الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [يوسف:108] أي: أن كل من اتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو داعٍ إلى الله، وهو آمرٌ بالمعروف وناهٍ عن المنكر؛ ولهذا كان الصحابة الكرام جميعًا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأول وأعظم من كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هم أعظم أكابر الصحابة في الإيمان والتقوى، كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
سيدنا عمر رضي الله عنه
عندما تتفكر كيف كان عمر رضي الله عنه يذهب في الليل ليسمع، ويرى، ويتفقد، وإذا امرأة تقول: "كيف السبيل إلى خمر فأشربها" تغزلت في رجل بشعر وهي نائمة، ولا تظن أن أحدًا يسمعها فتقول:
ألا سبيل إلى خمر فأشربها أو كيف السبيل إلى نصر بن حجاج
فسمع عمر رضي الله تعالى عنه هذا الكلام، وفي اليوم الثاني سأل عمر: من نصر بن حجاج؟
قيل: هو رجل فيه جمال وتُعجَب به من ضُعْف إيمانها, فأمر بأن ينفى من المدينة إلى الكوفة.
سبحان الله! وأما اليوم فما يعرض في وسائل الإعلام من مثيرات الشهوات أضعاف أضعاف هذا الشعر! وذاك في عصر الإيمان والنور، ونحن في القرن الخامس عشر.
فهكذا كانوا هم أعظم القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بل كانوا يبدءون بأنفسهم.
دخل عمر رضي الله تعالى عنه يومًا إلى سوق الإبل يتفقد ويستطلع أحوال الناس، إن رأى ضعيفًا أو عاجزًا أعطاه، وإن رأى محرومًا أعطاه، وإن رأى منكرًا غيَّره، فما رأى منكرًا -والحمد لله- فبلد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهله الصحابة ليس فيهم منكر؛ لكن لفت نظره ذلك اليوم أن إبلًا أسمن من غيرها، ففكر! كيف ذلك وكل الإبل ترعى سواء من المدينة؟!
فسأل لمن هذه الإبل؟
قالوا: هذه لعبد الله بن عمر ثم جيء بعبد الله بن عمر وسأله عمر: [لِمَ يا عبد الله بن عمر هذه الإبل أسمن من غيرها؟ قال: والله يا أمير المؤمنين إن هذه الإبل اشتريتها من مالي، ورعيتها مع المسلمين، واسترعيت لها رعاةً من المسلمين، وهأنذا أريد أن أبيعها فقال عمر: لا. كان الناس يقولون: اسقِ إبل ابن أمير المؤمنين, أورد إبل ابن أمير المؤمنين؛ فلأنك ابن عمر شربت إبلك أكثر، ورعت أكثر، فكانت أسمن من غيرها، لا يا عبد الله: لك رأس مالك, والربح في بيت مال المسلمين قال: سمعًا وطاعةً يا أمير المؤمنين].
فماذا يصنع عبد الله بن عمر أو غيره مع عمر رضي الله تعالى عنه؟! انظروا إلى الحساسية، وكيف بدأ بنفسه في إنكار المنكر، والتعاون على البر والتقوى، ولهذا نصرهم الله ووفقهم.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
كان الواحد منهم يذهب إلى الجهاد، وقد يصل إلى أطراف الأندلس أو إلى السند وهو مطمئن، فلن يضيع أهله؛ لأنه لا توجد مغريات أو مثيرات تجعلهم يرتكبون الفواحش -والعياذ بالله- ولن يضيع أبناؤه فالناس في خير وإلى خير والحمد لله، وكل مسلم يستشعر ويحس بمسئوليته نحو الجميع.
ولذلك لما جاء رسول كسرى إلى المدينة متطلعًا يريد أن يرى قصور المدينة- وقد جاء من عند الإيوان -البيت الأبيض- وكأنه يسأل: أين البيت الأبيض عند عمر؟ لكن عمر لما هز الدنيا كلها ما كان ليكون له بيت أبيض في المدينة، فدخل الرسول وإذا به لم يرَ إلا بيوتًا عادية جدًا, أين أمير المؤمنين، أين عمر؟
قالوا: ابحث عنه في المسجد، فذهب ووجده وحده نائمًا في ظل الشجرة، متوسدًا حجرًا, فما صدَّق أنه عمر! أهذا عمر الذي أرهب كسرى وقيصر؟ فلماذا أوقع الله هيبته في قلوب العالمين يا معشر المؤمنين؟
إنه لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران:110].
فأولئك عملوا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكان حقًا عليه أن ينصرهم، قال تعالى: "ومن أوفى بعهده من الله" [التوبة:111] فنصرهم ورفعهم على العالمين، فوالله ما خسروا شيئًا، بل إنهم ربحوا الربح الأكبر، ولنفترض أنهم جمعوا أموال الدنيا فقد جاء بعدهم مَنْ جمعها، ولكن أين هي؟
أبو الدرداء رضي الله عنه كان يقول: [[يا أهل دمشق، يا أهل دمشق:، مالي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون... يا أهل دمشق، إنه قد بلغنا أن عادًا قد بنوا لَبنة من ذهب ولَبنة من فضة، فمن منكم يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين؟]] لن يدفعها أحد، فأين عاد؟ ذهبت وانتهت.
وكذلك الآن ونحن بعد قرون، لو عُرض على أحد أن يشتري تركة أكبر إنسان ثري في العالم اليوم وبنوكه بدرهمين، فلن يشتريها أحد لأنها ذهبت، ولكنه عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موقوف يحاسب على كل صغيرة وكبيرة