إن كل تطور حدث في شكل المجتمع المعاصر مرتبط إلى حد بعيد جدا بما قبله، وتستطيع القول: إن كل أطروحة خاصة بنقد المجتمع -غالبا- مكملة لما قبلها من أطروحات؛ لذلك علينا الرجوع إلى ما ناقشه «أدورنو» واماركوزه: أن كل ما يرتبط بعلاقة الإنسان بنفسه وبما حوله قامت المنظومة بتشيئه.
وبتحويل العلاقات الإنسانية إلى أشياء، فأصبح من الممكن للمنظومة عرض هذه الأشياء كسلع، وهذا ما أدى بدوره إلى زيادة معدل الاستهلاك لهذه السلع، لا من أجل ما تحويه هذه السلع من منافع، بل من أجل الاستعراض بغية إثبات الوجود، والحصول على الاهتمام المرجو من المجتمع.
فما قامت به المنظومة هو عرض السلع بصورة تكون أشد ارتباطا بعلاقات الأفراد ببعضهم، أكثر من ارتباطها بالنفع المتحقق من السلع، لا لشيء إلا لفرض هيمنة السلعة بمفهومها "الفتشي" على الإنسان، فلا يستطيع أن يتصور علاقته بمن حوله إلا من خلال ما يملكه، فيتحوّل الأمر من امتلاك الإنسان للشيء إلى امتلاك الشيء للإنسان.
فبالفعل أصبح مالك السيارة مملوكا لها، وصاحب البدلة الفخمة مملوكا لها، وصاحب الشقة في الحي الراقي، والهاتف المتطور..، إلخ مملوكا لأشيائه لا مالكا لها؛ لأنه -وببساطة شديدة- لن يكون لوجوده معنى بغير وجود أشيائه.
وكما رأينا أن السلع تطورت لتسيطر على كل ما في الحياة، فالفكر والثقافة والموسيقى والرياضة، وحتى الواعظين الدينيين، تحولوا إلى أشياء يتم عرضها كالسلع تماما، تستطيع أن تقوم باستإجارها، أو حتى أن تتملكها، وتقوم بتزيينها وبيعها، وهذا لا يخفى، فالصوت الجميل مثلا له سعر تحدده مواصفات المغني، من وسامة، وشكل للجسم، وأداء معين، والخطبة الدينية لها سعر هي الأخرى يحدده درجة تأثير الخطيب وأداؤه، ولاعب الكرة..، إلخ، حتى الصحافة تنشر أخبارها على حسب ما يرضي ذوق القراء، ﻷنه كلما زاد عددهم؛ زاد عدد الشركات المنتجة التي تقوم بدفع أموال للجريدة أو المجلة لنشر إعلاناتها، فتحوّلت الأخبار أو الأفكار المعروضة إلى شيء في شكل سلعة، بل حتى القارئ تحوّل بالنسبة للجريدة إلى شيء كُلّما زاد عدده زاد ربح الجريدة، فلا الإنسان يُشكل للجريدة عقل قارئ متأمل، ولا الخبر يشكل للقارئ عمقًا معرفيًا.
حتى الجغرافية تقوم الشركات السياحية بتسليعها، فهذه البلد -مصر- فيها معابد وبحار ونهر النيل ومسارح، فأما سعر مشاهدة المعبد كذا، وسعر رحلة في النيل كذا، فتبيع الشركة السياحيّة شيئًا والزائر يشتري.
وبما أن كل شيء في العالم قد تشيًأ؛ فإن ديبور يقول عن رؤيته للمجتمع المشهدي/الاستعراضي: إنها رؤية عن العالم قد تعرض للتشيؤ، يرى ديبور أن المجتمع الذي يقوم على الاستهلاك والاستعراض ليس وليدًا للصدفة، بل إنه مشهدي في الأساس، أو إنه التطور الذي لا بد منه لهذا المجتمع.
ويرى أن الارتباط بين المشهد والسلعة ارتباط عميق، فالمشهد يستعبد البشر الأحياء لصالحه، كما يستعبدهم النظام الاقتصادي، فالمشهد ما هو إلا الانعكاس الحقيقي لإنتاج الأشياء.
المصدر:
محمد علي فرح، صناعة الواقع: الإعلام وضبط المجتمع، ص180