المجتمع المشهدي والاستهلاك

المجتمع المشهدي والاستهلاك | مرابط

الكاتب: محمد علي فرح

891 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن كل تطور حدث في شكل المجتمع المعاصر مرتبط إلى حد بعيد جدا بما قبله، وتستطيع القول: إن كل أطروحة خاصة بنقد المجتمع -غالبا- مكملة لما قبلها من أطروحات؛ لذلك علينا الرجوع إلى ما ناقشه «أدورنو» واماركوزه: أن كل ما يرتبط بعلاقة الإنسان بنفسه وبما حوله قامت المنظومة بتشيئه.

 

وبتحويل العلاقات الإنسانية إلى أشياء، فأصبح من الممكن للمنظومة عرض هذه الأشياء كسلع، وهذا ما أدى بدوره إلى زيادة معدل الاستهلاك لهذه السلع، لا من أجل ما تحويه هذه السلع من منافع، بل من أجل الاستعراض بغية إثبات الوجود، والحصول على الاهتمام المرجو من المجتمع.

 

فما قامت به المنظومة هو عرض السلع بصورة تكون أشد ارتباطا بعلاقات الأفراد ببعضهم، أكثر من ارتباطها بالنفع المتحقق من السلع، لا لشيء إلا لفرض هيمنة السلعة بمفهومها  "الفتشي" على الإنسان، فلا يستطيع أن يتصور علاقته بمن حوله إلا من خلال ما يملكه، فيتحوّل الأمر من امتلاك الإنسان للشيء إلى امتلاك الشيء للإنسان.

 

فبالفعل أصبح مالك السيارة مملوكا لها، وصاحب البدلة الفخمة مملوكا لها، وصاحب الشقة في الحي الراقي، والهاتف المتطور..، إلخ مملوكا لأشيائه لا مالكا لها؛ لأنه -وببساطة شديدة- لن يكون لوجوده معنى بغير وجود أشيائه.

 

وكما رأينا أن السلع تطورت لتسيطر على كل ما في الحياة، فالفكر والثقافة والموسيقى والرياضة، وحتى الواعظين الدينيين، تحولوا إلى أشياء يتم عرضها كالسلع تماما، تستطيع أن تقوم باستإجارها، أو حتى أن تتملكها، وتقوم بتزيينها وبيعها، وهذا لا يخفى، فالصوت الجميل مثلا له سعر تحدده مواصفات المغني، من وسامة، وشكل للجسم، وأداء معين، والخطبة الدينية لها سعر هي الأخرى يحدده درجة تأثير الخطيب وأداؤه، ولاعب الكرة..، إلخ، حتى الصحافة تنشر أخبارها على حسب ما يرضي ذوق القراء، ﻷنه كلما زاد عددهم؛ زاد عدد الشركات المنتجة التي تقوم بدفع أموال للجريدة أو المجلة لنشر إعلاناتها، فتحوّلت الأخبار أو الأفكار المعروضة إلى شيء في شكل سلعة، بل حتى القارئ تحوّل بالنسبة للجريدة إلى شيء كُلّما زاد عدده زاد ربح الجريدة، فلا الإنسان يُشكل للجريدة عقل قارئ متأمل، ولا الخبر يشكل للقارئ عمقًا معرفيًا.

 

حتى الجغرافية تقوم الشركات السياحية بتسليعها، فهذه البلد -مصر- فيها معابد وبحار ونهر النيل ومسارح، فأما سعر مشاهدة المعبد كذا، وسعر رحلة في النيل كذا، فتبيع الشركة السياحيّة شيئًا والزائر يشتري.

 

وبما أن كل شيء في العالم قد تشيًأ؛ فإن ديبور يقول عن رؤيته للمجتمع المشهدي/الاستعراضي: إنها رؤية عن العالم قد تعرض للتشيؤ، يرى ديبور أن المجتمع الذي يقوم على الاستهلاك والاستعراض ليس وليدًا للصدفة، بل إنه مشهدي في الأساس، أو إنه التطور الذي لا بد منه لهذا المجتمع.

 

ويرى أن الارتباط بين المشهد والسلعة ارتباط عميق، فالمشهد يستعبد البشر الأحياء لصالحه، كما يستعبدهم النظام الاقتصادي، فالمشهد ما هو إلا الانعكاس الحقيقي لإنتاج الأشياء.

