

بقلم: عبد الوهاب المسيري
299
الاجتماع بالأصحاب | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاجتماع بالأصحاب


وبالجملة فالاجتماع والخلطة لقاح إما للنفس الأمارة وإما للقلب والنفس المطمئنة والنتيجة مستفادة من اللقاح فمن طاب لقاحه طابت ثمرته وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من الملك والخبيثة لقاحها من الشيطان وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين للطيبات وعكس ذلك

بقلم: ابن القيم
178
قاسم أمين وتحرير المرأة | مرابط
تفريغات المرأة

قاسم أمين وتحرير المرأة


إن قضية تحرير المرأة التي تولى كبرها قاسم أمين قضية لها شأن وتستحق أن نقف عندها بعض الوقت لما قرأت مذكرات قاسم أمين ومذكرات سعد زغلول لأن سعد زغلول هو الذي شجع قاسم أمين وقاسم أمين شاب يشع الذكاء من عينيه ذهب إلى فرنسا وأعداؤنا يصطادون المواهب من أمتنا ولا يتصرفون بطريقة تلقائية أو عشوائية كما يظن السذج يعني: مثلا: مسألة الدجاج المذبوح أو المقتول جاء بعض الناس وقال: إنهم يقتلون الدجاج ولا يذبحونها لماذا قال: لأن نسبة من الدم يتجمد في العروق فمع ملايين الدجاج المقتول وتجمد الدم فيها يزداد ال

بقلم: أبو إسحق الحويني
357
ثغر اللسان | مرابط
مقالات

ثغر اللسان


واعلموا أن أكبر أعوانكم على لزوم هذه الثغور مصالحة النفس الأمارة فأعيوها واستعينوا بها وأمدوها واستمدوا منها وكونوا معها على حرب النفس المطمئنة فاجتهدوا في كسرها وإبطال قواها ولا سبيل إلى ذلك إلا بقطع موادها عنها فإذا انقطعت موادها وقويت مواد النفس الأمارة وانطاعت لكم أعوانها فاستنزلوا القلب من حصنه واعزلوه عن مملكته وولوا مكانه النفس الأمارة فإنها لا تأمر إلا بما تهوونه وتحبونه ولا تجيئكم بما تكرهونه ألبتة

بقلم: ابن القيم
463