 


 

المصدر:

محمد علي فرح، صناعة الواقع: الإعلام وضبط المجتمع، ص180

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الاستهلاكية #التشيؤ
اقرأ أيضا
المذاهب والفرق المعاصرة: العلمانية ج1 | مرابط
تفريغات العالمانية

المذاهب والفرق المعاصرة: العلمانية ج1


فكرة العلمانية التي ظهرت أفرزت كثيرا من المذاهب وكثيرا من الأفكار بعضها صارت مشهورة ومعروفة عند الناس وبعضها صارت مغمورة وبعضها أقل من ذلك وبعضها أكثر وصارت هناك عشرات النظريات بل مئات النظريات الغربية التي انطلقت من هذا المنطلق وهو العلمانية وأنه ينبغي لك أن تبحث وأن تفكر بغض النظر عن الدين ويسمون الدين اللاهوت ويقولون: اللاهوت هو عبارة عن أشياء روحانية تؤديها في مكانها المخصوص وهو الكنيسة بالنسبة للغربيين والعلمانيون المنتسبون للإسلام يقولون: المسجد وأما بقية الحياة فلها شأن آخر

بقلم: عبد الرحيم السلمي
828
من الأمور التي أحبها الله لنا | مرابط
تفريغات

من الأمور التي أحبها الله لنا


فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا يرضى الله لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تنصحوا لولاة أموركم ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال

بقلم: عمر الأشقر
1303
لماذا لا يعيش الغربيون معيشة ضنكا؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

لماذا لا يعيش الغربيون معيشة ضنكا؟


يقولون: لماذا لا يعيش الغربيون معيشة ضنكا ألم يرد في القرآن الكريم قول الله ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى فأين الضنك في حياة الغربيين الذين لم يعرضوا فقط عن ذكر الله وإنما هم لم يؤمنوا أصلا بالإسلام والغرب اليوم على ما هو عليه من التقدم والتطور والسعة والرفاهية لماذا لم تتحقق فيه هذه الآية

بقلم: محمود خطاب
898
نصيحة شيخ الإسلام: لا تقصد رضا الناس | مرابط
اقتباسات وقطوف

نصيحة شيخ الإسلام: لا تقصد رضا الناس


وكنت أخبرتك أن سيدنا شيخ الإسلام تقي الدين أبا العباس أحمد بن تيمية -أيده الله وأحسن إليه- أوصاني مرة في سنة ثلاث وسبعمائة وصية بليغة حفظت منها قوله: لا تقصد رضا الناس بأقوالك ولا أفعالك: فإن رضا الناس غاية لا تدرك اليوم إن ترض الناس يشكروك وفي غد تسخطهم يذموك

بقلم: ابن الحبال البعلي
954
معنى الثقافة في التاريخ | مرابط
اقتباسات وقطوف

معنى الثقافة في التاريخ


لا يمكن لنا أن نتصور تاريخا بلا ثقافة فالشعب الذي يفقد ثقافته يفقد حتما تاريخه. والثقافة -بما تتضمنه من فكرة دينية انتظمت الملحمة الإنسانية في جميع أدوارها من لدن آدم- لا يسوغ أن تعد علما يتعلمه الإنسان بل هي محيط يحيط به وإطار يتحرك داخله

بقلم: مالك بن نبي
399
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج3 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج3


يقول الحسن البصري: اثنان لا يشبعان: طالب دنيا وطالب علم لو أفنيت عمرك كله ما حزت العلم كله ولما شبعت منه وكلما أخذت منه شيئا بقي منه شيء كثير ولن تستطيع الإحاطة به قال تعالى في الآية الكريمة: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا الإسراء:85 فدائما العلم كثير إذا: لن ينتهي العلم أبدا إلا بالموت وإذا مت وقد اجتهدت في العلم تجد الأجر والمثوبة على ما قدمت وطالب الدنيا أيضا لا يشبع والله لو عنده من الأموال كماء البحر فهو كأنه يشرب من البحر لا يرتوي أبدا طالب الدنيا

بقلم: د راغب السرجاني
665